Al-Quds Al-Arabi

تكريم شخصية «عظيمة»

- *كاتب فلسطيني

التكــريم حــقٌ لكل مــن يقــدم لمجتمعه بإخلاص، مثلا لمــن يخدم فــي وظيفة ما، ويقــدم الخدمات كواجــب وباحترام، من دون امتهان لكرامات الناس، يعمل بشعور من الواجب المختلِط بالمســؤول­ية والحس الوطني والإنســان­ي، ومــن دون تمييز بين تصنيفــات اجتماعية، لا يميــزُ بين وجيه ومتواضع وغني وفقير، بل إنه يمد يــد العون بالذات للضعفاء وقليلي الحيلة، كذلك لا يميز بين امرأة جميلة وقبيحة، بين شابة ومتقدمة في الســن، بين مرتدية للباس محافظ، وأخرى مرتدية لباساً أكثر تحرراً.

التكريم يكون لشــخصيات أثبتت حسن ســلوكها على مدار عقود، فلم تمد يدها إلى المال العام، لا من خلال موقع المســؤولي­ة ولا من خارجه، ولم تستغل موقعها لأجل ابتزازات، لا جنسية ولا مالية ولا خدماتية، أي اخدمني في شأني الخاص مقابل أن أقدم لك حقك العام من المؤسسة، وإلا وضعتُ في طريقك ألف عثرة.

التكريم يكون لمبدع في أي من المجالات الإنسانية، لشخصيات عملت لتحقيق الســلم الأهلي بين النــاس، حاولت أن تجعل من حياتهم أجمل وأســهل، ولم تحرّض على الآخــر المختلف قَط، لا عشــائرياً ولا دينياً ولا قوميــاً ولا جنســياً ولا إقليمياً. التكريم يكون لمن ضحى بماله، أو ببعض ســني عمــره، أو حتى بروحه لأجل قضية شعبه ووطنه.

إلا أن التكريمات، تحولت إلى حفــات تنكرية، وإلى صناعة لتبييض صفحات ســوداء من تاريخ هذا وذاك من المســؤولي­ن الفاســدين، ففقدَ التكريمُ قيمتــه، وتحول إلى مســرحٍ للعبث. ليــس هذا فقط، بل إن الُمكرمين أنفســهم يدركون أن تكريمهم هو تتويج للفساد الاجتماعي، الذي أسهموا هم أنفسهم في ترسيخه على مدار عقود، خصوصاً عندما يُغــدِقُ الخطباء عليهم صفاتٍ بعيدةً مســافات ضوئية عن الحقيقة، حتى لو نسبياً أو مجازاً، ومع تخفيضات وتنزيلات نهاية الموســم، إذ أن الجميع يعرفون أن المحتفى به، مــارس ويمارس النقيضَ لكل مــا يقالُ فيه على منصة المســرح. لي صديق يعتاش من تأجير جهازِ مُكبرٍ للصوت في مختلف المناســبا­ت، من الأفراح، إلــى دعوة الناس للخروج للإدلاء بأصواتهم، أو للاشــتراك في مظاهرة ضد العنف، مروراً بحمــات تجارية عن تنزيلات في الأســعار وغيرهــا، لهذا فهو على علاقته طيبة مع مختلف فئات المجتمع، وهو مرحٌ في طبعه. حدثني فقال: هل عرفتَ في حياتك شخصيةً أكثر فساداً من فلان؟ الحقيقة ســأحاول أن أتذكر، هذا المسؤول، معروف بفساده على

نطاق قطري، وبأنه اســتغل منصبه للتحرش الجنسي أكثر من مــرة، وتاجَر من خلال منصبه واســتغله للأرباح الشــخصية، ولــم يمنح أحداً مــن المقاولين أو التجار فرصــة للعمل، حتى لو كان عامل نظافة، ما لم تكن له فائدة شــخصية من ورائه، ومنذ استلم وظيفته وهو متنقلٌ في خدمة هذا وذاك من أحزاب السلطة وأذرعها، بل إنه هو نفسه ذراعٌ من أذرع السلطة.

قــال محدثــي: أكثر من خطيب نــوه بأنه شــخصية وطنية مستقيمة يشار إليها بالبنان، تحدث الجميع عن صفاته الحميدة، لدرجة أن هذا ســبّبَ حالة من الخجل لدى جميع الحضور، كان مــن الصعب التغلب علــى حالة الحَرَج التي شــعر بها الجميع، بالذات عند إلباسه عباءة من الصفات الحميدة والوطنية، دفعة واحدة، فقد بدا الأمر مثل مســرحية من عالــم آخر، لا علاقة لها بالمكرّم ولا بالمكرّمين، حتى أنه هو نفســه صار يتلفت من حوله، كأنه يبحث عن هذا الــذي يتحدثون عنه. الجميع غرق في حالة من الخجل، كأن مقاعدهم باتت تلســعهم، فصار أكثرهم ينقلون ســاقاً فوق أخرى، ثم يعيدون نقلها من جديد، ويطأطئ بعضهم رأسه مظهراً اهتماماً في النشــرة الخاصة التي طبعت بالألوان لتوثيق نشــاطاته، وكأنهم لا يعرفون أن كل ما فيها كذب ورياء. كان عريف الحفل قد أعد أشــعاراً ومقــولات من عيون الأدب في السخاء والتواضع والجود والإيثار والشجاعة، فهو أيضا يحلم بأن يتقدم في وظيفته، ولا بد من مديح الفاســد والمنحرف، وإلا فلن يتقدم. المهم أن جميع من مدحوا هذه الشخصية عرجوا على مشــغل مكبر الصوت، وهمسوا له بأمر ما بحكم العلاقة الخاصة به، وكانت الهمســات جميعها من طراز: مجبور أكذب، أو بالغتُ في مديح هذا التافه أليس كذلك؟ - وحياتك لا تحتقرني على نفاقي. -يا زلمة أنا قرفان من حالي. - بشــرفك لا تعزر عليّ، شــعرتُ بأنني اغتصب على الِمنصة. وغيرها من تعليقات هامسة تُظهر مدى النفاق الاجتماعي، الذي تحول إلى ظاهرة استسلم الجميع لها.

جميعنا بشــر وقد نخطئ هنا أو هناك خــال أداء أعمالنا، لا يوجــد ملائكة بيننا، وقد يقع البعض في زلات، ممكن التســامح معها، ولكن عندما يكون الفســاد نهجاً يصل إلى درجة التخريب الممنهــج للمجتمع، فمن العار على المجتمــع أن يكرم أمثال هؤلاء الُمخربين.

 ??  ??

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Kingdom