ما الذي تخشاه إسرائيل من الانتخابات الفلسطينية؟
يســود في إســرائيل قلــق متزايد من احتمــال فــوز حمــاس فــي الانتخابات الفلســطينية، وتقــوم المؤسســة الأمنية بتوجيه التحذيــرات من هــذه الإمكانية إلى قيادة الســلطة الفلســطينية في رام اللــه وإلى أجهزة المخابــرات والقيادات السياسية في الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي.
وتفضّل إســرائيل بقاء الوضع الراهن كمــا هو عليه، حيث تحقق الأجهزة الأمنية رغبتها في اســتمرار الاستقرار والهدوء النســبي، ويحقق نتنياهو مبتغاه في تواصل حالة فلسطينية من الانقســام والتهميش، وغياب التحدّي السياسي. وتفضّل إسرائيل كذلك عدم التدخل المباشر والفظّ لإفشال الانتخابات، خشــية من ردود الفعــل العالمية، لكنّها تحــاول أن تفعل ذلك، بداية على الأقل، بوســائل ناعمة، عبر الســعي لإقناع القيادة الفلســطينية بفرملة المســار الانتخابي، مع إبداء الاســتعداد لتوفيــر «التبريــرات» اللازمة لذلــك. وإذا لم تثمر مســاعي «الإقناع»، خاصة بعد انتهاء الانتخابات الإســرائيلية، تقترب ساعة القرار السياسي الإســرائيلي بكل ما يخص الانتخابات الفلســطينية، بالســعي الفعّال لمنعها أو بالســماح بإجرائها، وســيخضع هذا القرار لتوصيات الأجهزة الأمنية، التي تتعامل مع هذا الموضوع وحدها، حتى الآن.
في ميزان الربح والخسارة، ترى إســرائيل أن الانتخابات الفلســطينية تحتمل احتمالا كبيرا للخسارة، واحتمالًا ضئيلًا لبعض المكاسب. ويجري حساب الربح والخسارة هنا انطلاقاً من الهدف المركزي وهو، إســكات الصوت الفلســطيني تماماً، واســتمرار الهــدوء الأمني النســبي، وإغلاق البــاب أمام أي تحرك سياســي دولي ضاغط على إسرائيل، ومواصلة تطبيق مشروع الإبادة السياسية للشعب الفلسطيني، وحصر القضية الفلسطينية في مجالات الأمن والاقتصاد لا غير.
تحلم بعض الأطراف الأمنية والسياسية في الدولة العبرية، بتحقيــق بعض الأرباح مــن الانتخابات، وتأمل فــي أن تأتي بما تســميه «قيادة فلسطينية أكثر شــباباً وأكثر اعتدالا وأكثر واقعيةً»، وترجمة ذلك بشكل أوضح «قيادة لا تعمل بالسياسة، وتهتــم بتطوير الاقتصاد والاســتفادة من الفــرص الإقليمية الجديدة، وبتوفير الأمن للفلســطينيين وللمستوطنين على حد سواء». قد نفهم مصطلح «أكثر شباباً»، لكن من الصعب أن يمتد خيالنا الشرقي الخصب إلى التقاط صور وتجليات تعبير «أكثر اعتدالاً وبراغماتيةً»، بعد أن وصلت التنازلات الفلسطينية إلى قاع البئر. في كل الأحوال تعرف غالبية الأطراف في إســرائيل أن هذا الأمر بعيد المنال وقليل الاحتمــال، ويذهب بعضهم إلى ضرورة الذهاب باتجاه أكثر ليونة، بتقدير استحالة صعود مثل هذه القيادة الفلســطينية، وتذهب القوى السياسية اليمينية المتنفّذة، التي فازت قبل أيّام بأغلبية ســاحقة في الكنيســت، إلى أن هذا ممكن في المستقبل، شرط التمسك بسياسة «الحائط الحديدي »، التــي دعا إليها الزعيم التاريخي لليمين الصهيوني زئيــف جابوتنســكي، والتي تســتند إلى ترك الفلســطينيين يضربون برؤوســهم الحائط الصهيونــي الصلب، حتى تنهك قواهم وييأسوا من إمكانية تغيير الموقف الإسرائيلي، ويقبلوا بالأمــر الواقع، ويصبحــوا «أكثر واقعيــة وبراغماتية». ومن الواضح لهؤلاء أن الأمور في الانتخابات الفلسطينية القريبة، لا تتوجّه بهذا المنحى، بل ربما تســير بالاتجاه المعاكس، وتفوز فيها قوى «أقل واقعية»، وهذا ما تخشاه إسرائيل.
لم تكن القضية الفلســطينية حاضرة في المعركة الانتخابية الإســرائيلية، وجــرى التركيز فيهــا على قضايــا أخرى، في مقدمتها قضايا الفساد ومحاكمة نتنياهو، والأزمة الاقتصادية والصحية، والتوتــر بين القوى العلمانيــة والدينية. لكنّ هذا التهميش هو على الســطح فقط، فالهوية السياســية للأحزاب الإســرائيلية، وبالأخص اليمينية منها، مســتمدة اساسا من الموقف من القضية الفلســطينية. هو تهميش سياسي مقصود وجزء من مشــروع «الإبادة السياسية» للفلسطينيين، وحصر قضيّتهم بالبعــد الأمني والاقتصادي. وعليــه يجري التعامل مع القضية الفلســطينية كقضية أمنية لهــا أبعاد اقتصادية مع مســعى لنزع بعدها السياســي. لم تكن هناك تحــركات، ولم تصدر تصريحات ولا حتى تســريبات سياســية إســرائيلية بشأن الانتخابات الفلســطينية، واقتصر التوجه الإسرائيلي علــى الجانب الأمني، حيــث كانت هنــاك تصريحات لضباط، ومقــالات وتحليــات للمهتمــن بالشــأن الأمنــي، ولقاءات لمسؤولين أمنيين إســرائيليين مع قيادات سياسية فلسطينية، لتحذيرهــا من احتمال فوز حماس، ومن أن إســرائيل لن تقبل أن تتعامل مع أي حكومة فلســطينية لا تقبل بشروط الرباعية، بكل ما يخص الاعتراف بإسرائيل والالتزام بالاتفاقيات الموقعة
ونبذ ما يســمّى بالإرهاب. حتى لو انشغلت القيادة السياسية الإســرائيلية بالانتخابــات الداخليــة، وبتشــكيل الحكومة الجديدة، فإن إســرائيل مهتمة جدّا بالانتخابات الفلسطينية، وأكثر بكثير ممــا يظهر على الملأ. وهنــاك توجّس وقلق من أن تؤدّي هــذه الانتخابات إلــى زعزعة الاســتقرار القائم، وإلى انهيار التنســيق الأمني بصيغته الحالية، وإلى خلق تحديات سياسية جديدة ليســت في صالح إسرائيل. من نافل القول إن لإسرائيل قدرة على التأثير في مسار الانتخابات الفلسطينية، تبعا لمصالحها ولمخاوفهــا ولتقديراتها، وهنــاك حاجة لرصد الموقف الإســرائيلي، والاســتعداد لمواجهة محاولات التعطيل الإسرائيلية، ولربما تكون هناك فرصة لتحويل الانتخابات إلى مسار تحدٍّ ومواجهة مع الاحتلال.
ما الذي تخشاه إسرائيل إذن؟
أولًا: هــي تتوجّــس مــن إمكانية فــوز حركــة حماس في الانتخابــات، كما حــدث فــي انتخابــات 2006، والتي جرى إســرائيليا تلخيص الســماح بهــا كخطأ كبير. وتخشــى من أن يكــون لحماس وأذرعها العســكرية موطئ قــدم في الضفة الغربية، بكل ما يحمله ذلك من تحديات أمنية غير مسبوقة.
ثانيا: رعاية الانقســام الفلســطيني هي مــن أهم مقومات السياسة الإسرائيلية في السنوات الأخيرة. ويعتبره نتنياهو حجــر الزاوية في تعامله مع القضية الفلســطينية، ويســعى بطــرق مختلفة لإبقائه وتعميقه. هناك خشــية مــن أن تكون الانتخابات مدخلا لمسار إنهاء الانقسام وتشكيل قيادة موحدة تســعى إلى تغيير الوضع القائم، وتضع تحديات جديدة أمام دولة الاحتلال.
ثالثا: تريد إسرائيل قيادة فلســطينية ضعيفة أمامها وأمام العالم وقوية على شــعبها، وعندها قدرة على ضبط الشــارع الفلســطيني، وتوفير الهدوء الأمني. هناك ســطوة وشرعيّة ومصداقية وقبــول، وبالتالي قوة أكبر أمام العالم للأجســام المنتخبة ديمقراطيا. وبعد أن دأبت إســرائيل على مدى سنوات طويلة على إضعاف القيادة الفلســطينية، فإن الانتخابات قد تفسد عليها ما كسبته من هذا الإضعاف.
رابعا: ترى إسرائيل أن أي مســار ديمقراطي عربي حقيقي ليس في صالحها، لأن الشــعوب أشــدُّ رفضا لها من القيادات. وهــي تعلم جيّدا أن الشــعب الفلســطيني يحمل موقفا أشــدُّ عداء لها من قياداته الرســمية، وتخشــى أن تفضي انتخابات ديمقراطية إلى اتباع سياسة مواجهة الاحتلال وإلى إنهاء حقبة التنسيق الأمني.
خامسا: تخشى إسرائيل من أن يؤدّي المسار الانتخابي الى ترشيح مروان البرغوثي للرئاسة، خاصة أن تقديراتها هي انه
سيفوز إذا ترشّح. لقد التقيت مروان البرغوثي في سجنه عدة مرّات عشــية الانتخابات الرئاسية الفلسطينية عام 2005، وقد ســمعت منه بداية أسباب ترشّــحه، وبعدها عن نيّته العدول عن الترشــح، وكانت لديه أســباب وجيهة، لكن هذه الأسباب غير قائمة الآن، ومن المرجح انه سيترشــح ولــن يتراجع عن الترشــيح. في هذه الحالة ستســعى إســرائيل الــى تعطيل الانتخابات الرئاسية، لأن رئيس فلسطيني منتخب في السجن هو «وجع راس» كبير ستسعى إسرائيل إلى الوقاية منه. وربما تسعى إســرائيل لتعطيل الانتخابات التشريعية لقطع الطريق من أوّله.
سادســا: تتبجّــح القيادات السياســية الإســرائيلية بأنّ إسرائيل هي الدولة الديمقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط، وبأنها الوحيدة في محيط متلاطم من الديكتاتوريات العربية. وتســوق نفســها في العالم على هذا الأســاس، وتحظى هذه الصــورة المزيّفة بقبول واســع فــي العالم، وتمنح إســرائيل الشرعية والدعم والحماية من الضغوط والعقوبات. انتخابات فلســطينية ديمقراطية معترف بها دوليا ستضعف هذا الادعاء الإســرائيلي، وربّما تضع صورتها هذه على قدم المســاواة مع المشهد الفلسطيني، ما قد يؤثّر في موازين القوى السياسية في ساحات المجتمع المدني والمحافل الدولية.
الانتخابات الفلســطينية بمحطّاتها الثلاث، هي استحقاق فلســطيني مهم، ومــن الممكن أن تكون تحدّيا جديّا للمشــروع الكولونيالي الإسرائيلي، شرط أن تسير باتجاه رفض تكريس الوضع القائم، وهذا بالضبط ما تخشــاه إســرائيل. وحتى لا تكون الانتخابات مدخــا لإعادة الاعتبار والشــرعية لاتفاق أوســلو، يجب أن لا تجري تحت ســقفه، وأن تبــدأ بانتخاب المجلــس الوطني الفلســطيني ليقوم بــدوره بانتخاب قيادة منظمة التحرير الفلســطينية، بمشــاركة كل الفصائل والقوى السياســية والاجتماعية الحيّة. هذه الخطوة هــي رد اعتبار للقضية الفلســطينية كقضية تحــرر وطني، وعلى أساســها واشــتقاقًا منها من الممكن أن تجري انتخابات نيابية ورئاسية في المناطــق المحتلــة عــام 1967. وللاســتفادة القصوى من الانتخابــات، يجب تحويلهــا إلى تحدٍّ للاحتــال ولاتفاقيات أوسلو، التي تقيّد النضال للتحرر منه.
قد تقوم إســرائيل بتعطيل الانتخابات، لكنّها لا تســتطيع تعطيــل إعادة بناء الوحدة الوطنية فــي إطار منظمة التحرير الفلسطينية بالانتخاب المباشــر أو بالاتفاق الملزم، فهذا يتعلًق بــالإرادة السياســية لكل طرف فلســطيني على حــدة وللكل مجتمعاً.
ترى إسرائيل أن أي مسار ديمقراطي عربي حقيقي ليس في صالحها، لأن الشعوب أشدُّ رفضا لها من القيادات