Al-Quds Al-Arabi

المستثمر الأردني: عندما «يشتمك» بلاط السلطة

-

■ ما الذي يمكن أن يفعله مســتثمر ما من خارج نادي الكبار الذين يســتطيعون الولوج للســلطة في مواجهة العشــرات من الموظفين البيروقراط­يين الذين يلعنــون اللحظــة التي اضطرتهــم لرؤية مستثمرين أصلا؟

الســؤال له علاقة بمــا يجري مع المســتثمر­ين مــن الشــرائح الصغيرة والمتوســط­ة في المشــهد الأردني، حيث حيتان الاســتثما­ر الكبار شــركاء للســلطة ورموزها في كل شــيء، ولا يقترب منهم أحد، ويمكنهم عند حصول مشــكلة مــع موظفيهم أو مرافقيهم أو مصانعهم الاتصــال بأكبر رأس في الحكومة ومعالجتها.

وفقــا لنظرية «التفريغ» الفيزيائية لا يســتطيع جيــش من صغــار الموظفــن البيروقراط­يين حتى مصافحة هؤلاء الحيتان أو الاقتراب من محمياتهم الطبيعية، فيتم تفريغ كل أنواع الكيد البيروقراط­ي ومشــتقاته ومنتجاتــه، تحت عنــوان تعذيب أو الإصــرار على تعذيــب من يقــع في الشــبكة من المستثمرين المتوســطي­ن أو حتى الصغار وأصحاب المصالح الذي يعتقد بدورهم أنهم يديرون الاقتصاد الخدماتي وينتجون عشــرات الآلاف من الوظائف للبشر.

مزالــق الأنظمــة والتعليمــ­ات والتفتيش التي تمارس كل أنماط الادعــاء والحرص على القانون كثيرة ومتعددة. ثمة مقولة نرددها نحن كمواطنين دوما عند الاســتعدا­د لموســم التفتيــش الصيفي

والشــتوي على الســيارات، فرجل المرور صاحب الســلطة والاختصاص في الشــارع، ســيخالفك حتما إذا أوقفك بنية مخالفتك. والســبب ليس فقط مزاج الشــرطي هنا، بل الإطار القانوني الواســع، والنصوص المطاطة التي يمكنهــا أن تؤدي لمخالفة الســيارة عند التنقيب والتفتيش عن أي عيب فيها أو في السائق، فالنصوص واللوائح مرنة ومتسعة وحمالة أوجه. إذا أوقفك بنية المخالفة، ســيجد ما يكتبــه على ورقــة الغرامة.. يعــرف الجميع ذلك، ويتداوله الناس كنكتة بيروقراطية.

ســألت أحد موظفي الطبقة الوســطى في دائرة الضريبة مرة عــن قاعدة العمل المتبعــة، فقال لي عبارة مضحكة وغريبة لكنها مهمة: «إذا اســتطعت «مغيب» وإذا وقعت فعليك الوقوع كرجل طيب.»

تلك عبارة ملغزة لا وجــود لآلية قانون صارمة فيها، فالمســألة تدار بالصدفة ووفقا لمعايير الغياب والطيبة والوقوع بالمزاج المطاط أيضا.

كان ذلك طبعا منذ ســنوات طويلة، والمسألة لا تتعلق فعلا برجلي الضريبة والمرور، فأصل القصة سلوكي، وكنا يوما في الأردن نشتكي لا بل تشتكي معنا القيادة من الزحام الشديد في جهات التفتيش والرقابة، حيث تفتش على الأردنيين وأعمالهم نحو 17 مؤسسة، ولا زلت شخصيا أذكر ذلك اليوم الذي قــال فيه مســؤول مرجعي كبير أمامي في جلســة خاصة لها علاقة بمشكلات الرئيس السوري بشار الأســد، أن مشــكلة الأخير الرئيســية، هي تزاحم

وتعدد الأجهزة والأفرع الأمنية لديه.

نحمد الله في حالتنا الأردنية على أن مرجعيتنا الأمنية واحــدة، وإن كانت لا تبــدو كذلك أحيانا. لكن نريد أن نحمد الله يومــا على توحيد مرجعية المراقبــة والتفتيــش، والتي يعاني منهــا المواطن والقطاع الخاص، وتؤدي إلى سلســلة لا متناهية من تعذيب صغار المســتثمر­ين، والمتوسطين منهم تحديدا، لأن كبارهم وحيتانهم لديهم نفوذ وقدرات عجيبة على إظهار ما تتمتع به التعليمات القانونية من مرونة عندما يتعلق الأمر بمخالفاتهم.

يتألــم مســتثمر ما، ويذهــب للتحقيــق بتهمة الفساد آخر، ويدفع مستثمر ثالث ثمن ورقة رسمية مختومــة حصل عليها في الماضي ضمن تســهيلات حزمة تشــجيع الاســتثما­ر، فتلغى قرارات سابقة وتراخيص على أساسها بني الاستثمار ودفع المال، ويتغير مزاج المســؤول البيروقراط­ي ويســتطيع أصغر موظف إعاقة أكبر مســتثمر فــي القطاعات المتوســطة عبر إغراقــه بسلســلة لا متناهية من الاشتراطات والمراقبات والتعديلات والتصويبات.

يعبر مستثمر شــاب أعرفه جيدا بين المؤسسات البيروقراط­يــة لمتابعة أوراقه فيشــعر بأن البلاط الذي يمشي عليه يبلغه».. عليك اللعنة .«

وينجــح، بعد تدخل وســطاء ووجهاء ونواب، آخر فــي الوصول إلــى صاحب القــرار الأول، أو الوزير المختص فيســمع ســيلا من الكلام المعسول والمنمق، عــن توجيهات ملكيــة ومرجعية صدرت

للجميــع بإظهــار الفخــر والاعتــزا­ز بالمســتثم­رين الشباب، ودعمهم وتسهيل أمورهــم، وســرعان مــا يســتدعي الوزيــر أركان وزارته لكي يعيد نفس الخطاب أمامهم.. يحتســي صاحبنا المســتثمر هنا قهوتــه الوزارية فرحا بما ســمعه، ويغادر مطمئنا بأن القرار السياسي يلتزم بمضمون التوجيه المرجعي في حالته.

يبــدأ القوم تحــت الوزير بالتربــص والترصد والحفــر لإثبات أن القدرة الحقيقيــة بعد الله لهم، وليــس للوزير، وتبــدأ عملية التنقيــب والنكش على المرفق الاســتثما­ري، وتختــرع مخالفات من النوع الذي يخرس الوزير نفســه، حتى يتم إثبات أن من شــرب القهوة لا يســتحقها، مع أن المســألة قد تكــون أحيانا خلافا لذلك، فالغرق في شــبكات البيروقراط­يين الصغار القادرين على التسبب بألم، يشــبه نزع الأســنان بدون مخدر، وبصفة يومية، مسألة معقدة في الأردن ولها خلفيات متعددة.

يعلــم الجميع ذلــك من القمــة إلــى القاعدة. وتشتكي القيادة من ذلك قبل المستثمرين، لا بل ثمة رسائل ملكية مباشرة لها علاقة بتوحيد الجهة التي تتعامل مع المستثمرين، لكن مؤسسات الحكومة لم تلتزم بعد.

 ??  ??

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Kingdom