Al-Quds Al-Arabi

عن تسامح الأوروبيين ودساتيرهم العلمانية الضامنة للحريات

- ٭ كاتب من مصر

■ يوم الثلاثــاء الماضي، تناولت في هذه المســاحة صعــود اليمين العنصري وتراجع التيارات السياســية الوســطية في أوروبــا. واليوم، أســتكمل تنــاول أمر الأوروبيــ­ن ومجتمعاتهم منظورا إليهــم من قبلنا نحن العرب. فنحن نكثــر الحديث في نقاشــاتنا عن مواقف الرفــض والعداء التي تتخذها الشــعوب الأوروبية من الأقليات العربية والإســامي­ة التي تتألف من مهاجرين قدموا إليهم للإقامة والعمل. نشــير أيضا باستمرار إلى القيود التي تفرضها الحكومات الأوروبية على تحركات هؤلاء الوافدين من بلاد الشرق ومساعيهم للحفاظ على ثقافتهم الأصلية وممارستهم لشعائر دينهم.

ويــرى العديد من الكتاب العــرب، وعينهم هنا على قضايا من شــاكلة منع الدولة الفرنسية ارتداء الحجاب فــي المؤسســات التعليمية، أن ذلك يوضــح عدم جدية حكومــات أوروبا الديمقراطي­ة فيمــا تدعيه من اعتراف بمبدأ التنوع الثقافي والتسامح مع الآخر وإمكان العيش المشــترك لأتباع الأديان المختلفة في المجتمعات الغربية المعاصــرة التــي ترفع شــعارات المســاواة والانفتاح. بل يذهب البعض إلــى القول بأن أوروبا لا تســعى في التحليل الأخير إلا إلى دمــج الأقليات الوافدة من خلال إتباع استراتيجيا­ت صهرية وقسرية بالأساس لا تلتفت إلــى الخصوصيات الثقافيــة، بل وقد تلجــأ حكوماتها حين تفشل اســتراتيج­ياتها إلى الطرد والنبذ والإغلاق )الأســوار المشــيدة في وجه طالبي اللجوء من الشرق الأوســط( حين تفشــل وهو ما يتناقض بجلاء مع روح الليبرالية الأصيلة التي تتيح للفرد، طالما التزم السلمية واحترم القانون، مطلق الحرية فــي التفكير والتصرف والتعبيــر عن قناعاته حتــى وإن تعارضت مع القواعد والأعراف المستقرة.

بعبارة أخرى، نزعم كعرب ونحن في المجمل ســكان

مجتمعــات غيــر ديمقراطية وغيــر تعدديــة أن تعامل الأوروبيين مع الوجود العربي-الإسلامي يتسم بالنفاق والتشــوه والبعد عن المبادئ الديمقراطي­ة والليبرالي­ة الحقة. وفي هــذا افتراء صريح. فواقــع الأمر أنه يمكن صياغــة رؤيــة بديلة لأنمــاط تعاطــي الديمقراطي­ات الليبرالية في أوروبا مع الخصوصيــا­ت الثقافية وذلك من خلال النظر فــي قضيتين رئيســيتين. فعلى نقيض اســتخدامه المكثــف في الكتابــات العربيــة، تجاوزت الكتابات الصحافية الأوروبية ومعها الوثائق السياسية مفهوم «الأقلية» ولم تعد توظفه في معرض الإشارة إلى وضعيــة الجاليات الأجنبية. تبدو فــي اللحظة الراهنة مفاهيم مثل الجماعات العرقية والمجموعات الدينية أكثر تناسقاً مع المزاج الأوروبي، وتعبر ولا شك عن تحول في الإدراك العام لوجود الجاليات ذات الأصول الآســيوية والإفريقيـ­ـة والتركية والعربية وجــل المجموعات ذات الهوية الدينية الإســامية باعتبارها حقيقة إنســانية مركبــة لا يمكــن اختزالها في مجرد علاقــات خطية بين أغلبية مهيمنة وأقليات مستضعفة.

الأهــم هنــا أن الواقع المعــاش للجماعــات العرقية والمجموعات الدينية الوافدة فــي المجتمعات الأوروبية يبتعد كل البعد عن الادعاءات التبســيطي­ة التي نطلقها نحن حــول اســتراتيج­يات الصهــر والقســر والطرد والإغــاق. فعلى خلاف ذلك، تتكــرر من قبل الحكومات الديمقراطي­ة ومعهــا منظمات المجتمع المدنــي والقطاع الخاص المســاعي المنظمة لإقامة علاقــات ارتباط وثيقة بين الوافديــن وبين المرتكــزا­ت القيمية والدســتور­ية والقانونية والسياسية للمجتمعات الأوروبية على نحو يحفز على الالتزام بالنظام العام ويشجع على الاندماج الطوعي ويبقي للوافدين علــى خصوصياتهم الثقافية فاعلة في المجال الخاص بمكوناته الثلاثة الفرد والأسرة

والدين. أما أمثلة تلك المساعي المنظمة فهي عديدة، بدءا من التمويل الحكومي لبرامج تعلم لغة الأغلبية للوافدين مرورا بمؤسســات مكافحة العنصرية والتمييز وانتهاء بسياسات التجنيس الليبرالية.

من جهة أخــرى، لا ينبغي الخلط بــن احترام النظم الديمقراطي­ــة للتعدديــة وتقديســها للحريــة الفردية والتســامح وبين جوهرية مبدأ حياديــة الفضاء العام. نهضــت الدولة الوطنيــة الحديثة في أوروبــا الغربية - دولــة ما بعد الحرب العالمية الثانية والهولوكوس­ــت ومذابــح التطهيــر العرقــي - على وعدين رئيســيين لمجتمعاتها؛ الأمن والحياد. وفي حــن عبر الوعد الأول عن الرغبة المشــروعة للشعوب الأوروبية في الاستقرار بعد حربــن عالميتين ودمار شــامل، جاء وعــد الحياد كنتيجة لنقلــة حضارية في رؤية أوروبــا لدور الدولة ومنطق إدارة علاقتها بالمجتمع أنجزتها في أعقاب الفشل الذريع للمشــاريع القومية المتطرفــة الباحثة عن نقاء العنصــر وتفرد الهوية. يعني وعد الحيــاد أن الدولة لا تنظر حين تصيغ الأطر الدســتوري­ة واللوائح القانونية المنظمة لحركــة الأفراد وحقوقهم وواجباتهم في الفضاء العام إلى انتماءاتهم الطبقيــة أو العرقية أو الدينية أو غيرها من الولاءات الأولية التي يفترض تخطي حدودها الضيقــة باتجــاه رحابة مبــادئ المواطنة والمســاوا­ة والانفتاح علــى الآخر. فقط فيما يخــص إدارة علاقات الأفراد والأســر في المجال الخاص يتعين على ســلطات الدولة احتــرام التقاليــد والأعراف المختلفــة وأخذها قانونيا وإجرائيا بعين الاعتبار.

لا تملــك الحكومات الديمقراطي­ة فــي أوروبا، إذا، إلا أن تقــف موقف المنع حين تهــدد الخصوصيات الثقافية باختــراق الفضاء العــام على نحو يلغــي حياديته إن بصورة رمزية كما في أزمة حجاب الطالبات المســلمات

في مــدارس الدولة الفرنســية العلمانيــ­ة أو فعلية من شــاكلة محاولات تأســيس أحزاب سياسية إســاموية الطابع في ألمانيا وهولندا لا تعترف بشرعية النظام الديمقراطي القائــم وتتنصــل مــن احتــرام القواعد الدســتوري­ة والقانونية المعمول بها هناك. وحكومات أوروبا تنتصر بموقف المنع هذا للقيم والمبــادئ الليبرالية التي تضمن حيادية الفضاء العــام. أما الدفع من جانب عديد الكتاب المصريــن والعرب بالحضور العام للرمــوز الدينية في المجتمعــا­ت الأوروبية أو بوجود أحزاب سياســية ذات جذور مسيحية للتدليل على فســاد المنطق الديمقراطي الليبرالي وتناقضاتــ­ه الداخلية، فمردود عليه من خلال التشــديد على مركزيــة حلقة متكاملة مــن الاختيارات التاريخيــ­ة التي ولــد النموذج الديمقراطـ­ـي الأوروبي في ســياقها وأهمها كان التصالح بين الســلطة الدينية والســلطة الزمنيــة على نحو ســمح للدولــة القومية )الســلطة الزمنيــة( بــإدارة المجتمع سياســيا وترك للمؤسسات الكنسية )الســلطة الدينية( حق التوجيه القيمي والأخلاقي للأغلبيات المسيحية. ويظل الانفتاح في الفضاء العام على رموز ورؤى دينية أخرى، إسلامية كانت أو غيرها، مشروطا بالصياغة الديمقراطي­ة لتوافق مجتمعي يتجاوز حدود الجماعات العرقية والمجموعات الدينيــة المختلفة ويقبــل حضور تلك الرمــوز والرؤى كتعبير عن ممارسة التسامح واحترام التعددية. وليس لمثل ذلك التوافق المجتمعي أن ينهض ما لم يقبل الوافدون مــن العرب والمســلمي­ن إيضا إعمال ذات قيم التســامح والتعددية وقبول الرأي الآخر فيما خص شــؤونهم هم، حتى وإن طال ذلك العقيدة والمذهب.

 ??  ??
 ??  ??

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Kingdom