Al-Quds Al-Arabi

عن مؤتمر في دمشق... منعه نظامها

- *كاتب سوري

فــي الليلة الســابقة علــى انعقاد مؤتمر الجبهة الوطنيــة الديمقراطي­ة الســورية في منزل حسن عبد العظيم - منسق هيئة التنســيق الوطنية، صاحبة الدعوة الأكثر أهميــة، ورد «اتصــال هاتفي مــن جهة مختصــة» يمنع انعقاده. وفي صبــاح اليوم التالي، اجتهدت المؤسســة الأمنيــة، لمنع أعضــاء المؤتمر من حضــوره، كعملية قمع روتينية معتادة من قبل النظــام الحاكم.. وبذلك ارتفعت قيمة الحدث التبادلية علــى الفور في فضاء الإعلام، على أمل أن ترتفع قيمته الاستعمالي­ة في المضمون، والتأثير في السياقات والمفاعيل اللاحقة.

في الوقــت ذاته، تتجلّى على الأرض الســورية وقائع جديدة، تصنعها السياســات الروســية والإيرانية، في تداخل مع أخــرى تركية وخليجية، تحفر كلّهــا عميقاً ما بين الســوريين الموجودين على الأرض، في متاهات ثلاث في الشــمال الشــرقي والشــمال الغربي، وبقية سوريا تحت قبضة النظــام وحلفائــه قليلاً أو كثيــراً. وإذ كان هنالك قصف روسي وأسدي حارق شــمال حلب مؤخراً، ثم قصف لمؤسســات صحية قريبة من الحــدود التركية، وآخر لتجمعــات الشــاحنات المحمّلة خــارج معبر باب الهوى.. لتتلوها مطالبة روســية معلنة بفتح معابر ثلاثة مــا بين مناطق النظام، وتلك التــي تتواجد فيها المعارضة

مع القوات التركية، وأيضاً معابر بينها وبين المناطق التي تسيطر فيها قوات سورية الديمقراطي­ة، ومن يحالفها، أو يساكنها شمال شرق سوريا.

ينذر الحدثــان المذكوران بتطــورات يمكن أن تنعكس سلبياً على وحدة البلاد وشــعبها؛ وينذران أيضاً بالمزيد من وقوعها تحت تأثير القوى الخارجية، إقليمياً ودولياً، على الرغم من مؤشــرات قد توحي بالعكــس، رغم ذلك، يتقبّــل كثيــرون بإيجابية مــا ورد في وثائــق «الجبهة الوطنية الديمقراطي­ة - جــود»، التي كان مؤتمرها الأول سينعقد يوم الســبت الماضي. وهي عموماً لا تتعارض إلّا في حدّة الصوت، مع الطروحات المعارضة السائدة، ومع وثائق التجمعات الأخرى التــي تتنافس معها، أو تحاول ذلك، بما فيها الائتلاف الوطني خصوصاً. فقد نصّت أوراق الجبهة العتيــدة على «إنهاء النظام الاســتبدا­دي القائم بكل رموزه ومرتكزاته»، والتمســك بتشكيل «هيئة حكم انتقالية كاملة الصلاحيات» بموجــب «بيان جنيف لعام 2012 والقرارات الدولية»، بدلاً من «إسقاط النظام» الذي لم يعد يتردد بدوره بالوتائر ذاتها في لغة أهل الائتلاف، لا هــو ولا مفهوم «هيئة الحكم الانتقالــ­ي». كما نصّ أيضاً على «إقامة نظام ديمقراطي» بالمواصفات المعيارية، وعلى المطالبة بـ»إعادة هيكلة المؤسســة الأمنية، وبناء جيش وطني، مع تحييده عن السياسة والعمل الحزبي»، إضافة إلى «إخراج الجيوش والميليشــ­يات غير السورية كافة.» من حيث المضمون، تحرج تلك الطروحات القوى الأخرى التي طالما أصرّت على عزل هيئة التنســيق في الســابق، وأيضاً تلــك القوى والشــخصيا­ت الحريصة على وحدة المعارضة وقوة تمثيلها. ولعل ذلــك لا يكون هدفاً مُضمراً لبعض منظمي المؤتمر، كما أوحــت كلمات أحد القياديين، الذين يعملون منذ ثلاث سنوات في قيادة المشروع المذكور بفعالية مشهودة - وهو مســتقر في «الخارج» منذ ستين عاماً - حين قال بنبــرة حادة، إن الدعوة لم تكن «موجهة لكل أطراف المعارضة» لأن «الشــارع السوري لم يعد يثق بالمعارضة الخارجية، التي دعت إلى الحل العســكري منذ البداية، والتي كذّبت على الناس بقرب التدخل العسكري الأجنبي، ودعت إليه علنا وعلى رؤوس الشهود، والمجتمع الدولي بكاملــه لم يقتنع بصلاحية البديــل، الذي قدمته معارضة الخارج، والذي يسيطر عليه الإسلام السياسي، خصوصــا الإخــوان المســلمين، بالإضافــة إلــى بعض الأشــخاص الذين وصلــوا إلى العمل المعــارض مؤخراً، بقصــد الحصول على المنافع الخاصــة، والرتب المتوقعة، الانتهازيي­ن، سكان فنادق الخمسة نجوم، ومحبي شاشات التلفزيون، وعشاق الأضواء والبروظة».. على الرغم من اســتدراكه بعد ذلك مباشرة حين قال «نحن في جود، بعد مؤتمرنا التأسيســي هذا ســوف ندعو إلى مؤتمر أوسع للمعارضين الســوريين جميعهم». ويبقى أن ذلك ينسجم مع اســتهداف تحجيم وعزل الائتلاف الوطني، في رؤية قوى إقليمية نافذة. لا ريب هنا أن «الائتلاف» يســتحق، والإســام السياســي المتحكم فيه ما يحيق بهما إلى حدٍّ كبير - بدليــل أنه لا يرى ذلك - بعد مسلســل طويل من الإقصاء منذ البداية، ثم التصدّر والاحتكار «الإســامي - السياسي»، والارتهان أيضاً، وبشكل متصاعد يكاد يمحو شخصيته الخاصة ككيان وطني، كان يمثّل قسماً مهماً من الســوريين، وينبغي له ألّا يفرّط في حقوقهم. ولا تساعده تطوراته الأخيــرة على ذلك، من خلال خطوات توســيع صفوفــه بمضمون وطريقة ســيئة، وحتى فــي محاولته الاســتعرا­ضية للانتقال إلى عقد اجتماعاته في الداخل، شمال غرب سوريا، حيث تسود تركيا والفصائل المرتبطة بها من جهة، وهيئة تحرير الشــام والقوى الواقعة تحت مطرقتها من جهة أخرى.

لا ريب أيضاً، فــي أن القوى والتيــارا­ت الديمقراطي­ة الأخرى، التي تتحرّك وتراوح فــي مكانها، من دون تقدم نحو وضع جديد فاعل، تستحق أيضاً وضعيّتها الضائعة بين الطرفين الســابقين الكبيريــن، على الرغــم من أنها قادرة على حســم الاتّجاه والعودة إلى الإمساك بالحلقة الرئيســية، لو كانت همتها ونشــاطها على ما ينبغي من الديناميكي­ة والإنجاز. ولعلّ استسهال بعضها اللجوء إلى مسار شعبوي عبثي، يزداد صخبه منذ فترة، يلجم نسبياً بعض قدراتها. مــن بين هؤلاء، من يســتحق اللوم أكثر، كأولئك الذين يرون في أنفسهم بعض» نخبة ديمقراطية» تمثّل بما تراه وتطرحه كتلة مهمة من الشــعب السوري، بقيمه الحضارية والثقافيــ­ة والمدنية المتعدّدة.. إذ ابتدأت لديهم حالة «المراجعة» ثــم تحوّلت إلى رجوع إلى المقاعد الخلفية بين المتفرجين.. حرصــًا على طهارة مزعومة على الأغلــب. ذلك كلّه «ســوري» خاص بالســوريي­ن في أحد وجوهه، ولكن الحقائق الموجودة حالياً غير ســورية في وجهها الأساســي. الأمــر الذي يضطرنا إلــى البحث في المعادلة الخارجية، وراء مشــروع مؤتمر دمشــق، بغضّ النظــر عن نوايا أهله. فمازالــت الخلافات العاصفة وراء الحدود، رغم بعض التهدئة مؤخراً، تنعكس على القضية الســورية، ومن ذلك الخلاف بين السعودية وتركيا، حول تركيبة هيئة التفــاوض، وظهر ذلك في وجود مجموعتين من المســتقلي­ن، يدافع الائتلاف ومن وراءه عن شــرعية إحداها، وهيئة التنســيق مع منصتي موســكو والقاهرة ومــن وراءهم عن شــرعية الثانية، بحيــث انعكس ذلك تجميداً لفعاليــة الهيئة، واقتصارهــ­ا تقريباً على ممثلي الائتــاف ومعهم ممثلو الفصائل العســكرية. بذلك يبدو مشــروع المؤتمر في ســياق توظيف خارجــي، لا يبتعد كثيــراً عــن الدوائر الروســية، التــي تعيد حاليــاً بناء اســتراتيج­يتها، بحيث تضمن عودة «القطاف» إليها قبل الجميع، وأكثر منهم. لم يكن دبلوماسيو موسكو والصين بعيدين عن حضــور المؤتمر، وربما مــع بركة بعض أهل الخليج أيضاً. كلّهم يشــمّون رائحة حلول مقبلة، لا بدّ من التحضير والتحضّر لها، بكلّ غنائمها الآنية والمستقبلي­ة، ونتائجها الاســترات­يجية أيضاً. أمّا في ما يخصّ النظام، فيبدو أن إغراء المزيد من تقسيم المعارضين له وتشتيتهم، لم يكف لجعله يوافق علــى انعقاد المؤتمر، على الرغم من اقتصاره على من بقي من هيئة التنسيق، وآخرين يبدو أن العديدين منهم كانوا ســيأتون من السويداء، وربما أيضاً من درعا - والاثنتين جنوب البــاد - كذلك لم يكن نظام الأســد متأكداً، على ما يبدو، مــن أن رضا بعض الأطراف العربيــة والدولية عنه حين يمرّر انعقاد المؤتمر، ســوف يمنع ما يلمســه من تراجع عن احتمال انتخاب رئيسه في موعده المخطط من جديد، لدى أكبر داعميه.

على الرغم من ذلك، كان عديدون يتمنون نجاح انعقاد المؤتمر، الــذي يضمّ الكثير مــن الديمقراطي­ين المخلصين، ومنهم أصدقاء ورفاق درب طويل، )على الرغم من التطيّر العفــوي من اســم التحالــف الجديد «الجبهــة الوطنية الديمقراطي­ة » الذي يذكّر باسم » الجبهة الوطنية التقدمية » ســيئة الذكــر والتاريخ، ومع حساســية مســتجدة من تعبير» الجبهات» ذاته، إضافــة إلى ذلك، تحتمل المعادلة اســتعادة بعض وهج هيئة التنســيق بعــد أن خبا؛ كما تحتمل استفزازاً مســتجداً كذلك لهمم بقية الديمقراطي­ين الســوريين، من أجل إنهاء مراجعاتهم الطويلة والتخلي عن الحذر والتلكّؤ والحساســي­ات النافلة.. ولن تستطيع تلك الشــماتة بقمع النظام لأصحاب المؤتمر، التي ظهرت لدى مــن فقــد بوصلته، تغييــرَ هذا الشــعور الإيجابي الغالــب، حتى يثبت العكس؛ أو تظهر عوامل جديدة تضع هذه البلاد المنكوبة على نسقٍ مغاير لما هو كائن.

يبدو أن مشروع مؤتمر دمشق لا يبتعد كثيراً عن الدوائر الروسية، التي تعيد حالياً بناء استراتيجيت­ها، لتضمن عودة «القطاف» إليها قبل الجميع

 ??  ?? موفق نيربية*
موفق نيربية*

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Kingdom