Al-Quds Al-Arabi

سنقودكم إلى الجنة مكبلين بالسلاسل

- ٭ كاتب سوري

■ يروي عبد الله واثق شــهيد ‪2015) )1927-‬ فــي ســيرته الذاتيــة، أول وزيــر للتعليــم العالي في ســوريا )1966( وهو من أنشــأ معهــد العلوم التطبيقيــ­ة. وأول حائــز شــهادة دكتــوراه فــي الفيزياء النووية من باريس في سوريا. يروي أنه كان ضمــن المقبولين في الدفعــة الأولى في المعهد العالــي للمعلمين فــي الجامعة الســورية ـ جامعة دمشق في ما بعد ـ الذي افتتح عام 1946 في مبنى معهــد الحقوق علــى بردى، ويشــغل المبنى اليوم وزارة السياحة.

وكان من مؤسسي المعهد خالد شاتيلا وتوفيق المنجد. وكان شــاتيلا وثيق الصلة بالطلاب يمتلك أســلوباً علميا محببا، كما كان قادراً على حل أعقد المشاكل ببساطة «يعنى بتوجيهنا وتثقيفنا وتربية شخصية واعية متوازنة في كل منا، لمواجهة عصر جديــد». وكان المنهاج المتبع فــي التدريس، المنهج الذي وضعه ساطع الحصري. يقول عبد الله واثق شهيد، إنهم فوجئوا بأن خالد شاتيلا، تركهم قبل نهاية العام ليصبح ســفيرا لســوريا فــي بلجيكا. وهذا يعنــي تخليه عن المشــروع، ثــم أُخلي المبنى الذي يشغله المعهد لصالح وزارة التربية، وأعطيت للمعهد مبان صغيرة متفرقة في كلية الآداب، التي كان مقرهــا في الثكنــة الحميدية، مــا يعني بعثرة أماكن ســكن الطلاب، وأماكن دراســتهم وتناول طعامهم، أي أن ما جرى هو إبعاد مؤســس المعهد، ثــم نقله إلى مكان غير مجهز، وهذا يعني تخفيضاً من قيمة المعهــد، وفي العام التالــي تم التخلي عن النظــام الــذي وضعه ســاطع الحصــري، لصالح النظام الفرنســي في التعليم، ما أكد أن التغييرات المفاجئــة كانت في إطار صراع بــن أفكار مختلفة في التعليم والأشخاص الذين يمثلونها.

أضــرب الطلاب احتجاجاً على هــذه التغييرات غير المتوقعة، أثناء العام الدراســي. يقول شــهيد، «توجهنا في مظاهرة متواضعة فعدد طلاب الكلية في ســنتها الثانية لا يزيد عن مئــة إلا قليلاً، فأطل علينــا منير العجلانــي )كان وزيــراً للمعارف( من شــرفة الغرفــة التي كان يشــغلها خالد شــاتيلا، وقــال إذ عجــز عــن الإجابة علــى تســاؤلنا، لماذا فاجأتمونا بهذا التغيير في قلب الســنة الدراسية؟ قال، سنقودكم إلى الجنة مكبلين بالسلاسل».

هــذه الجملــة «ســنقودكم إلــى الجنــة مكبلين بالسلاســل» التــي رماهــا العجلانــي فــي وجــه طــاب المعهــد العالي لإعــداد المعلمــن، تصلح أن تكــون شــعاراً يختصر حــال أغلب أفــكار التغيير الكبيــرة، التي تحولت إلى مشــاريع سياســية في العالــم العربــي والإســامي، بــل فــي كل أنحاء العالم خــال القرن العشــرين. نخــب متعلمة في مجتمعات متأخرة، أو مجتمعات تعرضت لهزيمة ماحقة، تريد هــذه النخب أن تنهض بمجتمعها، أو تتجاوز آثار الهزيمة. تتبنى في ســبيل ذلك نظرية اقتصاديــة، أو سياســية، أو اجتماعيــة للتغييــر كطريق للنهــوض. لكن أفراد الأمــة أو المجتمع، أو الطبقــة لا ينخرطون، كما يجب في هذا المشــروع، بــل إن بعضهــم يقــف فــي صــف المحافظــة على الوضــع القائــم ويذهب بعضهم الآخــر حتى إلى محاربة أفكار التغيير.. ما العمل؟

تطــرح النخبة على نفســها هذا الســؤال، وهي تــرى مشــروعها لا يلقــى التجــاوب الملائــم. تبدأ الإجــراءا­ت الجذريــة، لكــن المجتمع لا يســتجيب كفايــة، يبــدأ وضــع السلاســل، وتبــرز جملــة الوزيــر العجلاني «ســنقودكم إلى الجنــة مكبلين بالسلاســل» شــعاراً غير معلــن، فلا أحــد يمتلك الجرأة التــي امتلكهــا العجلاني ليجعلها شــعاراً معلنــا، بــل إن الخطاب المعلــن يُركز علــى التحام النخبــة بالأمــة وإن الأمــة تمشــي وراء قيادتهــا بشــكل طوعي. لكن مــا لبثت أن برزت تســاؤلات فــي الطريق إلــى الجنة، الذي تمشــي فيه الجموع مكبلة بالسلاسل. أول سؤال، ما هي الضمانة في أن هــذا الطريق يؤدي إلى الجنة؟ الجواب لا توجد ضمانــة ســوى أن النخــب اختــارت هــذا الطريق لتمشــي فيه، ثم جاءت المشــكلة الثانية، من الذي يضمن أننا ســنصل أحياء إلى الجنة، والسلاسل تــأكل مــن أيدينــا وأرجلنــا أثنــاء تنــاول الطعام والشراب والمشــي؟ أيضاً لا ضمانة، لكن يمكن أن نعتبر من يتساقط على الطريق من الشهداء، أو أنه ثمن لا بد من دفعه، فلا شيء في الحياة دون ثمن. وهكذا ســقط عشــرات الملايين صرعى على طريق الجنة وقبل أن يشموا عبيرها.

وبعد عقــود كانت المفاجأة الكبــرى في انتظار مــن نجــوا من المســير الطويــل إلى الجنــة مكبلين بالسلاســل، فعنــد المحطــة الأخيرة تبــن لهم أن النخبة التي كبلتهم بالسلاســل أوصلتهم مرضى وجوعــى، بــل موتى إلــى جهنــم حقيقيــة وليس مجازيــة بينما كانت تمنيهم بالجنــة. أغرب ما في الأمــر أن العجلاني لم يكن من أنصار أفكار التغيير الكبرى، التي عمّت العالم في القرن العشــرين، بل كان على الضفة الأخرى رجل محافظ يُصنف بأنه يميني. ما يجعلنا نعيد التفكير في تلازم فكرة «إلى الجنة مكبلين بالسلاســل» مع الحــركات الثورية. إلــى مــن ننســبها إذن؟ هل ننســبها إلــى المثقف مهما كان اتجاهه السياســي؟ إذ يبــدو أن امتلاك الفــرد للمعرفــة، والمعرفة صفة من صفــات الإله، يجعل الفرد ينزلق بسهولة كبيرة نحو تأليه ذاته، وبالتالي يعطي لنفســه الحــق بالتصرف بمصائر النــاس، كما يريــد لا فرق بــن مثقف يســاري أو يميني.. بين ملحد أو متدين..

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Kingdom