Al-Quds Al-Arabi

الحياة العلمية العربية: أرقام وتحديات وإعاقات

-

■ تشير الأرقام حول أعداد الجامعات والمراكز البحثية العربية إلى أنها في حالة اطراد وزيادة، بحكم زيادة الســكان، ورغبة الحكومات العربية المتعاقبة في ترســيخ التعليم الجامعي، ونشــره على أوسع نطــاق، حيث يصل عدد الجامعــات العربية حالياً إلــى أكثر من 240 جامعة، في حين كان عددها في ســتينيات القرن العشرين الماضي 23 جامعة، وارتفع العدد إلى 33 جامعة في الثمانينيا­ت.

ويلاحــظ أن مصر أكثر الــدول العربية ثقلاً مــن حيث الجامعات ذات الأعــداد الضخمة، تليها ســوريا فالمغرب والســعودي­ة. كما زاد عدد طــاب التعليم العالي العربي 220 في المائــة مقارنة بعددهم في بداية الثمانينيا­ت من القرن الماضي، لكن التوســع في هذا العدد يبدو منخفضاً، لأن معدله في الدول المتقدمة وصل إلى 250٪. والزيادة في أعداد طلبة مرحلة الدراسات العليا في البلدان العربية لا تتجاوز 4٪ للماجستير و4.1٪ للدكتوراه مقارنة بنسبة ‪20٪ 10‬ في الدول المتقدمة، وهو المستوى الكافي لتكوين رأس المال البشري.

لكن التوسع الأفقي/ الكمي والعددي، لم يقابله تعميق على المستوى الرأسي/ الكيفي، وتلك الظاهرة التي تستوجب التوقف عندها، فعلى قدر أعداد الخريجين من الجامعات الهائلة، على قدر ضعف مستواهم العلمي، ولذا، نتوخى النظر إلى واقع الباحث والبحث العلمي، ونحن نرصد ظاهرة الضعف العلمي العام، الذي ينتاب الباحثين، وينعكس على منجزاتهم البحثية، ناهيــك من تدني الأخلاقيات والقيم العلمية وغياب الموضوعية. وإلى هذا يشــير عمر كوش، إلى أن المعيار العالمي للجامعات يتمثل فــي قدرة الجامعة على إنتاج المعرفة ونشــرها في المجتمــع، إذ بقدر ما تســهم الجامعة في إنتاج المعرفــة بقدر ما تحرز أفضل المراتــب، نظراً لأن وظيفة الجامعة تتمحور حول إنتاج المعرفة، وتخريج نخب قيادية من أصحاب الكفاءة العلمية والعقلية والنفسية، التي تخولهم التفوق والنجاعــة في الحياة الاجتماعية والاقتصادي­ة والفكرية والسياسية، لذلك علينا التساؤل عن الأسباب التي تقف في وجه جامعاتنا العربية من النهــوض بوظيفتها، التي لا يحددها فقط تدني مخصصات التعليم والبحث العلمــي، حيث لا تتجاوز ميزانية أضخم الجامعات في البلدان العربية 100 مليون دولار.

وهو ما يثير أزمــة التمويل المادي للجامعــات وللأبحاث العلمية والباحثين، ودعــم برامج الدراســات العليا والبحــوث التطبيقية، بجانب ضعف الإمكانات في المختبرات والتجهيزات والأجهزة، حيث تشــير الأرقام الرســمية إلى إنفاق الدول العربية أقــل من 1٪ من موازناتها العامــة على دعم البحث العلمي، وتتدنى النســبة بالنظر إلى الناتج القومي الإجمالي لأقل من 0.5٪، بينما بلغت في الســويد 2.9٪، وفي فرنسا 2.7٪، وفي إســرائيل 2.6٪ قبل عام 2004، ثم ارتفعت إلى 4.7٪، في حين خصصت إســرائيل 30.6٪ من ميزانية التعليم لدعــم البحوث العلميــة، ومعلوم أن جميع الــدول المتقدمة يســاهم القطاع الخاص في دعم الباحثين بنسب تتراوح ما بين 52٪ إلى 70٪ في ميزانيــات البحث العلمي، بينمــا 80٪ من ميزانيات البحث العلمي العربي تأتي من القطاع الحكومي. وهو ما انعكس على نســبة البحوث المنتجة، حيث تنتج الــدول العربية مجتمعة 15 ألف بحث ســنويا، في حين يقدر عدد الباحثين فيها 55 ألف باحث، بمعدل 0.3٪ لــكل باحث، بما يعني أن ثلث الباحثــن العرب فقط هم الذين ينشرون أبحاثهم، والبقية لا تنشر بشكل سنوي أي مساهمات علمية، وكل المنتج العلمي العربي، أقل من10٪ ممــا تنتجه الدول المتقدمة، وحوالي 72٪ مما تنتجه إســرائيل، أما عدد المراكز البحثية العربية كلها فهو 600 مركز بحثي، في حين أن فرنســا وحدها فيها 1500 مركز بحثي.

فالصورة وفق الأرقــام المعلنة باهتة للغايــة بالقياس إلى الدول المتقدمة، بل وإلــى الكيان الصهيوني، والأمــر لا يتوقف على ضعف التمويل، وإنما ضعف الإعداد العلمي والأنشــطة البحثية نفسها، فلا بد من ربط البحث العلمي بنهضة المجتمع، فلا يعقل أن يتم اســتيراد باحثين وخبراء من الغرب، لدراســة وعلاج مشــكلات أوطاننا، في الوقت الذي يتوافر فيه مثل هؤلاء من أبناء الوطن داخله أو خارجه، لكن هم في حاجة إلى من يسلط الضوء عليهم، ويتعرف على خبراتهم وعطاءاتهم العلمية.

أما الكفــاءات العربية المهاجــرة خارج العالــم العربي، وتعيش في بلاد المهجــر، ويدخل إنتاجها العلمي ضمــن الإنتاج العلمي لهذه البلدان المتقدمة، فيمكن الاســتفاد­ة من هؤلاء، الذين لن يترددوا في خدمة أوطانهم الأم، والأخذ بيد باحثيها، وتطوير مستوياتهم. وتشير الدراســات المعتمدة في هذا الشــأن إلى وجود مليــون عربي مهني يعملون في الدول المتقدمة فــي منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية، حتى نهاية القرن العشرين، وتقدر خســائر الدول العربية السنوية نتيجة هجرة الباحثين منها بحوالي 200 مليار دولار، حيث يســاهم الوطن العربي بـــ31٪ من الكفاءات العلميــة المهاجرة إلى الغرب، منهــم 50٪ مــن الأطباء، 23٪ من المهندســن، 15٪ مــن العلماء الباحثين. ومن هنا تتضح معالم الأزمة، المتمثلة في الفكر المسيطر على القادة السياســيي­ن في البلاد العربية، ما يدل على أن هناك تعمدا من السلطة في تغييب البحث العلمي النزيه، وفي رعاية الباحثين، ويبرر ذلك بخوف السلطة أن يتطرق البحث العلمي الجاد، خاصة في العلوم الإنسانية والاجتماعي­ة، لأن مثل هذه البحوث تكشف بسهولة أنماط السلطة وطرق السيطرة والحفاظ عليها، فالقابضون على السلطة لا يتخوفون من البحوث الفيزيائية، لكنهم يشعرون بالارتياح في مجال الاجتماع أو الفكر أو الثقافة، إذا كانت ذات صلة على نحو مباشــر، أو بمتخذ القرار السياســي، بجانب المعوقات الإداريــة والمالية، وأيضا الاجتماعية، المتمثلة في الضغوط العشائرية والقبلية، وأيضا المفاهيم الخطأ السائدة.

وإن كنا نرى أن ســبب ضعف التمويل يعود إلى قلة الناتج القومي عامة في البلدان العربية الفقيرة نسبيا، وإلى سوء إدارة التمويل في البلدان العربية الثرية، مثل الأقطار النفطية، حيث تتواجد ميزانيات كبيرة للجامعــات، لكن تلتهمها الرواتــب، والمظاهر الاحتفالية، على حســاب دعم البحوث والباحثــن. والحل الذي نــراه ناجعا لأزمة التمويل الجامعي يتمثل في تفعيــل القطاع الخاص والأهلي، لتمويل البحــوث الجامعية، خاصة إذا تعلق الأمر بمشــكلات تخص المجتمع المحلي: المصانع والمزارع، وما شابه، فيكون البحث العلمي جالبا لعائد مادي أكبر. كما يمكن حفز رجال الأعمال والأثرياء لدعم الباحثين، من خلال مؤسســات ذات صلة، أو برامج موجهة، وثمة تجارب رائدة في العالم العربي والخارجي، يمكن الاستفادة منها.

والعلاج الشامل يبدأ من نشر التفكير العلمي في دائرته الواسعة، وتجسير العلاقة بين العالِم والسياسي، لتكون علاقة توعية وليست منفعــة، مع أهمية إيجاد خطــاب علمي راقي المســتوى والطرح، من قبــل العلمــاء والمفكرين في المجتمــع، وتلك مهمــة لا تحتاج تمويلا، وإنما تحتاج ضميــرا يقظا، ونية صادقة، وهمة عالية، واستشــعار­ا بالمسؤولية.

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Kingdom