Al-Quds Al-Arabi

«طوق الياسمين» لواسيني الأعرج: البحث عن الهوية المنسية

-

■ من سمات أدب واسيني الأعرج الصور التعبيرية ذات النبــع الصافــي؛ غايتها أن تقربنا أكثــر فأكثر من نبض واقع فج يســتعصي استضماره. فعلى المستوى اللغــوي لا يتنازل واســيني، في كثير مــن انتاجه، عن معطفه الصوفي الشــبيه بمعطف غوغــول. الذي خبره جراء تجربته في الحياة واللغة والكتابة؛ فهذه الروافد الثلاثــة، تأخــذه خببــا نحو ممارســة طقوس العشــق والحنين والموت.

فــي روايته «طوق الياســمين» محجــة حقيقية نحو الصبابــة والصــب فــي اختراقهمــ­ا الأزلــي للأديــان الســماوية. ومــن خــال الشــوق نعبــر نحــو الكمال والتسامح، الذي يضمن اســتمراري­ة الوجود البشري. غير أننا عندما نطل بكل هذا الزخم والحمولة العقائدية على الإبداع، تكون رواية «طوق الياســمين» سباقة إلى إطــاق رصاصة الرحمة على فكــرة الصراع بين الحب والأديان.

تلك القبور المنسية

وقفت «سلفيا»عاشــقة الجمال والحــب، تنتظر عيد عشــاب، أن يبوح لها بكل أســرار العشق والحب. فكما ألفنا واســيني لا يســتقيم عود حكيه، إلا بالعزف على وتر التصوير؛ الشبيه بلوحات فان كوخ البائسة. وفي هذا يجعل من الأدب أدبا حقيقيا ذا بعد تخييلي واســع الضفــاف والأركان. يقول في «طوق الياســمين»: «هي هي لم تتغير كثيرا... واقفة على القبور المنسية، مختبئة في المانطــو الداكن الفضفــاض، وعلى رأســها قبعتها السوداء، وشــاش خفيف كان يغطي وجهها بالكامل، مثلما تعــودت أن تفعل كل جمعة منذ قرابة العشــرين ســنة». هذا الحاجــز المتأصل في الذات، بســبب غربة الأديــان، لم يثن عيد عشــاب من البوح بأســرار الحب، ووصف المكان الشــاهد علــى اللقــاءات المتكررة، وفي ذلــك إصــرار على هذا الاختيــار الصعــب، أو الموت في أحضــان المحبــوب. ففــي القصتين عشــق وقفــز على المسَـلم والبديهي المألوف، كأن يرفض السارد الارتباط الأبــدي بعقد الزواج الذي ســيربطه بمــريم، وهي التي منحتــه من الصبر مــا يملأ الكــون نورا وألوانــا. فكان اختيارهــا ليس فعــا؛ وإنمــا ردة فعل غالبــا ما تكون بطعم الهزيمة والنكوص. فاستمرت العلاقة رغم زواج مريم؛ مسك الخسارة.

ســاروجا الحي الدمشــقي الشــقي القــديم؛ مهبط الوحي مهبط الأرزاء، كانت تنزل فيه الوصايا العشــر، ولا شــيء اســتطاع أن يقــف أمــام الطوفان الغــادر... «إيــاك ثم إيــاك أن تســلميه جســدك قبل أن يشــتريه منك بعقد الــزواج». لم تكن وصايا الأخــت «خيرة» ســوى طعنات في وجــه الثقافة الســائدة، التي تنخر كالســوس، المجتمعــا­ت العربيــة، إنها علاقة غيــر متكافئة بين فاعل ومفعــول بــه. الآخــر، هكــذا كما قال جــان بول ســارتر، الجحيم؛ كوابيــسُ أحــام متناثــرة علــى حافة طريق الموت. عيد عشــاب، في طوق الياســمين، لا تستقبله ســيلفيا، كمــا تســتقبل مــريم الســارد؛ فالابتســا­مة لا تفارق محياهــا طمعــا فــي القــادم الناشــئ. تتركين الابتســام­ة، أيتهــا المغــرورة، تتزحلق على وجهــك كالموجــة البحريــة الهاربة، في هذه العبارات يســكن العشــق والنور؛ لكن المــوت يخطــف العناصر، ويحــد من الوهــم. إنه لحظة الحقيقــة، التــي يواجههــا المــرء دون خــوف أو وجل أو تــردد؛ هــذا نامــوس من نواميــس ســيد المتصوفة وقيصرهــا العملاق كالطــود العظيم؛ محيــي الدين بن عربي.

فالموت موتان؛ موت ابن عربي وموت عيد عشــاب، إذا ما كان للعبور معنى يرتجيه نحو المعبر الآخر. يقول واســيني «لا يتذكــر أحدا إلا جده، شــيخ حــي الزاوية وابن عربي ومأســاة الحلاج وسيلفيا وبؤس الأديان» هذه عناصر الكــون يخلق منها أحلاما وكوابيس، مارة عبر ما تفعله الفلســفة الوجودية بالمتفلســ­فين الجدد، والأسئلة الحارقة التي تتناسل في عباءة دونكيشوت ديلامنشــا. إنها الخســارة التي ركبتها مريم، ستتعلم من المطحنة، ما تعلمه حنا مينه من مدرسة الحياة، وهو في جــوف الشــارع يعب برد ديسمبر/كانون الأول المطير. وأكيد أن مريم ستســدل، على ركح أسودَ، ستارها الأخير.

دين الحب

كان رُوَاء «طوق الياســمين» يطــل عبــر الأشـُــنة والغياض؛ مساحات شاســعة من الصبابة والــكلام. فمــن أجــل أن يحــس القــارئ بثقــل المحكــي، وعبوره الآمن نحو الحقيقة المنسدلة على رقعــة الفناء، اســتعان واســيني بالفن السابع منتصف الستينيات

من القــرن الماضي. فما كان فيلــم «الصحراء الحمراء» لبطلتــه الممثلــة الإيطاليــ­ة مونيــكا فيتي، إلا صــورة لما يعيشــه عيد عشــاب وســيلفيا من اضطرابــات الحياة الشــخصية، وصدامهــا مع واقــع حرون وقــاس. من هذه الحدوس جميعها، صور ســاقها واسيني الأعرج، عبارة عن تشــبيهات واســتعارا­ت نحيا بها في حياتنا اليومية، غير بعيدة عــن المألوف والاعتيادي، قريبة من أجســادنا، خصوصا عندما نهتف بأعلــى صوتنا في وجه هذا الظلم، في وجه هذا الفساد. في حي الإطفائية مناضل غريب المظهر، يقول واســيني «تتدلى منه لحية حمراء كثة، وشــاربان طويلان مثل فــاح لبناني» في اللون كشــف للهوية، أهي إسلامية أم غير ذلك؟ الهوية هــي الهوية الله معك. نتدلى عبر مســارات منحدرة في الحكــي، نحو هذا العمق الأزلي، بيــد أننا نحس بالغبن والشــماتة، بلاد العرب أوطاني، نشيد رددنا تفاصيله قديما ومنذ الصغر.

رواية «طوق الياســمين» لــم تكــن للصبابة والحب فقط؛ وإنما تحفر فينا أخاديد ابن عربي والحلاج. وبها تنكشــف الذات أمــام ذاتها، والصورة أمــام صورتها، والهوية المنســية أمام هويتها. إننا، بذلك، أمام التحول في العزلــة والغربة، وما ينتج عنهما من ظلم وحســرة وفراق وموت.

٭

كاتب مغربي

 ??  ??
 ??  ??

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Kingdom