Al-Quds Al-Arabi

أهوال تلوح في الأفق

- *كاتب بحريني

منذ حدوث أزمة 2008 الماليــة، والعالــم يركز على دراســة الجوانب المالية، بنــوكا وأنظمة قــروض، وصفقــات إنقاذ حكومية جنونية، لإنقاذ المؤسسات المالية المتعثــرة، وتصنيفات الدول حسب أوضاعها المالية، وتوسع خطر في طبع الأوراق النقدية، من دون إسناد من قبل الإنتاج والنشاطات الاقصادية إلخ، من الجوانب المالية التفصيلية.

كان الهمّ الأول هو اســتقرار النظام المالي في الأخطبــوط الرأســمال­ي العولمــي. أما ضحاياه ممن فقــدوا مســاكنهم المرهونة، ووظائفهــم المهــزوزة غير الآمنــة، والذين انضافــت أعدادهــم الكبيــرة إلــى أعداد العاطلين عن العمل الســابقة، فقد اعتبرت حالتهم المزرية أمرا يمكــن تأجيله، وأنه في جميع الأحوال شــر طبيعــي مؤقت لا بد من وجوده في الدورات الاقتصادية الرأسمالية المتعاقبة.

من هنــا قــادت إجــراءات الترقيع غير العادلة تلك، إلى بقاء آثــار تلك الأزمة التي لم يكن قد خرج العالم منها بعد، حين فاجأته جائحة فيروس كورونا منذ أكثر من ســنة. ومرة أخرى كانت ملايــن العمال الملازمين لهوامش الفقر، ومخاطــر الوظيفة المؤقتة، وتراكم الديون، وازدياد الضرائب الحكومية لتغطية ديونهــا المتراكمة، من جراء صفقات الإنقاذ المشــبوهة، هي فــي مقدمة الضحايا عندما فقد الملايين منهم وظائفهم، وانضموا إلى جيوش العاطلين الذين تضاعفت نسبة أعدادهم عبــر العالم كله. ولــن يقف الأمر هناك، إذ أن مضاعفات هذا الوباء المستقبلية لا يعــرف أحد مقدارها، ولا تشــابكها مع كل الجوانب الحياتية الإنسانية.

إن كان هــذا العالم يملــك ذرة من ضمير وأخــاق وقيــم، فليعــط لمواضيــع العمل والوظيفــة والتعطــل، عشــر مــا يعطيه للمواضيــع المالية. مــا عاد يجــوز اعتبار موضوع العمل البشــري تابعــا للموضوع المالي. لا بد من مناقشته لذاته، إذ أنه يعيش دلائل حدوث أهوال في المستقبل. وإذا كانت نســبة البطالة المتعاظمة هــي التي تنفجر حاليا فــي وجوهنا، فإنها فــي الحقيقة هي رأس الجليــد في محيطنا العولمــي الهائج. هناك موضوع التوجه الكاســح نحو العمل عن بعــد، وانتقال مــكان الوظيفة من مكان اجتماعي فيه علاقات اجتماعية، وتفاعلات إنســانية وأحلام وطموحــات، إلى حجرة عمل في المسكن حيث تهيمن مشاعر الوحدة النفســية والعاطفية، المؤدية إلى كل أنواع الاضطرابات النفسية.. وكمثال على ذلك فقد وصلت نسبة تلك الاضطرابات إلى الثلاثين في المئة من سكان فرنسا، بعد أن عملت فيه أزمات العمل وعزلة الجائحة ما عملت.

وهنــاك ما قــد يكــون أخطر مــن ذلك: الصعــود المذهــل لتكنولوجيـ­ـا الــذكاء الاصطناعي والروبوتــ­ات، الذي يراد له أن يحل محل الإنسان في شــتى حقول العمل. وعندما نصل هناك ســيقول أصحاب الجاه والسطوة للإنسان: ما عادت فيك أي فائدة لنا، ومــا عادت الحيــاة البشــرية تحتاج لك. عند ذاك سيشــعر الإنســان في أعماقه بالهــوان والذل، وظلام المســتقبل واليأس من الحياة. وسيسقط عمود فكري ومسلكي تاريخي كان يمجد الإنسان، ويعتبره محور الكون وأداة التقدم. ليتجول الإنسان حاليا في أحياء المدن الكبرى الفقيرة، وليشــاهد الملايين مــن العاطلين عن العمــل المدفوعين نحو ممارســة الســرقات الصغيرة، وبيع المخــدرات، وممارســة البغاء، واســتغلال الأطفال، وقبول أحــط المهن المؤقتة، ليعرف أهميــة حل إشــكاليات العمــل والوظائف المجزية والأجــور المعقولة ووجود النقابات العماليــة. كل ما يقوله أصحــاب الوجاهة والثــروات وخدمهــم من السياســيي­ن عن هؤلاء هو أنهم كســالى، لا يريــدون العمل ويفضلــون العيش على معونــات وزارات الخدمات الاجتماعية، ذلك القول لا يشــرف الإنســاني­ة. المطلوب هــو أن نبــدأ بالنظر بجديــة ومســؤولية والتزام إلــى حل هذا الموضــوع قبل فوات الأوان. ســيحتاج هذا الموضوع إلى أخذ قرارات مؤلمة ولا تنســجم مع أطماع البعض وأنانيتهم واســتهتار­هم بالقيم الإنســاني­ة، لكن عدم الحل ســتطال نيرانه وأهواله الجميع، ومن دون استثناء.

إذا كانت نسبة البطالة المتعاظمة هي التي تنفجر حاليا في وجوهنا، فإنها في الحقيقة رأس الجليد في محيطنا العولمي الهائج

 ??  ??

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Kingdom