Al-Quds Al-Arabi

فرنسا مرضٌ جزائري

- ٭ كاتب صحافي جزائري

■ وجدَ نحو 25 جزائريا يقيمــون في بريطانيا أنفســهم في فخٍّ غريب ومفاجئ بمطار شارل ديغول في باريس. تستمر مأساة هذه المجموعة المكونة من عائلات وأطفال دون الخامســة ورجال فوق الســبعين، منذ أكثر من شهر. لكنها بدأت في الأيام الماضية تتحوّل إلى ملف سياسي مزعج.

كان من المفروض أن يســافر هؤلاء الناس من لندن إلى الجزائر عبر باريس. لكن في منتصف الطريق تغيّر شــيء ما فجأة في الجزائر استدعى منعهم إكمال رحلتهم. قالت الســلطات الجزائرية إنها قررت تعليق دخولهم بســبب تفشــي الســالة الجديــدة من فيروس كورونا المنســوبة إلــى بريطانيا والمنتشــر­ة، بالمناسبة، في كل العالم وليس بريطانيا وحدها.

طلبــت الســلطات الجزائريــ­ة، عبر شــركة الطيــران الحكوميــة والبعثة الدبلوماسـ­ـية في باريس، من مواطنيهــا العودة إلى لندن لكنهــم رفضوا، كلٌّ لظروف تخصه، فبدأ حوار طرشــان ســرعان ما انقطع. ثم أخذت القضية بُعدا إعلاميا وسياســيا وانتهى بها المطاف في محاكم باريس بعد أن تولاها محامون فرنسيون. هذه المشكلة هي نتيجة حتمية لمســار أعرج من بدايته. الخطأ الأكبر يبدأ من السياسة التي تتبعها السلطات الجزائرية والمتمثلة في إغلاق البلاد في وجه الجزائريين المقيمين في الخارج، منذ أكثر من ســنة، إلَّا وفق شروط غامضة لا يفهمها أحد. هذه الشروط الغامضة والظروف الأكثر غموضا تتطلب ألَّا يغادر الجزائريــ­ون بلادهم إلا وفــق متطلبات معينة منها الإقامة فــي الخارج أو بعقد عمل. وتتطلب ألّا يدخل الجزائريون إلى بلادهم إلا لظروف إنســانية منها وفاة أحد الأقارب من الدرجة الأولى أو المرض الشديد.

إذا كان تعليق خروج الجزائريين بغير ســبب وجيه مفهوما، لأنه يمنع تراكم العالقــن في الخارج بعد أن تحوَّلوا إلى عبء ثقيــل، فمنع الجزائريين المغتربين من الدخول إلى أرض الوطن، ضرب من اللامسؤولي­ة وانعدام الحسّ الإنساني.

في مقابل الظلم الذي يتعرض له الجزائريون المغتربون، يدخل الأجانب إلى الجزائر بكل أريحية وراحة بال من كل أنحاء العالم.

عندما يتعلق الأمر بدخول الجزائريين، وفق الشــروط الغامضة والعرجاء، اهتدت الســلطات إلى ضرورة توجيه أيّ جزائري مغترب، أينما كان، يُمنح إذنَ )تأشيرة( دخول لبلاده، إلى باريس ومنها إلى الجزائر. لماذا باريس؟ الجواب عند المسؤول صاحب هذا القرار الأخرق. حدّثني أصدقاء يقيمون في دولة خليجية أن الســلطات الجزائرية، وكشرط لمنحهم إذنَ الدخول، ألزمتهم بأن يكون ذلك عبر باريس. مع العلم أن ما لا يقل عن رحلتين تتوجهان أســبوعيا من عاصمة وجود هؤلاء الناس نحو الجزائر معبأة بمسافرين من جنسيات متعددة، خصوصا الآسيويين. ومع العلم أن الرحلة بين أي عاصمة في الخليج نحو الجزائر تســاوي زمنيا مثيلتها إلى باريس أو قد تقل بعض الشــيء. أما الرحلات الجوية بين الجزائر وفرنســا عموما، باريس على وجه الخصوص، فقصة في حد ذاتها مفتوحة زمنيا وتســتحق أن تؤلَّف حولها كتب وروايات. حتى في الظروف العادية، تتميــز الرحلات الجوية بين الجزائر وفرنسا بعدم اليقين والأصوات المرتفعة والغضب والسخط والطوابير الطويلة غير المبرَّرة. وعندما يحل فصل الصيف تبدأ قصص وكوابيس المغتربين العائدين لقضاء إجازاتهم السنوية في أرض الوطن. من النادر أن تمر رحلة أحدهم ذهابا وإيابا من دون قلق واضطرابات وخوف من ضياع الحجز أو أيّ مشــكلة مرافقة للســفر. يكفي أن يزور أحد مطار الجزائر العاصمة أو أحد مطارات باريس خلال الصيــف، بالذات في فترة الــذروة في تموز )يوليو( وآب )أغســطس( ويتأمل مكاتب تســجيل الرحلات المتجهة إلى الجزائر أو العكــس، ليدرك حجم المعاناة التي يكابدها كل المعنيين بالرحلات، مســافرون وموظفو طيران على الســواء. والحال من حاله مســتمر منذ عقود بلا انقطاع وليس وليــد وباء كورونا. ومع تفشي كورونا، وبسبب ارتباك السياسات وغياب المعلومات، اضطر الجزائريون المقيمون في باريس الراغبون في الســفر إلى بلادهم للنــوم عند مداخل المطار. وشهدت مكاتب التسجيل وصالات السفر صراخا وفوضى يُندى لها الجبين.

كيف يقرر عاقل، وســط كل المصاعب المرتبطة بالســفر بين الجزائر وفرنسا وجائحة عالمية غير مسبوقة، توجيه كل حالات عودة الجزائريين إلى باريس؟

المســؤول عن هذا القرار العبثي يجب أن يحاسَب. فعلاوة على المشاكل التي زادها علــى وضع لا يُحتمَل أصلا، قــدّم صاحب القرار بقــراره خدمة للاقتصاد الفرنسي وللمطارات الفرنسية. إذا كان كل مسافر جزائري اشترى أثناء عبوره قنينة ماء وشــطيرة فطائر فقط، علينا أن نتوقع أن رقم المداخيل لا يُستهان به. ناهيــك عن الجباية المفروضــة على حركة الطائرات والمســافر­ين وغير ذلك من الخدمــات التي تتطلبها الرحلة. فوق كل الحســابات الآنية، يكشــف القرار عن أزمة يعانيها المســؤولو­ن الجزائريون. بعد كل هذه الســنوات وكل التغييرات الاجتماعيـ­ـة والسياســي­ة والذهنية فــي الجزائر وغير الجزائــر، لا زال هؤلاء يختزلون العالم كله في فرنســا. ولا زالوا يفكرون بعقلية الستينيات من القرن الماضي عندما كانت الجاليــة الجزائرية في الخارج مرادفا لفرنســا ومصانعها السامَّة ومراقدها البائسة والموحشة.

ســيحفظ التاريخ الطريقة الفريدة التي أدارت بها السلطات الجزائرية أزمة كورونا. ســيحفظ أن هذه الطريقة البائسة أوجدت شــعبين لبلد واحد، شعب الداخل وشــعب الخارج. بدلا من الاختفاء وراء الحلول السهلة والانفراد بكونها الوحيدة التي تمنع شــعبها من زيارة وطنه، كان أحرى بهذه السلطات أن تشدد إجراءات العودة وتفرض شروطا قاسية على مَن يُصرّ على السفر قبولها وتحمّل تبعاتها وتكاليفها. يحق أيضا التســاؤل متى يتعلم المسؤولون الجزائريون أن تغييــر وضع معيّن، يتطلب مراعاة بعض الظروف الإنســاني­ة. نقرأ باســتمرار عن حكومات تقوم بتحديث شــروط الســفر منها وإليها وفــق تطور الوضعية الوبائية، لكن لم نقرأ يوما أن قرارا دخل حيز التنفيذ لحظة صدوره والناس بين مطارين. هناك دائما هامش من يومين أو ثلاثة يتيح للناس ترتيب أوضاعهم وفقا للمتغيرات الجديدة.

في انتظار صدور حكم قضائي في وقت متأخر من يوم أمس الإثنين، تتواصل مأســاة العالقين في مطار شــارل ديغــول، رغم أن الحلول موجــودة بقليل من الليونة والسمو فوق العناد، خصوصا أنهم أثبتوا خلوهم من الفيروس. وبينما هم جياعٌ محطمون على كراسي صالة الترانزيت، يمر قربهم جزائريون من طينة أخرى وأجانب نحو بوابات الركوب. والوجهة... الجزائر العاصمة.

 ??  ??

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Kingdom