Al-Quds Al-Arabi

فيلم وودي ألن «منتصف الليل في باريس» وسحر الزمن الجميل

-

■ يتملك المــرء حلم يقظة متكرر يذكره بالزمن الجميل من الماضي، الذي يرى فيه أناســا يفتقدهم بمرارة، لأنه عرفهــم أو قرأ عنهم، وفقدانهم يســبب ألمــا يعصر قلبه، ويســتمتع المرء بهذا الحلم، على الرغم من الإحســاس بالحزن، لكونه لن يعود. ويزداد تفكير كل إنسان تقريبا بالزمن الجميــل، كلما تقدم بالســن خاصــة عند تفاقم المشــاكل والهموم. لكن إلى أي درجة من الممكن أن يتعلق الإنسان بالماضي الجميل؟ كان هذا موضــوع فيلم «منتصف الليــل في باريس»

الــذي قد يكون أفضل أفلام الممثل والمخرج والكاتب الأمريكي وودي ألن، حيث كانت القصة الخيالية ذات مغزى يلمس أكثر مشاعر الُمشاهد حساسية. وكان اختيار الممثلين موفقا، وكذلك الإخراج الرائع الذي جعل تطور الأحداث سلسا، ما جعل المشاهد يتابع الفيلم بسهولة واستمتاع، وكأنه حلم جميل. أما أحداث الفيلم، فكانــت جميعها في العاصمة الفرنســية «باريس» حيث تناول الفيلم حقبا مهمة من تاريخها الحديث غير معروفة لأغلبية المشاهدين.

أحداث الفيلم

تدور أحداث الفيلم في باريس عام 2011، حيث يقضي كاتب سيناريو الأفلام «جيل» وخطيبته ووالداها العطلة الصيفية فــي باريس. وكان «جيل» يطمح لأن يصبح أكثر من مجرد كاتب سيناريو، ويصبح كاتبا للروايات. ولذلك كان قد بدا بكتابة روايته الأولى عن شــخص يملك متجرا للذكريات، مقتبســة مــن حياة «جيل» نفســه وتجاربه مــع خطيبته. لكن هــذه الخطيبة لا تشــاركه طموحاته الأدبية، وتســخر من الرواية طالبة منــه الاقتصار على كتابة ســيناريو الأفلام. أما والداها الثريان، فلا يخفيان كرههما واحتقارهما له، غير آبهان بمشاعره. ومما زاد من توتر الموقف الخلاف بين الخطيبين، إذ يفكر «جيل» جديا بالانتقال إلى باريس، التي وجدها جذابة، لاسيما عندما ينهمر المطر، ما يجعله يشــعر بالإلهام للكتابة الروائية، بينما ترغــب خطيبته الســكن فــي ولايــة كاليفورنيا الأمريكيــ­ة. ويلتقــي الخطيبان بأحد أصدقــاء الخطيبة وزوجته، وأثناء زيارة الجميع أحد المتاحف الباريســي­ة، يقوم ذلك الصديق باســتعراض معلوماتــه الثقافية عن المعروضات، ما أثار اعجــاب الخطيبة وامتعاض «جيل». وبعد قضاء الجميع أمسية في إحدى حانات باريس، يقرر «جيل» الذي كان قد ثمل بعض الشيء، العودة إلى الفندق مشيا بينما يقرر الآخرون العودة في سيارة أجرة.

وأثناء ســيره في أجواء باريس الليلية، يسمع دقات الســاعة معلنة منتصف الليل، وإذا بسيارة من سنوات العشــريني­ات تقف أمامه وعلى متنها أشخاص يرتدون ملابس تلك الفترة، ويدعونــه للانضمام إليهم في حفلة، ويوافق «جيل» دون تردد. ويدخــل الجميع مكانا غريبا من فترة العشرينيات وفيه حفلة راقصة وصاخبة أثارت إعجاب «جيــل» الذي يلاحظ شــيئا غريبا فــي أجواء الحفلة، فالموســيق­ى والرقصات وأزياء الحاضرين، وكل ما في المكان يعود إلى فترة العشــريني­ات، فيشعر وكأنه فــي فيلم ســينمائي عن تلــك الفترة، ما أصابــه بالقلق والدهشة. في تلك الأثناء وجد نفســه أمام شاب وشابة في العشــريني­ات من عمريهما في غاية الأناقة، فســألهما أين هو، والارتبــا­ك واضح على محيــاه. وكان جوابهما إنها حفلة الشــاعر الفرنسي الشــهير جان كوكتو، وإذا بـ»جيل»يصاب بصدمة، حيث اكتشــف فجاة أنه يتكلم مع الكاتب الأمريكي الشهير سكوت فيتزجيرالد وزوجته زيلدا، اللذين كانا من ســكان باريس في العشــريني­ات،

وهــذا يعني أنه انتقــل بطريقة ما إلى تلــك الفترة. لكن كيف؟ وقبل أن يجد الإجابة لهذا الســؤال تشــعر زيلدا بالملــل، فتأخــذ «جيل» وزوجهــا إلى جولة فــي حانات باريس، ويلتقــون بشــخصيات فنية كثيــرة من فترة عشــرينيات القرن العشــرين مثل الراقصــة الأمريكية جوزفين بيكر، والكاتب الأمريكي أرنست همنغواي، الذي يخبر زيلدا، أن روايتها الجديدة ضعيفة، ما يثير غضبها، وتغادر الحانة منزعجة مع مصارع ثيران إسباني شهير، وســرعان ما يلحقهما فيتزجيرالـ­ـد، قلقا من كون زوجته وحيدة مع ذلك الإســباني المعروف بعلاقاته النســائية. ويدخل «جيل» في نقاش أدبي مع همنغواي، الذي يخبره عن استحالة الكتابة إذا كان الكاتب يشعر باليأس، وإذا كانت المرأة التي يحبهــا الكاتب لا تجعله يتخلى عن ذلك الشعور، فعليه البحث عن حب حقيقي لدى امرأة أخرى، وأن عليه ألا يتردد في الكتابــة الجدية، إن أراد أن يكون الأعظم في الكتابة، لكنه لن يكون الأعظم بســبب وجود همنغــواي طبعا. ويطلــب همنغواي منــه اطلاعه على روايتــه، التي يحــاول إنهاءها كي يعرضهــا على راعية الكتّاب الأمريكيين في باريــس، الكاتبة المعروفة غرترود شــتاين. ويخرج «جيل» من الحانة مسرعا باتجاه فندقه لجلب مخطوطــة روايته، لكنه عندما يعــود إلى الحانة يجد نفســه قد عاد إلى عام ألفين وأحد عشر، وأن الحانة أصبحت محلا لغســل الملابس. لكن هذا لا يحبط «جيل» ففي الليلة التالية يسير في الشارع حاملا روايته ويسمع دقــات الســاعة معلنة منتصــف الليل، وإذا بالســيارة الصفراء تتوقــف أمامه وفيها أرنســت همنغواي، الذي يدعوه للانضمام إليه. ويذهب الاثنان إلى منزل غرترود شــتاين. وهناك يلتقي «جيــل» بالرســام العالمي بابلو بيكاسو وعشيقته التي كانت تعمل موديلا لديه «أدريانا» التي تبدي إعجابها بـ»جيل» وتخبره أنها تعشــق الزمن الجميل. وتتكرر زيارات «جيل» للماضي، ويلتقي بأشــهر فناني ومثقفي تلك الفترة، مثل الرســام الإسباني دالي. ويقلق غيابه الليلي المتكرر خطيبته، التي بدأت بالتساؤل إن كانت له علاقة بامرأة أخرى.

وفي صباح أحد الأيام يزور «جيل» بعد عودته إلى عام 2011 أحد المحلات المختصة بالأشياء القديمة، ويعثر هناك على مذكرات «أدريانا» التي تذكر فيها لقاءها بـ»جيل» في العشرينيات، وأنها كانت مغرمة به. وعندما يعود «جيل» إلى العشرينيات في تلك الليلة ويلتقي بـ»ادريانا» يصبح الانجذاب المتبــادل بينهما واضحا. وأثناء ســيرهما في الشــارع تتوقف أمامهما عربة يجرها حصان ويدعوهما أحد الركاب للصعود، ليجد الاثنان نفســيهما في باريس العقد الأخير من القرن التاسع عشر، ويلتقيان بالرسامين الفرنســيي­ن الشــهيرين بــول غوغان وتولــوز لوتريك وآخرين، ويذكر هؤلاء أن الزمن الجميل هوعصر النهضة فــي أوروبا. وتقــرر «أدريانا» البقاء في ذلــك العقد، أي تســعينيات القرن التاسع عشر، على الرغم من محاولات «جيــل» إقناعها بخطئها دون جدوى. ويكتشــف «جيل» أن لــكل فرد مفهومــه الخاص حول الزمــن الجميل، لكن الجميع يشــكون من العصر الذي يعيشــون فيه، ولذلك يعود «جيل» إلى فترة العشرينيات، حيث يقابل غرترود شــتاين مرة أخرى ويشــعر بالســعادة عندما تعبر عن إعجابها بروايتــه، التي أثارت كذلــك إعجاب همنغواي )إطــراء غير عادي لأي كاتب(، لكنها فاجأته باســتنتاج غريب، إذ أبلغته أن من الواضح وجود علاقة جنسية بين الخطيبة وذلك الصديق الذي يدعي الثقافة، فيستشــيط «جيل» غضبا ويعــود إلى عــام 2011 لمواجهة خطيبته. وبعد ضغط شديد عليها تعترف الخطيبة له بأنها مارست الجنس مع ذلك الصديق مرة واحدة فقط، وأن ذلك لم يكن شيئا يستحق الذكر. ويفســخ «جيل» الخطوبة، ويخرج ســائرا في شــوارع باريس ليلا هائما علــى وجهه حتى يلتقى صدفة بفتاة كانت تعمل في المحل الذي اشترى منه مذكرات «أدريانا» وتتكلم معه برقة أثارت مشــاعره، لكن المطر يبدأ بالهطول فيسير الاثنان معا. وهنا ينتهي الفيلم.

تحليل الفيلم

نجح المخرج وودي ألن، في جعــل الفيلم يبدو وكأنه حلم جميل، مســتغلا جمال مدينة باريس، إلى درجة أن الفيلم بدا وكأنه دعاية سياحية للعاصمة الفرنسية. وكان حريصا على تصوير بعض أجمــل مناطق المدينة، وكأنها لوحــة فنية. وكانت رســالة الفيلم أن الإنســان قد يحن إلى فترة معينة مــن الماضي، معتبرا إياه «الزمن الجميل» ويزيدها خياله جمالا بنســيان جوانبها السيئة، بحيث تبــدو تلك الفتــرة أجمل بكثير من الحقيقة، فمثلا كانت جميع الشــخصيات التي التقى بها «جيل» مثل همنغواي، ودالي، وبيكاســو، والآخرين مختلفين عمــا رآه «جيل» لانهم لــم يكونوا على الإطلاق لطفــاء في تصرفاتهم مع الآخريــن. وكان كل من ظهر في تلك الفترات الخيالية ســعيدا ومستمتعا في وقته. ويبين الفيلم كذلك أن تفســير مفهوم «الزمن الجميل» لا يشترك فيه الجميع، إذ لكل شــخص مفهومه الخــاص، فنجد أن «جيل» فضّل فترة عشــرينيات القرن العشــرين، بينما فضلت «أدريانا» تســعينيات القرن التاســع عشــر. ولا يلاحظ المــرء أن واقعه ليس في الحقيقة بذلك الســوء، وأنه بالإمكان التعايش معه إن حاول بجدية.

استعمل وودي ألن، موسيقى آلة الكلارينيت المأخوذة من الجاز، بشــكل ممتاز حيــث كان دقيقا في تنســيقها مع المشــاهد الباريسية الســاحرة. ولم يكن ذلك الخيار مفاجئا، حيث أن وودي نفسه معروف بعزف الكلارينيت، وإعجابه بموسيقى الجاز.

برع الممثلون في أداء أدوارهم، لاسيما أوين ولسن في دور «جيل» ورَيتشل مكادامز في دور خطيبته، وماريون كوتيــار فــي دور «أدريانا». وشــارك في الفيلــم، كذلك كارلا بروني، زوجة نيكولا ســاركوزي، الذي كان رئيس الجمهورية الفرنسية في فترة تصوير الفيلم.

باريس الماضي

لم يبالــغ وودي ألن في تصوير الحركــة الثقافية في باريس في تلك الحقبــات، حيث كانــت باريس عاصمة العالم الثقافية طوال القرن التاسع عشر، إذ لم تتمتع أي مدينة بتجمع هذا العدد من الشخصيات الفنية والثقافية المتعددة المجالات في الوقت نفســه، مثــل مدينة باريس. وكانــت جميع الشــخصيات الفنية في الفيلــم حقيقية، فغوغان ولوتريك، كانا من أبرز رســامي العالم في نهاية القرن التاسع عشــر. أما في العشــريني­ات، فقد حافظت

باريس علــى مركزها، لكن أبرز الشــخصيات الفنية فيهــا في تلك الفترة كانــت على الأغلب غير فرنســية، إذ كان همنغــواي وفيتزجيرال­د رمزي الأدب الأمريكي في القرن العشــرين. أما بيكاســو ودالي، فكانا من إســبانيا، وقد أسس الأول الرســم التكعيبي، بينمــا كان الثاني رائد الحركة الســيريال­ية في الرسم. وامتازت باريس بتجمع واضح لكبار الأدبــاء الأمريكيين في بداية العشرينيات، لأسباب كان أحدها منع بيع الكحول في الولايــات المتحدة الأمريكية عــام 1920 وحتى عام 1933، ما حرم الكثير من الأدباء الأمريكيين من أهم وســائل الترفيه لديهم، بينما لــم تكن هناك أي قيود على الكحول في باريس. أما الأسباب الأخرى، فكانــت رخص الحياة في باريــس مقارنة بالولايات المتحدة آنذاك، وكونها عاصمة العالم الفنية والثقافية الأولى، ما جعل الســكن فيها بالنسبة للكثيرين حلما بالغ الروعــة، حتــى أن الكاتب البريطاني الشــهير أوسكار وايلد، قال «جميع الأمريكيين الجيدين يذهبون إلى باريس عندما يموتون.» ومــن الجدير بالذكــر أن ذلــك التجمع مــن الأدباء الأمريكيــ­ن لم يتاثر بالحيــاة الفرنســية، ولم يحاول الاختلاط بالفرنســي­ين، بل إنهم لــم يحاولوا تعلم اللغة الفرنسية بجدية، حيث عاشوا حياة أمريكية في العاصمة الفرنســية. وبدا ذلك التجمع للأدباء الأمريكيين بالأفول في نهاية العشــريني­ات. كان تأثير باريس على همنغواي طاغيا، حتى أنه كتــب كتابا عن المدينة بعنوان «مهرجان متنقل». لكنه لم يكن أبداً ســعيداً فــي حياته، فقد عانى من مختلف المشــاكل الصحية والنفسية حتى انتحر عام 1961. وكانت أحداث أولى روايات همنغواي قد استُلهِمَت من حياة المصارع الشــهير للثيران الــذي نراه في الفيلم يخرج مع «زيلدا» وكان زير نســاء شهير. لكن نهاية ذلك المصارع لم تكن أفضل من نهايــة همنغواي، حيث انتحر هو كذلــك عام 1962. وبالنســبة لفيتزجيرال­د، فقد توفي عام 1940 في ســن الرابعة والأربعين، بسبب إدمانه على الكحول منذ أن كان طالبا في الجامعة.. وأما زيلدا زوجة فيتزجيرالد، فلم تحضر جنــازة زوجها وهي التي كانت مصدر ازعاج كبيــر له أثناء حياتــه، وأصيبت بأمراض نفسية شــديدة، جعلتها تمكث في المستشفى. لكن أثناء مكوثهــا هناك وضعها الأطباء في غرفــة مقفلة كي تتلقى علاجا بالصدمات الكهربائية، فــإذا بحريق هائل يندلع في المستشفى وتقتل زيلدا في ذلك الحريق بطريقة بشعة ومؤلمة، حيث وجدت جثتها محترقة إلى درجة أن التعرف عليها كان صعبا جدا. ما تــزال باريس المدينة الأجمل فــي العالم، وهي الآن أجمل مما كانت عليه في عشــرينيات القرن العشــرين. لكنها دون بيكاســو ودالي وكامــو وهمنغواي ودوماس وجــول فيرن وغيرهم من الذين أثــروا الثقافة الحديثة، فقد كانوا مثل تلك الحانــة النابضة بالحياة والتي كانت تعج بهــم وبالراقصين، لكنها أصبحــت الآن مجرد محل لغسيل الملابس.

 ??  ?? وودي ألن مع بطلي الفيلم أوين ويلسون وكاثي ماك أدامز
وودي ألن مع بطلي الفيلم أوين ويلسون وكاثي ماك أدامز
 ??  ??
 ??  ??

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Kingdom