Al-Quds Al-Arabi

رواية فرجينيا وولف «أورلاندو»: النساء كمستعمَرات محررة

-

■ لعــل أهــم مــا يميــز الكاتبــة والناقدة الإنكليزيـ­ـة فرجينيا وولف، انشــغالها بخلق الجديد المختلف المغاير، ولــم تكن هذه رغبتها في التغيير وحســب، بل لأنها كانت تستشعر الحاجة الماســة إلى ضــرورة التغيير، وطرح فكــرة الاختلاف، ليتعايــشَ الجميع في محبة وســام، وليكونَ الأفــراد ذواتهم، بــدلاً من ارتدائهم وجوهاً وأقنعةً وقوالبَ لا تشبههم.

تحقــق ذلك مــن خــال تجريب عــدد من الطرائق والأساليب في طرح تصورها للحياة الإنسانية، وتحقيق فردانية الذوات الإنسانية. من أهم الأســاليب الوولفية، كان تيار الوعي، الــذي يغــوص في أبعــاد النفس الإنســاني­ة والتداعيــ­ات الحــرة والأحــام والذكريات، لإظهار هذا العالم المسكوت عنه إلى الملأ، مقدمة تصورات مختلفة للشــخصية الأدبية، بخلاف طريقة الرسم الخارجي للشخصيات.

وثاني هــذه التقنيــات هي إبــدال مواقع القــوى للــذوات الإنســاني­ة، بحيــث تضع الضعيف في وضعية القــوي لتبادل الأدوار بينهما، مهتمــة بتوضيح وجهة

نظر الضعيف والدونــي والمهمش، وهو يلعب دور القوي مثلما تخيلت أن لشكســبير اختاً، ســمتها جوديث شكســبير، وبينــت في هذه القصة المتخيلــة أن هذه الاخت لــو أرادت أن تكتب الشعرَ وتعيشَ مستقلة، فإنها ستتعرض إلى سلســلة من العراقيل التي ســترميها في طريق النهاية التقليديــ­ة لأي امرأةٍ حاولت أن تختلف في دورها عن أدوار النســاء المتعارف عليها فــي المجتمعات الأبوية. وهــذا ما فعلته في رواية «أورلاندو» وهــي رواية من روايات الخيال العلمي.

تقول فرجينيا وولف عن رواية «أورلاندو» في يومياتها: «إنها ســيرة حيــاة تبدأ في عام 1500 للميلاد، وتستمر حتى يومنا هذا، وتدعى أورلانــدو؛ أي «فيتــا» عينها، لكــن مع تغيير واحدٍ فقط، إذ ينقلــب أورلاندو من جنسٍ إلى آخرَ. وأظن أنني سأعمد إلى تسريع إنجاز هذا

العمل أسبوعاً واحداً، إكراماً

لنفسي». (كونتين بيل، فرجينيا وولف: سيرة حياة، 1993) من يقرأ الرواية يعلم أن الشخصية الرئيسة، شخصية أورلاندو، ليست رجلاً/ امرأة، إذ تقدم الرواية قصةَ شــاعرٍ يتحول إلى امرأة، وتأخذ من قصائــد صديقتها فيتا اقتباســاتٍ تضمنُها في الرواية، ويأخذ الشــاعر مــدة ثلاثة قرون لإنهاء شعره ونشــره. ويظهر في الرواية عددٌ من الشــخصيات الشــهيرة على مرّ العصور. لم تكن الرواية مجرد ســيرة لصديقتها المقربة ، لكنها أيضاً صورة لتاريخ الأدب الإنكليزي، الذي كان فيه الشعر فناً ذكورياً، فتحول في القرن التاســع عشــر إلى فن تنافســي مع الرجل. يبين أحد النقاد أن أورلاندو تتمتع بصفات ذكوريــة وأنثوية في الوقت عينه، بحيث يكــوّن الرجل والمرأة معاً، جوانــبَ مختلفة من الشــخصية نفســها. في الواقع، أصبح أورلاندو امــرأةً لا أحدَ ينكرها. لكن، في جميــع النواحي الأخرى، ظــل أورلاندو على وجــه التحديد كما كان. تبدأ أحــداث الرواية زمنياً بضع ســنوات قبل نهاية القرن السادس عشــر، وتســتمر إلى ما يقارب 350 عاماً. تقوم روايــة «أورلاندو» التي اتخــذت أســلوب كتابــة الســيرة الذاتيــة، على فكــرة أن بطل الرواية أورلاندو شاعر أرستقراطي من طبقة النبــاء، يعيــش كل أدوار الذكــورة في حيــاة متخمــة بتفاصيــل الترف والبذخ، ما كان أســلوب حياة النبلاء في العصر الفيكتوري، ثم يعمل سفيراً في تركيا، حيــث يتحول إلى امرأة، إلى فتاة تعيش طقــوس الأنوثة، وتعيش أورلاندو فتــرة من الزمن عنــد الغجر. إن فكــرة التحــول مــن الذكــورة إلى الأنوثــة فكــرة أصيلة تحمل كثيــراً من الدلالات العميقــة. أولى هذه الدلالات أن تحول أورلانــدو من رجل إلــى امرأة هو إشــارة إلى تحول التاريخ البطريركي من تاريخ يصنعه الرجال، إلى تاريخ يشــهد دخولاً كبيــراً للمرأة كفاعــل اجتماعي وفكري وحضاري. الأمر الثاني، توحــي هذه الرواية بدخول المرأة ككاتبة ومبدعة وشاعرة، بعد أن كان التاريخ حافلاً بالشــعراء، وبينت ذلك في الرواية من خلال علاقة أورلاندو بالشــعراء، ومنحهم الهبات والأموال. والأمر الأهم، هنا، أن فرجينيا وولف تحول أفكارها النظرية المجردة إلى محــاكاة تخيلية في رواية متكاملة، تحضر فيها شخصية المرأة والرجل لتحدث الأثر الأكثر عمقاً، من خلال تجســيدها عبر تفاصيل دقيقة مؤثرة.. وهذا ما سأركز عليه في هذه القراءة.

حقيقةً، وأنــا أقرأ الروايــة، وأرى تفاصيل المجتمــع الفيكتوري المتجســدة فــي الرواية، شــعرت أن وولف لا ترصد تفاصيل المكان من باب أداء مهماتها السردية كروائية وحسب، بل هي ترسم نهاية هذا العصر وتفاصيله الدقيقة بتهكم شــديد، هذا العالم الــذي تبنى الرؤى الفوقيــة والإمبريال­ية، على الرغم من أن بعض الدراســات أشــارت إلى فكرة افتخار فرجينيا وولف بهذه التفاصيل.

هذه الرواية، التي تشــتغل وتؤصل لنظرية نســوية أصيلة، تتمثل في مفهــوم «الأدائية» لــدى المفكــرة الأمريكيــ­ة جوديــث باتلر في كتابها «مشــكلة النوع» تقدم أيضاً نقداً يتلاءم مع طروحــات نظرية ما بعد الاســتعما­ر، على الرغم من أنها لم تشــهد عهدَ ما بعد الاستعمار. منذ بدايــة الرواية تطالعنا صــورة الأوروبي المتفــوق، والافريقــ­ي التابع الدونــي، وهذه الثنائيــة تظهــر بوضوح فــي أول صفحة في الرواية:

«كان هو- ولا مجال للشــك في جنسه، على الرغم من أن الدرجَةَ السائدة آنذاك كانت تسهم في تمويــه ذلك - آخذاً في تقطيع شــرائح من رأس رجل مغربــي، كانت تتأرجح من عوارض الســقف، ولها لون كرة القدم العتيقة وشكلها تقريبــاً، باســتثناء الوجنتــن الغائرتين... كان والد أورلانــدو، وربما جده قــد قطع هذا الرأس من فوق كتفَي وثنــي ضخم الجثة، برز فجأةً تحت ضوء القمر في الحقول الوحشــية لافريقيا ». (الرواية(

منذ البدايــة، تقوض الرواية هــذا التاريخ الذكــوري الــذي بُني علــى الدم واســتعمار الشــعوب، والنســاء آخرهــم، فــي هــذه الإمبراطور­ية العظيمة التي لا تغيب عن أطرافها الشــمس. تنطلق في الرواية صورة بريطانيا العظمى، وتســجل تفاصيل الحياة الإنكليزية، مقارنة إياها بالشعوب الأخرى، متأثرة بمعجم والدها ليزلي ســتيفن «معجم السير الوطنية» وتجربة زوجها ليونارد وولف عندما كان يعمل في الســيلان قبل اســتقالته. تناقش الرواية صورة الأنا والآخر مــن منظور إمبريالي. تبرز وولف قوة وعظمــة الإمبراطور­ية البريطانية، مواجهة إياهــا بالآخر، مثل صورتَي روســيا وتركيــا، وتناقــش تصــورات كل ثقافة نحو الثقافة الأخرى، وهذه النظرة محكومة بطبيعة العلاقات الفوقيــة والدونية، فوقية الإنكليزي ودونية التركــي، والغجر. كما تقــدم الرواية تصورات وانطباعات مختلفة لكل فرقةن وكيف تنظر إحداها إلى الأخــرى. مثلاً، تنظر جماعة الغجر إلى أورلاندو بأنها لا تقوم بالمهام المنوطة بها مثل بقية النساء، في حين هي تقارن أسلوب حياتهم بأسلوب حياتها؛ يعيشون في الطبيعة والبســاطة، أما هي فتملك قصراً بعدد كبير من الغرف، ومعرفةً واطلاعاً واسعين، إذ كان نهماً ويرى «الفنون والعلــوم تتحلى بالتنوع الذي يحرك فضوله على نحو عميق». (الرواية(

أما المناقشــة الثانية المهمــة، التي تبدت في الرواية، فهي فكــرة الأدائيــة والتطبيع، كما اتضحت لدى المفكرة الفرنســية ســيمون دي بوفوار، التابعــة للموجة النســوية الثانية، وعلــى نحو أكبــر المفكــرة الأمريكية جوديث باتلر التابعة للموجة النســوية الثالثة. تقول ســيمون دي بوفوار، إن المرأة لا تُولد امرأة بل تصبح امرأة، ما يعنــي أن التربية الاجتماعية المتوارثة هي التي تجعــل المرأة تمارس دورها المرســوم لها منذ عقود. جوديــث باتلر، التي شــكلت الموجــة النســائية الثالثــة، ونقدت مفهــوم الأدائيــة الذي تعيشــه المــرأة، وفق الطريقــة التقليدية المتوارثة والمشــكلة لوعي المرأة. انقلبت علــى أداء دورها كامرأة ضعيفة تســتقي دورها المتوارث منذ سنين، كما تقول جوديثباتلر­مؤلفة« .»

هي تقول باختصار إن المــرأة صنعت أدوارها كمؤدية لِما يريده الرجــل والمجتمع منها... ثم فككت هذا عبر معطيات لغويــة واجتماعية.. وهذا الشــيء قديم، وله جــذور تاريخية، ثم توارثته المرأة عبر العصور، ما يعني أن ضعف المرأة وتخلفها كل هذه القرون لم يكن طبيعياً، بل كان مصطنعــاً. وهذا ما جعل جوديث باتلر تقول إن هذه الممارســا­ت تتم ممارستها كأنها جــزء أصيل وطبيعي من هويــة المرأة، وكذلك الرجل، من خلال الدور الذي رُسم للمرأة، ومن خلال التكرار عبر الزمن، إلــى درجة أن المرأة تشعر بأن هذا أصبح جزءاً من طبيعتها.

في روايــة «أورلاندو» وعلــى الرغم من أن وولف كانت سابقة زمنياً للمفكرتين، الفرنسية والأمريكيـ­ـة، إلا أنهــا أتت برؤية مشــابهة لِما طرحتا، وقدمتها كأنمــوذج عملي في روايتها، وهو تحــول أورلانــدو، التي مارســت أدوار الذكورة، ثم مارست أدوار الأنوثة. يشير كثير من الدراســات إلى أن بطلة الرواية على الرغم من أنهــا متحولة إلى امــرأة، وأدت كل المظاهر الشــكلية من لبس وتصرفــات أنثوية، إلا أنها فــي جوهرها وســيكولوج­يتها بقيــت رجلاً، مبينة أن كونها رجلاً مدة قرنين من الزمن، جعل هذه الممارسات تتجذر في شخصيته/ها. تبين الرواية كيــف تعيش المــرأة الأنوثة وتمارس هذه التفاصيل. تقــول وولف في كتابها «غرفة تخص المــرء وحده»: «إنه أمــر مهلك أن تكون رجلاً صافياً أو امــرأة صافية». من هنا نفهم أن نهج وولف في العلاقات كان شاملاً، واستوعب علاقتها مع ساكفيل ويست في حياةٍ اجتماعيةٍ غنية، دون محاولة تعريــف، أو إعادة تعريفِ نفسِــها في هذه العملية. وهذا ما أرادت وولف أن تقوله في هذه الرواية.

٭

 ??  ?? فرجينيا وولف
فرجينيا وولف
 ??  ??
 ??  ??

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Kingdom