Al-Quds Al-Arabi

الإسلام والهوية في سياق العولمة

- لبنى بن البوعزاوي ٭

لقــد طرحــت قضيــة العولمــة فــي ســياق الحديــث عــن الهجرة إشــكاليات عديــدة تــكاد لا تنفك عــن التناســل؛ كإشــكالية الهوية والغيرية.

فالحديث عن الهجرة، كهجرة المسلمين مثلا إلى الدول الأوروبية -فرنســا أنموذجاً- خــال الثمانينيـ­ـات والتســعين­يات من القرن الماضــي، أضحــى يفرض نفســه بقوة في أوســاط فرنســا؛ إذ ولد مشكل الهجرة خلال هذه الفترة التاريخية جدلا واسع النطاق شمل جل المنابــر الصحافيــة والإعلاميـ­ـة، والكتب والمجــات والجرائد، والروايــا­ت وغيرهــا. حيــث لــم تكــن اشــكالية الهوية في فرنســا اشــكالية مطروحة للنقاش والتفكير والتأمل، إلى حين أصبح إقبال المهاجرين المسلمين عليها في تزايد. الأمر الذي زاد من حدة الشعور بالخوف والتهديد والقلق الــذي ارتبط أيما ارتباط بقلق الهوية، أي هوية؟

هوية الفرنســي التي أضحت مهددة في وجود « الآخر المســلم» غير الفرنسي في بلاد هذا الأخير.

قضية المهاجرين

يمكــن القول إن ســؤال الهوية: «من هو الفرنســي؟» غدا ســؤالاً راهنياً في ظل التحولات والتحديات التي فرضتها قضية المهاجرين، لا سيما المســلمين منهم. ما ترتب عنه، ظهور خطاب جديد يحذر من مخاطر الدين الإسلامي في المجتمع الفرنسي.

على الرغم من تفشــي الخطابات والحركات المحذرة من الإسلام في فرنســا، فــي غضون العقديــن الأخيرين، فإن هنــاك من الكتاب من عمل على فهم تعقيدات «الإســام الفرنســي» خارج إطار صدام الهويات والحضارات.

وفي هــذا الصدد نشــرت أعمال متعــددة اتصفــت بالموضوعية والحيــاد، نذكــر منها على ســبيل المثــال لا الحصر: كتــاب الباحث الفرنســي أوليفييه روا «نحو إســام أوروبي» وهو الــذي لم يتخذ نهجا تقريظيــا، بقدر ما عمل علــى تفكيك «إســام الأقليات» داخل فضــاء علماني لا يكتــرث للدين. بيــد أن مفهوم الإســام الأروربي في ســياق العولمة قد اتخذ أبعاداً واكتسى ألوانا سياسية وثقافية واجتماعية حينا وفلسفية في أحيان أخرى.

إن الحديث اليوم عن الإســام الفرنسي والإسلام الأوروبي، هو بشــكل أو بآخر إضافة نوعية لهــذا الدين الــذي كان حبيس رقعته العربية، حتــى لو قوبل في أول الظهور بالهجــوم والرفض من قبل الفرنسيين.

إن الأمر طبيعي جدا، فلو شــهدت أي دولة من الدول ما شــهدته فرنســا جراء الهجــرة، لكان رد فعلهــا مماثلا لفرنســا ولغيرها من الدول المشــابهة. إنه قلق مشــروع؛ فما يتعلق بهويتنا كأفراد داخل جماعــات، كثيرا ما يولد عندنا هذا القلق الذي يهدد شــعور الانتماء والوحدة والأصل.

الدافع النفسي

إن الدافع نفســي واجتماعي أكثر من كونه دافعا سياسيا. لهذه الأســباب، احتدم النقاش عــن مظاهر وتجليات ومرئيات الإســام داخــل الفضــاءات العامــة، بمــا هــي مرئيــات معارضــة لمعتقدات الفرنســيي­ن الدينية والثقافية المشــكلة للهوية الفرنســية: المساجد، صلاة الجمعة، الحجاب الذي كان يحمل لدى غالبية الأوربيين وليس فقط الفرنسيين، معنيين اثنين: الرمزية التفاخرية والعزل الجنسي؛ إذ نظر بعضهم إلى القوى التقليدية حاملة لواء الشريعة، وتحجيب النســاء داخل أوروبا كهجمة ترفعها قوة الإسلام الوافدة من أرض المســلمين، أي كواقع متحقق عندهم. فكان نتيجة ذلك تحجيم مرئية الإسلام، حيث تم منع حمل الرموز الدينية داخل الفضاءات العامة، مــن أجــل التخفيــف والتقليل مــن مظاهــر «الإســاموف­وبيا» التي اجتاحــت المجالات العامة لــدول أوربا. هذه الأســباب وغيرها، هي التي حددت السمات العامة لمظاهر القلق الهوياتي.

طالما أن هناك اســتثناء يطال كل قاعدة، فيمكن اعتبار «كولونيا» هي الاستثناء في هذا الصدد.

لقــد كانت على عكــس أندادها الأوروبيــ­ن؛ إذ فضلا عن إيمانها بقيمة التســامح، ســمحت للآخر المسلم بممارسة شــعائره الدينية داخــل مجالاتهــا الترابيــة. وعلاوة علــى ذلك، قامت ببناء مســجد مركزي للمســلمين بهندسة جديدة متآلفة مع نمط العمارة الأوربي، الأمر الذي ســاهم فــي خلق و بلورة مســاحات للتعارف والتعايش بين الديانات، على الرغم من الاعتراضات التي رافقت مراحل البناء.

من هذا المنطلق، يمكن القول أن الإســام في ســياق العولمة، تبعا للتعريــف المعلــوم للمفهوم العولمة: جعل الشــيء عالميــا، أي نقله مــن المحلي إلى الكوني- قــد أصبح يراعي في اجتهاداته، لا ســيما اجتهادات الفقهاء المســلمين، القضايا السياسية والاجتماعي­ة التي تثيرها الدول الأوروبية في عصر العولمة.

السياق التاريخي

وعلــى هــذا النحو تكون عولمة الإســام قــد ســاعدت بطريقة أو بأخــرى في توســيع أفق الاجتهــاد الديني. إذ صــار الفقهاء الجدد والحالة هذه، يأخذون بعين الحســبان السياق التاريخي للنصوص الدينيــة وأبعــاده المرتبطة بعصــره، فغــدوا يكيفون القيــم الدينية وأحــكام الشــريعة، مع التحولات التــي تطرأ على أســاليب الحياة، حيــث بدأ الاقــرار باختــاف العصور وتغيــر الظروف في مســألة التأويــل التــي يهتدي بها الفقهاء المســلمون إلى الأحكام الشــرعية والأخلاقية. أي أن الإســام أصبح يكيف أحكامه وقيمه وضوابطه مع قيــم الثقافات الأخرى الخارجة عن رقعتــه الأصلية، وذلك دون المساس بجوهره وماهيته.

كما أن مســلم اليوم، لم يعد يتحاشــى الحديث عن القضايا التي فرضتها العولمة، وإنما أضحى يعطي للقيم الإســامية طابعا عالميا، خاصة بعد ظهور الإســام في الدول الأوروبية إثــر عملية الهجرة. يضاف إلى ذلك، أن العولمة كانت فرصة للتعريف بالقيم الإســامية المضمــرة داخل النص المقدس، والتي من شــأنها أن تتوافق مع قيم الغــرب الأوربي، إن لم نقل مع القيم الكونية: الأخلاقية والاجتماعي­ة والإنســان­ية: قيمــة الاختــاف نموذجًــا. دون أن نعــزب النظر عن المظاهــر الجديدة للتدين: كالحجاب مثلا، الذي بات يتخذ تســميات مختلفة من قبيل: الحجاب التركي، الحجاب الأندونيسي، الحجاب الشيشــاني، الحجــاب الســعودي، الحجــاب المغربــي، المصــري، الحجاب الأفغاني... وهلم جرا.

لقد أخذ كل شــكل من هاته الأشــكال طابعا هُوّياتيًّا إلى الدرجة التــي أصبح فيها « شــكل الحجاب» على ســبيل المثــال لا الحصر، يكشف عن هوية صاحبته القومية وجنسيتها.

للحجــاب إذن، مفهــوم واحــد لكــن أشــكاله لا تنفك عــن التنوع والتعدد، بتعدد الهويات وتنوعها. بهذا المعنى يمكن القول إن العولمة قــد كانت عاملا فاعلا في خلق وتشــكيل هويات جديدة للإســام، غير هويته الأصلية. فالغيرية على هذا النحو في ســياق الحديث عن العولمة والمســلمي­ن، يمكــن أن تنتج لنا تعددا هوياتيــا متعددا بتعدد الثقافات التي غزاها الإسلام في شخص المهاجرين المسلمين.

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Kingdom