Al-Quds Al-Arabi

الانهيار الاقتصادي في لبنان يضع مدخرات المتقاعدين في مهب الريح

-

■ بيروت - أف ب:بعدما جمع ثروة من عمله لعقود في الخارج، عاد ســمير مرعي إلى بيروت قبل عقد من الزمن طامحاً بتقاعد مريح وحياة رغيدة، دون أن يضع في حســبانه أن أزمة اقتصادية ستضع جنى عمره في مهب الريح وتدفعه للهجرة مجدداً.

وفي فندق صغير في محلــة الحمرا، يتحدّث مرعي )72 عاماً( بإســهاب عن اســتثماره لأربعة عقود في مجالي البنــاء وصناعة الأزياء بــن دول الخليج وبريطانيــ­ا. لكن ملايين الدولارات التي اســتثمرها بعد عودتــه إلى لبنان في قطاع العقارات أو ادّخرها في المصارف باتت رهينة قيود مصرفية مشــددة ولم يعد بإمكانه التصرّف بها. ويقول الرجل الذي ارتدى بزة رســمية مع ربطة عنق في مقابلة جرت مــن بهو الفندق «أنا مضطر للبدء مــن جديد، من الصفر، حتى أؤمن آخرتي ». وقبل دقائق من ســفره إلى الولايــات المتحدة حيث يعيش أفراد مــن عائلته، وقرب حقائب موضبة، يوضح «ما مــن خيار آخر أمامي». ويضيف بانفعال «ليعيدوا لي أموالي فلا أغادر إلى الولايات المتحدة.. ماذا سأفعل هناك؟ لا أود أن أموت هناك.»

ويشهد لبنان منذ خريف العام 2019 شــحاً في السيولة وأزمة اقتصادية لم تبق أي شــريحة بمنأى عن تداعياتها، لأنها ترافقت مع قيود مصرفية مشــددة طالت خصوصاً عمليات الســحب بالدولار. وأســفر الانهيار المتمادي عن فقدان الليرة الشهر الحالي أكثر من تسعين في المئة من قيمتها مقابل الدولار في السوق السوداء، قبل أن تتحسّن قليلاً.

وعلى غرار عشــرات آلاف اللبنانيــ­ن الذين خرجوا إلى الشــوارع منذ 17 أكتوبر/تشرين الأول 2019، يُحمِّل مرعي الطبقة السياسية مسؤولية ما آل إليه الوضع الاقتصادي، ويتهم المســؤولي­ن بأنهم «فاســدون من رأسهم إلى أخمص قدميهم». وبمرارة شديدة يقول أنه واللبنانيي­ن وجدوا أنفسهم بين ليلة وأخرى ضحايا «أكبر عملية احتيال في التاريــخ» مضيفاً «ليلعنهم الله جميعاً من دون استثناء .»

وإذا كانت ظروف هذا الرجل الســبعيني تخوّلــه فتح صفحة جديدة في بلد آخر، فإن الغالبية الساحقة من المتقاعدين في لبنان ليس لديهم ترف إيجاد خيار بديل. ومن لم يُحتجز تعويضه في المصــرف أو فقد قيمته، رأى راتبه التقاعدي يتبــدد تدريجياً أمام عينيــه. بعد 32 عاماً قضاها في الســلك الأمني، يجد جان عساف )80 عاماً( نفســه يعيش كل يوم بيومه، بعدما انخفض راتبه التقاعدي عملياً من ما يعادل 1400 دولار إلى نحو 180 دولاراً.

ويقول في مقابلة جــرت داخل منزله المتواضع في منطقــة مار مخايل، التي حوّلها انفجار المرفأ المجــاور الصيف الماضي إلى منطقة منكوبة «كنت أتمنى بعد هذا العمــر أن أتمكن من أن أعيش حياة كريمة». ويقلّب ألبوم صور قديمة، يظهر في إحداها مرتدياً الزي الرسمي لقوى الأمن الداخلي.

وفــي خضمّ الأزمة التي أدت إلى ارتفاع جنوني في الأســعار وتدهور القدرة الشرائية، يحاول اليوم تدبّر أموره وتوفير احتياجاته وزوجته. ويوضح «وفق مدخولي سأعيش».

وفيما يكافح أولاده الخمســة لتأمين قوت عائلاتهــم، يقول «اتكالي على الله حتى نرى كيف ستمرّ هذه السنوات المتبقية لنا».

وعلى غرار عسّــاف، تضرّر أكثر من 108 آلاف موظف متقاعد من القطاع العام جراء الانهيار الاقتصادي وتدهور الليرة. وحســب بيانــات وزارة المالية، يبلغ المعدل الوسطي للراتب التقاعدي 2.2 مليون ليرة، أي ما يعادل نحو 170 دولاراً وفق سعر الصرف في السوق السوداء.

وبات عدد كبير من الســكان يعتمدون على مساعدات تقدّمها منظمات دولية وجمعيات محلية، بينها جمعية «غراسروتس» التي تستقبل في خيمة تابعة لها في منطقة مار مخايل العشرات يومياً.

ومن بين هؤلاء أديــب )69 عاماً( وهو متقاعد من قــوى الأمن الداخلي، بات راتبــه بالكاد يعادل مئــة دولار، بينما أحد أبنيه مهندس عاطــل عن العمل منذ عامين. ويقول الرجل بحسرة «كنت من الطبقة الوسطى وأصبحت اليوم ما دون الطبقة الفقيرة». وساهمت الأزمة في رفع نسبة من يعيشون تحت خط الفقر إلى أكثر من 55 في المئة، وهو ما أدى وفق محللين إلى اضمحلال الطبقة الوسطى.

وبدأت الجمعية إثــر انفجار المرفأ الذي أودى بحياة أكثر من مئتي شــخص وشرّد عشــرات الآلاف من منازلهم المتضررة، تقديم المساعدات من ثياب ومواد غذائية ووجبة حســاء يومياً. لكن من يطلبون المســاعدة اليوم ليسوا فقط من متضــرري الانفجــار. وتوضح مديرة الجمعية ميســا منصــور أن «المتقاعدين خصوصاً» هم من أتوا بحثاً عن مساعدة خلال الأشهر القليلة الماضية.

وبينمــا يتوقّف عابرون أمــام الخيمة مترددين في الدخــول، تقول منصور «يشعرون بالخجل، فهم أناس لم يطلبوا في حياتهم صدقة من أحد».

في منطقة قريطم الراقية في بيروت، تعيش ســارة )68 عاماً( مع زوجها فؤاد عمار )76 عاماً( وهما مدرّســان متقاعدان، انخفض إجمالي دخلهما الشهري من أكثر من ستة آلاف دولار قبل نحو عامين إلى 600 دولار حالياً.

ورغم أنهما قادران على تأمين معيشــتهما، لكن مــا عملا وخططا له طويلاً لم يتحقق. وتقول سارة «ما زال وضعنا مقبولاً مقارنة مع غيرنا، لكنه لا يشبه ابداً ما كنا نأمله في نهاية حياتنا».

ودفع الانهيار الذي لم تنجح القوى السياســية في وضع حد له، وتشــكيل حكومة منذ الصيف الماضي جراء الانقســام­ات الحــادة والمحاصصة، إثنين من أولادهما الثلاثة إلى الهجرة بحثاً عن بداية جديدة.

ولعــل أكثر ما يثير غضب فؤاد هو «أننا لم نخســر أولادنا فحســب بل أيضاً أحفادنا، بعدما وصلنا إلى عمر نريدهم قربنا وأن نلهو معهم».

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Kingdom