أبو يائير والمزاد الحكومي
وأبو يائير هو الاسم العربي للسيد بنيامين نتنياهو، وهو اسم يليق بالرجل الذي نجح في التحول إلى عرّاب سياســة مافيوية شــعبوية كاملة الأركان، هدفهــا الوحيد هو البقاء في الســلطة إلى الأبد. المســألة ليســت في تعريب اســم الرجل، بل في تسلل التعريب بصيغته السلطوية إلى السياسة الإسرائيلية. فاللجوء إلى التســتر بالأبوة الإبراهيمية التي جمعت الاســتبداد العربي بالاحتلال الإســرائيلي، أحدثت تحويراً في اسم رئيس الحكومة الإسرائيلية. هكذا أســقط أبو يائير القناع عن وجه الصهيونية، فالاحتلال استبداد، والمستبدون يتشابهون.
انتقل أبو يائير مــن صفقة القرن إلى اتفاقيات «أبراهام»، ومن إدانة أي تعاون مع أعضاء الكنيســت الفلســطينيين باعتبارهم إرهابيين، إلى فتح الأبواب أمام منصور عباس وحركته الإسلامية ذات الجذور الإخوانيــة. حبل نجاة أبو يائيــر مؤلف من طرفين متناقضين ومتكاملين: هناك غلاة المتدينين اليهود الذين يســعون إلــى تهويد الضفــة الغربية بأســرها من جهة، وهنــاك الحركة الإســامية الجنوبية مــن جهة أخــرى، التي تعتبــر أن حماية القيم التقليدية في المجتمع العربــي أكثر أهمية من حماية الأرض المستباحة والوطن المحتل. هل سينجح نتنياهو؟ امتلــك بيني غانتــس وتحالف «أزرق أبيــض» أغلبية ضئيلة عبــر التحالف الســلبي مع القائمة المشــتركة بعــد الانتخابات الإســرائيلية، لكن مشــروعه تهاوى أمام رفــض اثنين من كتلته هما يوعاز هندل وتســفي هاوزر، لهكذا تحالــف. وكان النائبان المتمردان يجسدان العنصرية المتأصلة في السياسة الإسرائيلية. فســقط المشــروع ووجدت القائمة المشتركة نفســها أمام حائط مســدود. ما ســمح لنتنياهو بتركيب حكومته مع غانتس، التي كانت وسيلته لافتراس تحالف يمين الوسط وشرذمته.
فشــلت رهانات القائمة المشــتركة رغم أنهــا امتلكت 15 عضو كنيست في التأثير على السياسة الإســرائيلية من الداخل، وفي لعب دور بيضة القبان في تشــكيل الحكومة الإسرائيلية. ويعود هذا الفشل إلى عاملين:
العامــل الأول هو جدار يهوديــة الدولة الذي جعــل من هكذا تحالف مســتحيلاً. فيهودية الدولة كانت ولا تزال حجر الزاوية في المؤسســة الصهيونية، التي لا تســتطيع التخلي عن التمييز العنصري.
والعامــل الثانــي هــو الوهم الذي ســيطر على قيــادات في «المشــتركة» ومنعهــا مــن رؤيــة الطبيعــة العنصريــة للدولة الإســرائيلية، وقرارها الثابت في تهميش أهل البلاد واستتباعهم وإخراجهم من دائرة القرار.
لكن أبو يائير يتفــوق على غانتس وعلى جميع السياســيين الإسرائيليين، في براغماتيته الحربائية. وحربائيته تستند هذه المرة إلى «إبراهيميته» المســتجدة. فاتفاقيات «أبراهام» تشــكل منعطفــاً في خريطــة المنطقة، وتؤســس للتبني الكامــل للرؤية الصهيونية التوراتية لأرض فلسطين. أنظمة عربية غارقة في المال والكاز والخوف، وأنظمة أخرى تســتغيث طلبــاً لرفع العقوبات، أو بحثاً عن صحراء مفقــودة. قدمت هذه الأنظمة لأبي يائير صك البراءة، وتحاول أن تصير جزءاً من لعبة السياســة الفلسطينية الداخلية، من خلال تفتيت وحدة الفلسطينيين، وإشاعة مناخات يائيرية مهدت لصفقة تحول بنيامين نتنياهو إلى زعيم عربي.
ولكن ما فات الإبراهيميين العرب، وحليفهم الفلســطيني، هو أن قــدرة أبو يائير على تدوير الزوايــا تصطدم بحاجزين: حزب «يمينا» وزعيمــه العنصري نفتالي بينيت الذي لا يرضى بأقل من ضم المستوطنات والغور إلى إســرائيل، وحزب إيتمار بن غافير الذي يضم عتاة الكاهانيين، نســبة إلى مؤســس حــزب «كاخ» العنصري مائير كاهانا.
جوهر الفكر الكاهاني يرى في العنف والانتقام فرضين دينيين يهوديين، ويرى في طرد العرب من «أرض إسرائيل» ضرورة لبقاء الدولة.
كيف ســيجمع أبو يائير مــا بين العربي الأصولــي الذي يريد الانخراط في الدولة اليهودية، واليهودي الأصولي الذي يســعى إلى قتل العرب وطردهم؟
هل يســتطيع إبراهيميــو أنظمة التتبيع العربيــة فرض مزيد من الانحناء على فلســطينيي داخل الداخل؟ وهل يكفي الانحناء للصفح عن خطيئة الفلســطينيين الأصليــة التي تتمثل في مجرد وجودهم؟ أم أن أي تراخ من طرف أبي يائير ســيعني تفكك حلفه العنصري، وســيقضي على أمله في تشــكيل حكومة الضم التي تستند إلى دعم أربعة أصوات عربية؟
إسرائيل تواجه متاهة معقدة من التناقضات، من الصعب على أبي يائير الخروج منها.
هذا هو الامتحان الجدي الأول لفاعلية الاتفاقيات «الإبراهيمية» في السياسة الإسرائيلية؟ وللأسف، فإن من يهدد هذه الاتفاقيات المشينة ليس العرب بل اليهود.
وهنا نصل إلى جوهر المسألة التي لم يعد تلافيها ممكناً. فيُطرح الســؤال حول المســؤولية الكبرى التي تتحملها قيــادات داخل الداخل، في الانتكاســة الانتخابية التي هشــمت المشهد وجعلته صدى للمشهد الفلسطيني البائس، الذي هو نتاج قيادات عاجزة، في عالم عربي ينحدر إلى حضيض الحضيض.
ليس السؤال هو هل تمد الحركة الإسلامية الجنوبية حبل نجاة لنتنياهو، أم تنتقل إلى التحالف المعادي له بقيادة يائير لبيد؟
فكل الاحتمالات واردة، لأن ما يفرق نتنياهو عن خصومه ليس البرنامج السياسي أو الموقف من الاحتلال، فالأكثرية الساحقة من الطيف السياسي الإسرائيلي حسمت أمرها، وقررت أن الاحتلال باقٍ، وأن الانســحاب من الضفة والقدس وطوق غزة ليس وارداً. لذا، فإن ســوق البيع والشــراء مفتوح على كافــة الاحتمالات، ومن ضمنها إمكانية بناء أكثريــة حاكمة يكون نتنياهو خارجها، وتستند إلى دعم الصوت العربي بلائحتيه.
لقد افتتح المزاد الحكومي في إســرائيل، ولكنــه مزاد برصيد وهمي. واللافت أن طرفي المزاد الأساسيين، نتنياهو ويائير لبيد، يلعبان علــى الحافة، ولا يملــكان أية ضمانات بــأن بحثهما عن الصوت العربي لن يفكك ائتلافيهما.
الوقت الضائــع في مسلســل الانتخابات الإســرائيلية التي تكررت أربع مرات في ســنتين وقد تتكرر للمرة الخامســة، ليس ضائعاً.
فالمتاهة التي تتخبط فيها إسرائيل ليس نتنياهو سوى اسمها، لكنها في العمق تعبر عن تحولات عميقة في المجتمع الإســرائيلي عنوانها تأسيس دولة الأبرتهايد.
وفي دولة الأبرتهايد لا مكان للفلســطينيين إلا كشعب مقاوم، هذا هو دور لجنة المتابعة ودور القائمة المشتركة. فتحديد المهمات بشــكل واضح يجنب القائمتــن العربيتين مهاوي الســقوط في فخ عبثــي. إن التحالف مع قوى سياســية كـ»الليكود» و»يمينا» و»إسرائيل بيتنا» والكاهانيين ليس سوى وهم يقود إلى الوهن.
الخيار هو العودة إلى البديهيات، وإعادة بناء وحدة نضالية لا يســتطيع صدى الكلام العربي التطبيعي- التتبيعي التســلل إليها.