Al-Quds Al-Arabi

انفلات أمني: هل أضحت الخرطوم عاصمة لاتينية؟

-

مجموعــة مــن الحــوادث المؤســفة شهدتها العاصمة السودانية الخرطوم خلال الأســابيع الماضية، ما بــن مقتل طالب في الجامعة الإسلامية إثر الاعتداء عليه من قبل مجموعة متفلتة أرادت سرقة هاتفه النقال، وحادثة مشابهة وقع ضحيتها عامل فــي محطة وقــود، مروراً بحــوادث متفرقة تعــرض فيها أشــخاص للنهب والســلب والاعتداء في الشــارع، أو في داخل بيوتهم، ما جعل المواطنين يحســون، ربما لأول مرة في تاريخ السودان الحديث، بالانعدام الكامل للأمن.

بالتأكيــد فــإن حــوادث الســرقة كانــت علــى الــدوام موجــودة، لكــن الجديــد اليوم هــو ليس فقط تحــول تلك الحوادث لشــيء راتب ومشاهد يومية، وإنما للجرأة التي تتحلــى بها تلك المجموعات، التــي لا تكتفي بالخروج على القانــون، وإنمــا تتجاوز ذلــك لصناعــة قانونها الخاص وفــرض منطقها، ســواء عبر إعــان مناطق معينــة بأنها خارجــة عن ســلطة الشــرطة، أو عبر الجــرأة المفرطة في اقتحام البيوت وســلب الناس أموالهم ومقتنياتهم بشكل مسلح معلن، وليس عبر التخفي والمغامرة.

يبدو كل ذلك غريباً لمن ســبق لــه أن زار الخرطوم، فهي العاصمة التــي كانت تفتخر بكونها آمنــة وبكون الجميع ، بمــن فيهم النســاء والأطفال، يمكنهم أن يتســكعوا فيها حتــى أوقــات متأخرة، ثم يعــودوا إلى بيوتهــم، من دون أن يتعــرض لهم أحد. كانــت العاصمة الســوداني­ة، حتى وقت قريــب، محل احتفاء من الــزوار الأجانب، بمن فيهم السفراء والدبلوماس­يون، الذين كانوا يقارنونها بعواصم افريقيــة أخــرى لا يســتطيعون فيها التجــول إلا بصحبة طاقم حراســة، في ما لــم يكن من النادر رؤيــة أحد أولئك الدبلوماسـ­ـيين وهــو يمارس رياضــة المشــي، أو الجري بحرية في شوارع العاصمة.

المشــهد الحالــي الذي ينتشــر فيــه العنــف والترويع، والــذي تظهر فيه عصابــات «النقرز» البلطجية المســلحة، يبدو غريباً على الشخصية السودانية الطيبة والمسامحة. هنا يمكن لمن تجاوز عقده الرابع أو الثالث، أن يتذكر كيف أن البيــوت كانــت فــي طفولتــه مفتوحة بشــكل كامل أو مغلقة، لكن بشكل رمزي، لا يهدف بأي حال لتأمين البيت أو المدافعة ضد الأشــرار، يمكن لمن عاش تلــك الفترات أن يقارن ذلك مع الصورة الحالية، التي يبالغ فيها الناس في الحديث عن الأبواب القوية، والتأمين الشامل الذي يجعل البيوت التي كان بالإمكان لــكل عابر طريق أن يدخلها بلا اســتئذان أشــبه بقلعة حصينة. هنا يبرز ســؤال عن ذلك التحول الذي أصاب الشــارع والمجتمع الســوداني، الذي جعل الخرطوم تقترب من صــورة تلك العواصم اللاتينية التي تشتهر بالجريمة، والتي لا يستطيع فيها المرء أن يأمن على نفســه فيها نهاراً، ناهيك من فترات المســاء. السؤال الــذي يبرز هنــا هو: ما هي أســباب هذه الصــورة القاتمة الجديدة، وهل من سبيل لأن تستعيد العاصمة السودانية نقاءهــا؟ هنــاك عدة تفســيرات يضعهــا المحللــون الذين يسعون لمناقشة الأزمة الأمنية الحالية، فهناك على سبيل المثال التفســير السهل الذي يعتبر أن كل هذه الجرائم تتم برعايــة النظام الســابق وأنصــاره، الذين يريــدون إرباك المشــهد السياســي والاجتماعي، وإظهــار عجز الحكومة الانتقاليـ­ـة عن ضبط المتفلتين وحماية الناس. شــبيه بهذا التفسير أيضاً التفسير الآخر الذي يستند إلى نظرية تآمر العســكر، الذي يعتبر أن هذا المشــهد الملتبس هو من إنتاج الحليــف العســكري الذي يــود أن يحصل علــى تفويض

شعبي، من أجل إكمال سيطرته على الواقع السياسي في البلاد.

هذا التفســير يبــدو لأول وهلــة مقنعاً، ليــس فقط بعد مقارنتــه بالتحليــل المتهافــت الأول، ولكــن لأن مثــل هذا السيناريو من افتعال الأزمات الأمنية والاقتصادي­ة، حدث بالفعل في كثير من الدول التي انتهى بها الحال لســيطرة العســكريي­ن على منافذ الحكــم. إلا أن الواقع الســوداني والثنائيــ­ة الحالية فــي طريقة الحكم بــن المكونين المدني والعســكري يضعفان بشكل كبير نظرية التأمر العسكري هذه، فعســكر السودان لا يحتاجون لكل هذا الالتفاف من أجل الحصول على الســلطة بطريقة الانقلاب المكشــوفة، التــي قد تؤلب عليهم الرأي العام الداخلي والخارجي. في الواقع هم يســيطرون بالفعل على مقاليد الأمور، حتى إن حصــل بعض ممثلي المدنيين على رئاســة الطاقم الوزاري وعلى مجموعة من الوظائف الرفيعة، في هرم السلطة من أجل إضفاء الطابع المدني عليها.

لا نحتاج للتذكير بأن العســكريي­ن، إضافة لســيطرتهم علــى موارد الدولــة وترؤســهم للآلية الاقتصاديـ­ـة، التي تم ابتكارهــا مــن أجل التحكــم في الاقتصاد الســوداني، بالإضافــة إلــى ذلــك فإن لهــم الســيطرة على السياســة الخارجيــة، التي كان أبــرز أمثلتها مبادرتهــم للتطبيع مع الكيــان الصهيونــي، كمــا أن لديهــم القول الأخيــر في ما يتعلق بقضايا الحرب والســام، كما ظهر في الإشــراف علــى اتفاق ســام جوبــا، وفي ملــف النزاع مــع إثيوبيا باتخــاذ قرار حرب خاطفــة من أجل اســتعادة الأراضي، وفرض السيطرة على الحدود.

في العام الماضي تم الإفراج بشــكل مفاجئ عن الآلاف من المجرمــن، الذين لم يســتوفوا محكومياتهم، وهذا من الأســباب التي يرى البعض أنها قد تصلح لتفســير حالة الســيولة الأمنية المفاجئة فــي العاصمة، فمن المعروف أن معتادي السرقة والإجرام يكونون أكثر عرضة للعودة إلى ما يجيدونه، في حال كانت أبواب كســب العيش الأخرى مغلقــة فــي وجوههم. لا يمكــن إطلاق الاتهامــا­ت جزافاً، ولكن الأكيد أن هؤلاء صدموا بالواقع السيئ خارج أسوار الســجن، الذي يتعذر فيه الحصول علــى مورد رزق يكفي

لإعالة أسرة، ويزداد الأمر تعقيداً إذا كان طالب العمل من الخارجين حديثاً من الســجن من متوسطي التعليم، أو من الذين لا يجيدون الكثير من الحرف.

يربط البعض بــن هذا التحليل، ونظرية تآمر العســكر الســابقة، فيعتبــرون أن إطــاق الســجناء الخطرين تم، بشــكل مقصود، مــن أجل توفيــر حالة مخيفة مــن تزايد معــدلات الجريمة. هــذا أيضاً لا يبدو شــديد الدقة، فنحن نذكــر أن مبادرة إطلاق هؤلاء المحكومين، تحدث باســمها عضو مجلس ســيادي مدنــي في كلمة حــوت اعتذاراً عن ما ســمي بتأخير إطلاق الســراح بســبب الأعداد الكبيرة للمستهدفين.

بالتزامــن مع كل ذلك يظهــر متغير جديــد وهو المتمثل فــي اكتظاظ العاصمة بآلاف المقاتلــن التابعين للحركات المســلحة، التي تم الترحيب بها بعد اتفاق الســام، والتي لا يعرف أحــد الأعداد الكاملة لهم، كمــا لا يملك أحد خطة واضحة للســيطرة عليهــم أو التحكــم فيهم، عبــر الطرق المعروفــة فــي مثل هــذه الحالات مــن الدمج فــي القوات المسلحة أو التسريح. يصعب الحديث عن هذه المجموعات المســلحة التي يعتبر كثير من قادتها، تساؤلات الناس عن مصيرها ومســتقبله­ا والداعي لوجودها داخل العاصمة، أمراً عنصرياً ســرعان ما يتحــول للحديث عن أحقية أبناء تلــك الحــركات فــي الوجود فــي عاصمة بلادهــم. هناك مشكلات تبرز بلا شك متعلقة بهذه المجموعات التي انتقلت بشكل سريع من حياة الغابة، أو الصحارى للمدينة، وهي مشــكلات تتعلــق بطريقــة التعامــل واستســهال اللجوء للعنف. هــذه أمور لا علاقة لها بالعنصريــ­ة أو التنمر ضد مكونات قبلية أو اجتماعية معينة.

ربمــا يكون لكل هــذه الأســباب مع أســباب أخرى من قبيــل التغييــرا­ت القانونيــ­ة، التي قيدت تحرك الشــرطة والتنمــر الاجتماعــ­ي ضد القــوات الأمنية، عقب ســقوط البشير نصيب في الحالة الحالية، لكن السبب الأهم يبقى التدهــور الاقتصــاد­ي، وذلك الانزيــاح الكبيــر الذي نقل ملايين العائلات من الطبقة الوســطى المســتورة إلى مربع الفقر والعوز والجريمة.

المشهد الحالي للعنف والترويع، وظهور عصابات «النقرز» البلطجية المسلحة، يبدو غريباً على الشخصية السودانية الطيبة والمسامحة

كاتب سوداني

 ??  ??

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Kingdom