Al-Quds Al-Arabi

إبراهيم نوار*

-

قبل نحو أســبوع من انطلاق موكب الموميــاو­ات الفرعونيــ­ة مــن المتحف المصري في ميدان التحرير إلى متحف الحضــارة الفرعونية في الفســطاط، أول مهبط للعرب في مصر، تصدرت أخبار أحفاد الفراعنة اهتمامات الرأي العام العالمي، بسبب انسداد شريان حركة أساطيل النقل البحري والسفن الحربية بين الشرق والغرب.

ملــوك الفراعنــة الذين ســتجوب بهم عربــات ملكية، مصنوعة خصيصا للمناسبة، في شوارع القاهرة من ميدان التحرير إلى الفســطاط، لن يكونوا سعداء أبدا بأن تسبق موكبهــم المهيب أخبار ما حدث لقناة كانوا هم أول من فكروا فيهــا وحفروها لربط البحرين الأحمر والأبيض المتوســط عبر نهر النيل، في عهد سنوســرت الثالث في الألف الثاني قبل الميلاد. سيحزن أيضا ملوك الفراعنة، وهم يطلون على عالم ما يــزال يضربه فيروس كورونا، ما يحول دون قدوم ملايــن الزائرين مــن كل أنحاء العالم لتحيــة موكبهم في رحلته، فليس هكذا يمر موكب الملوك، بدون مشــاركة عالمية حميمية، كان من شأنها أن تنعش الدخل السياحي لمصر.

البعض يقول، إن لعنة الفراعنة تطارد المصريين الأحياء، بســبب إزعاج راحة أرواح ملوكهم الأموات. الموكب الملكي ســيضم مومياوات 18 ملكا وأربع ملكات ويفســد راحتهم الأبدية. لعنة الفراعنة تقول «ســيأتي الموت طائرا بأجنحة سريعة لمن يفسد راحة الملك في سلامه الأبدي». لكن العالم في الظــروف الحالية لا يعنيــه كثيرا موكــب المومياوات، إلا بمتابعتــه عن بعد. الأهم من كل ذلــك، هو ألا يتضرر من انسداد شريان الملاحة في قناة السويس، وأن تعود الملاحة

إلــى طبيعتهــا، في أهم ممر بحــري عالمي في زمن الســلم والحرب.

إشارة تنبيه

قناة الســويس التي تصــدرت اهتمامات الــرأي العام العالمــي، هي بلا مبالغة أحد أهم مصــادر فخر المصريين في العصر الحديث، فهم من حفروهــا بأيديهم، بينما الطبيعة هي التي حفــرت للنيل مجــراه. وهي كانت منذ إنشــائها موضوعا للصراعات والتضحيات، فمات في حفرها ما يقرب من 120 ألف مصري، وقت أن كان عدد سكان مصر حوالي 6 ملايين نســمة، أي ما يعادل 2% من أهلها. واستشهد دفاعا عنها عشــرات الآلاف في حروب مســتمرة. القناة كما أنها مهمــة لمصر، فإن أهميتهــا للعالم تتزايد كل يــوم مع زيادة حجم وقيمة التجارة التي تمــر بها، التي تقدر قيمتها بنحو 10 مليارات دولار يوميا. وتحصــل مصر منها على إيرادات تزيــد عن 15 مليــون دولار يوميا في صورة رســوم عبور فقط، بدون احتســاب خدمات الموانئ مثل العين الســخنة وبورســعيد، والأنشــطة الاقتصادية الأخرى على جانبي القناة.

ما تعرضت له قناة السويس من أزمة بسبب جنوح إيفر غيفن، إحدى أكبر ســفن الحاويات فــي العالم، هو بمثابة إشارة تنبيه لمصر بأن القناة يجب أن تواكب تطور صناعة النقل البحري في العالم، من حيث حجم السفن وحمولاتها، واحتياجاته­ا من الخدمات، حتى تمنــع عن الذين يريدون النيل منها، فرصة التهكم أو إطلاق النكات الساخرة عليها، كما حدث في مواقع التواصل الاجتماعي الإسرائيلي­ة، خلال الأسبوع الماضي. ومن المخجل ألا تكون مصر بقناة السويس لاعبا رئيســيا في ســوق النقل البحري فــي العالم، بينما أصبحت كذلك بلدان أخرى بموارد ضئيلة مثل ســنغافورة ودبي. ومن المخجل كذلك ألا تتوفر داخل مصر بدائل طوارئ ســريعة للقناة، للتغلب على صعوبات تنشــأ في مثل هذه الأزمات.

إمدادات الغذاء والطاقة

توقف الملاحة في قناة الســويس منذ صبــاح الثلاثاء 25 مارس، بســبب جنوح ســفينة الحاويات العملاقة إيفر غيفن، حتى إعلان البدء فــي تعويمها صباح الاثنين 29 من الشهر نفســه لم يتســبب فقط في تأخير وصول البضائع المحمولة بحرا بين الشــرق والغرب، بل إنه أدى إلى إرباك

سلاســل الإمدادات التجارية والصناعيــ­ة العالمية، ومنها إمدادات المواد الغذائية مثل، القمح والذرة والأرز والســكر والشــاي. ليس ذلك فقط، بل إن أكثر مــن 60 ألف رأس من الماشــية كانت مهددة بالموت وهي عالقة على ظهر سفن في القناة. وتقدر الولايات المتحدة وحدها أن 13 سفينة حبوب أمريكية تحمل ما يقــرب من 10 ملايبن طن من القمح والذرة إلى الصين قد توقفت عند المدخل الشــمالي لقناة السويس، أو في الموانئ المجاورة، وتم تحويــل اثنتين منها إلى طريق رأس الرجاء الصالح، وهو ما يزيد تكلفة الشــحن، ويطيل مدة الرحلة بأكثر من أسبوعين. كذلك تعطلت السلع المتجهة غربا المصنوعــة في الصين وكوريا واليابان وفيتنام والهند وغيرها.

مصلحة العالم هي أن تتحرك تجارته بسهولة ويسر عبر قناة الســويس، فالوقت له ثمن، والتأخير في نقل البضائع يعني تكلفــة تبلغ 7 ملايــن دولار كل دقيقــة، وهي تكلفة يصعــب تعويضها، في وقت يحاول فيه العالم التخلص من كابوس فيروس كورونا، الذي تســبب في موت الملايين من البشر، وخسارة عشرات المليارات من الدولارات.

وتعتبر إمدادات النفط ومشــتقاته والغاز المسال من أهم البضائع التي تعبر قناة الســويس. وطبقا لتقديرات لويدز وســتاندرد أند بوورز، فقد كان يمر عبر قناة السويس قبل جائحة كورونا حوالي 5 ملايين برميل من النفط ومشتقاته، وحوالي 31 طنا من الغاز المســال يوميــا. وعلى الرغم من أن أســعار النفط تقلبت خلال الأســبوع الأخير في حدود معقولة، إلا أن تأثير توقــف القناة خلال تلك الفترة لم يكن عاملا قويا من عوامل هذه التقلبــات، وإن كان قد ترك أثرا كبيــرا في تكاليف الشــحن والتأمين بالنســبة للحمولات العابرة كافة. وســاعد على انخفاض الخسائر المحتملة أن شركات إنتاج الكهرباء ومصافي البترول، تحتفظ بمخزون للطوارئ يعادل مدة لا تقل عن أســبوع، وقد تصل إلى عدة أشــهر. محطات الكهرباء التي تعمل بالغــاز في بلدان مثل إسبانيا وألمانيا وهولندا والنمسا وغيرها، يمكن أن تتوقف إذا تأخرت حمولات الغاز العالقة في القناة، وكذلك مصافي تكرير النفط التي تنتظر وصول إمدادات بواســطة ناقلات عملاقة. وفي بلدان تقل فيها إمكانيات التخزين مثل سوريا، فــإن محطات الكهربــاء والوقود تأثرت بالفعــل. كما تأثر منتجــو النفط في بلدان مثل العراق ودول الخليج بســبب توقف نفطهم المتجه إلى أوروبــا، وتأثرت قطر التي تعتمد اعتمادا ثقيلا على مرور الغاز المسال عبر قناة السويس إلى أوروبا.

ضخامة السفن وضخامة الخسائر

وإذا كان يحلو للاقتصاديي­ن القول إن عالم ما بعد كورونا ليس كما كان قبله، فإن خبراء صناعة النقل البحري يمكنهم القول، إن الملاحة عبر قناة الســويس بعد أزمة الســفينه إيفر غيفن لن تصبح كما كانت قبلها. الســبب الرئيسي في ذلك هــو أن ضخامة أحجــام الناقلات وســفن الحاويات، يعني ضخامة حجم الخســائر الناتجة عن حدوث مشاكل لها خلال التشــغيل، خصوصا في المجــاري المائية الضيقة أو الموانئ. الشركات ســيكون عليها أن توازن بين الارتفاع فــي تكاليف التأمين والوقود والإيجــار، والوفر الناتج عن استخدام قناة الســويس، ومن المتوقع أن تتردد قبل الدفع بناقلات أو ســفن عملاقة لعبور القناة، خشية تكرار حادث إيفر غيفن، بل إن هيئة القناة نفسها ربما تصبح أكثر حرصا على التدقيق في أحجام وحمولات الســفن العابرة حتى لا يتكرر الحــادث. إن طموح مصر لزيادة عدد الســفن المارة بالقناة إلى نحو 90 ســفينة يوميا مقابل 50 ســفينة حاليا، ســيواجه صعوبات إضافية بعد الحادث. ويجب أن تضع في اعتبارها وجود مشروعات أخرى منافسة للقناة، تنتظر الفرصة الملائمة. ومن المؤكد أن همســا يجري في أوســاط صناعة النقل البحري حول هذه المشــروعا­ت، التي لم تعد سرا، سواء مشروع خط الأنابيب الإسرائيلي – الإماراتي، أو مشروع الشــمال الإيراني- القوقازي، أو مشروع تطوير خط ملاحي بين الشرق والغرب عبر المياه الباردة والمحيط المتجمد الشــمالي، يمتد من الصين والشرق الأقصى وشرق سيبيريا إلى شمال غرب أوروبا مباشرة. ومع ذلك فإن مصر تتحمل مسؤولية عالمية في ضمان كفاءة وحرية الملاحة في قناة الســويس، ولا يقتصر ذلك على الملاحة التجارية، بل إنه يشمل أيضا حركة أساطيل القوى الرئيسية في المنطقة، التي يتوطن فيها أكبر عــدد من الصراعات في العالم. وبعد الأزمة الحالية، يستعين على هيئة القناة الرد على تحديات تطور صناعة النقل البحري من حيث سرعة وحجم السفن وإدارة اللوجستيات.

وعندما يصــل موكب موميــاوات ملــوك الفراعنة إلى مستقره الجديد يوم السبت المقبل، سيودع الملوك والملكات المشاهد التي مرّوا بها في الشــوارع من ميدان التحرير إلى الفســطاط، لكنهم لن يســتطيعوا وداع آلاف السنين التي تصدرت فيها مصر ريــادة العالم. هم قــد يصبّون لعنتهم على الحاضر، لكنهم ربما يشــفقون على أهله ويدعون لهم بالخير.

* كاتب مصري

جنوح إيفر غيفن، إشارة تنبيه لمصر بأن القناة يجب أن تواكب تطور صناعة النقل البحري في العالم

 ??  ??

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Kingdom