Al-Quds Al-Arabi

عن مستر غوين الذي لا يطيق الشهرة

-

■ فجأة، بعد أن حقّق شهرة واسعة من رواياته، قرّر جاسبر غوين، ألا يعود إلى القيام باثنين وخمســن شــيئا مما كان يفعلــه، ولكــي يلزم نفســه بقراره ذاك، نشــر قائمتــه تلــك فــي صحيفة «الغارديان». معظم ما أراد التوقّف عنه، كما توضح تلــك القائمة التــي لم يُذكر أكثر بنودها، يتعلّــق بالكتابة والكتب. أراد أن يعيــش كشــخص عادي، وأن لا يتعرّض للالتقاء بأشــخاص يسألونه، في ما هو يمشي على الطريق، أو ينتظر في عيــادة طبيب الأســنان، «عفوا، هل أنت جاسبر غوين؟».

لكــن لــم يكــد يمضــي وقــت علــى اعتزالــه، أو اختبائه، حتــى خطر له أن يعــود إلــى الكتابــة. لكن ليــس الكتابة التي أوصلته إلى الشــهرة. ما أراده هو أن يصير ناســخا، وهذا ما دفع ناشره وصديقــه إلى فقد صوابه. ربما أعجبته العبــارة )ناســخ( التــي بــن دلالاتها، إرجــاع الكتابة إلــى أزمنتهــا الماضية. وهــو، علــى أي حــال، كان قــد فكّــر كثيرا فــي الاحتمالات الممكنــة لما تعني وظيفة الناســخ. أما مــا اهتدى إليه في النهاية فهو نســخ البشر، أفرادا وليس مجموعات.

بــذل أليســاندر­و باريكــو، كاتــب الروايــة*، الكثيــر مــن الجهد ليفسّــر لقرّائــه مــاذا يعنــي خيــاره ذاك. أمــا مــا اعتمــده لإيضــاح ذلــك، فالســرد وليــس صياغة الأفــكار المجــرّدة. فهو بــدأ تفســيره لمــا ســيقوم بــه بوصف زيــارة قــام بهــا بطلُــه جاســبر غوين إلــى معرض فنــي. هنــاك أذهلت غوين الشــخصيات التي تُصوّرُها اللوحات، شــبه عاريــة، ومنزويــة علــى نفســها رغــم أن المكان المتخيّــل ينبغي أن يكون مزدحمــا بــروّاد كثيريــن. أراد الكاتب أن يصــل إلــى المشــاعر والأفــكار التي تركتهــا فيــه اللوحــات، وأن يوصــل مشــاعر تماثلها، لكن عبــر الكتابة. هذا ما يكســر الحــدود التي تفصــل طبيعة كل مــن الفنون، ويهــدم القواعــد التي تميّــز كل فنّ عن ســواه طــوال تاريخه الطويــل. أي أنــه أراد أن يرســم لكــن بالكتابة. لذلك كان عليه أن يخلق المناخ المكانــي، المــادي، ذاك المتوافــر بداهــة للرســام. أما هو فعليــه أن يخلقه. أولا

أن يكون له اســتوديو حدّد مواصفاته بدقة: أن يكون واســع المســاحة، فارغا تقريبا من الأثــاث، ظاهرةً على جدرانه ملامح القــدم، إلخ. ثم، لكــي يتمّ عزله تماما عن العالــم الخارجي، ينبغي أن تٌففــل نوافذه وتتردّد فيه الموســيقى «كخلفية صوتية قادرة على أن تتغيّر مثلما يتغيّر الضوء أثناء النهار». أما الإضــاءة فأوصــى عليهــا كهربائيا من مســنّي منطقة «كامــدن» ثمانية عشــر مصباحا تضيء فترة معينة، كمــا هي حيــاة البشــر والمخلوقات الأخــرى، ثــم تنطفــئ متدرّجــة مصباحا بعد مصباح.

فــي الاســتودي­و راح غويــن يســتقبل زبائنــه الراغبــن في أن تُنســخ شــخصياتهم، فــرادى. الزبــون الواحد يأتــي، على مدى زمنــي يقــارب الشــهر، ليمكــث هنــاك، عاريا، صامتــا، يتحرّك، أو لا يتحــرّك، تبعــا لمــا يشــاء. هــؤلاء، ذكــور أو إنــاث، تتنقّل بينهــم الروايــة، بالتتابــع، مــا يظهــر الاختلاف الجوهري بين

واحدهــم والآخــر، علــى الرغــم من أن «ناسخهم» لم يقرأ إلا الأوضاع المختلفة التي تتخذها أجسامهم العارية.

فــي نقــل أفــكاره عــن الكتابــة،

وهــذه تمثّــل موضــوع الروايــة، يتابع أليســاندر­و باريكو سرده الجانح نحو البوليســي­ة. ما نتابــع قراءته هو مزيج من التشويق الروائي والتفكير بالأدب. بالترافق مع اختفــاءات بطله المتكرّرة يتضــح لقرائه، عبر شــخصية ريبيــكا، المجهولــة دائما طبيعة علاقــة البطل بهــا، في أي عمق مــن وعيــه تُقيــم الكتابــة. لكن ليصحّ هذا المزج بين النقيضين، التفكيــر الخالــص والســرد المشــوّق، كان لا بــدّ مــن الإكثار مــن التفاصيــل، ومــن إضافــة شخصيات بلا أدوار فعلية، مثل تلك المــرأة التــي يعرّفهــا الكاتب بـ»الســيدة ذات الوشــاح الواقي من المطــر». هــذه الســيدة ظهرت فــي مطلــع الروايــة كشــخصية واعدة باستمرار الحضور، إلا أنها تحولت بعد ذلــك إلى مجرّد محطة تذكّــر تظهــر بين الحــن والآخر، لا تفعل شــيئا، لا تبدّل شــيئا، لا أكثر من أن تُتذكّر لتختفي. مســتر غويــن كاره

للشــهرة،

لكنــه وجــد طريقة، بــل طرقــا، ليكتب مــن دون أن يشــتهر. مــن هــذه الطرق مهنة النَسْــخ التي كانــت تتحصّل منها بروفيــات يكتبهــا عــن زبائنــه، وهذه غيــر متاحة قراءتها إلا للشــخص الذي هــو موضوعهــا. بــن طــرق الاختفاء مــن الشــهرة إصــدارُه لكتب بأســماء كتّــاب وهميــن، بعضهم لقي شــهرة، كمــا أرجع بعضهــم إلى أزمنــة ماضية فكانت كتبهم، في ما يشــيِّع، تُنشر بعد وفاتهم. أمــا الأشــخاص الذين أجرى لهم بروفيلات، في مهنتــه تلك، فكانوا ســيجدون مــا كتب عنهــم فــي أعمال تحمل أسماء كتّاب آخرين.

«مستر غوين» سرد معقّد لشخصية معقّــدة، منها يريد الكاتــب أن يصل بنا إلــى معرفــة كم هــي مرهقــة ومضنية عمليــة الكتابــة. وكم أن الوصــول إلى مــا يريــد الكاتــب منها صعــب ويرقى احتمال تحققه إلى مرتبة الاســتحال­ة. ذاك أن ســعي مســتر غوين، كما سعي كاتبــه أليســاندر­و باريكــو، هــو نحــو جوهرية الأفــراد، كيانيتهم غير المدركة إلا بطــول التأمّل، وليس نحو عيشــهم اليومــي. ذاك أن البشــر مكوّنــون مــن أنفسهم ومن أشــياء خارجهم. الواحد منا ليس شــخصيته فحســب، «لســنا تلك الشــخصية فحســب، نحن الغابة التــي تســير فيهــا، والشــرير الــذي يخدعهــا، الأصــوات المحيطــة بها، كل الأشخاص الذين يمرّون، لون الأشياء، الضوضــاء». هل من أجــل أن يتخلّص مســتر غويــن مــن كل هــذه الإضافات راح يعزل شــخصياته، عراة، مجرّدين من كل ما هو خارجهــم، ليمكن له بلوغ جوهرهم؟

• رواية أليســاندر­و باريكو «مســتر غويــن» صدرت عــن منشــورات الجمل بترجمــة أماني فــوزي حبشــي في 200 صفحة، سنة 2021.

٭

 ??  ??
 ??  ??

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Kingdom