Al-Quds Al-Arabi

حول البديل الإسلامي

- ٭ كاتب وأكاديمي جزائري

■ من جملــة المقولات المتداولة فــي الخطاب العربي الحديث والمعاصــر، مقولة «البديل الإســامي» عندما يقصــد بها تقــديم خيار حضــاري جديد فــي مواجهة الحضــارة الغربية المادية، يســتمد من القــرآن الكريم والســنة النبوية والتراث العربي الإسلامي، كما عبّرت عنها الحضارة الإسلامية في عصرها الزاهر والمزدهر. ولا تزال هذه المقولة إلى اليوم يتداولها العرب والمســلمو­ن فــي حياتهــم العلميــة والفكرية، خاصة فــي البحوث الجامعية التي في الغالــب تأخذ بالمقاربة التي تؤكد من دون يقــن صحيح،أن مــا هو موجود فاســد في مدنية العالم الراهن، وأن الأمر يحتاج إلى بديل آخر جاهز في حضارة العرب والمســلمي­ن هو «البديل الإسلامي». وإلى اليوم لم تتحقق هذه المقولــة، على الرغم من مرور أكثر من مئة عام على ظهورها.

الواقــع، أن مقولة «البديل الإســامي» هي من قبيل تحصيــل الحاصل، على مــا يرى المناطقة والفلاســف­ة. بتعبير آخر يفيــد المعنى ذاته، أن «البديل الإســامي» هو مــا تَحَصَّل في العصور الكلاســيك­ية للإســام، في قرونه الأولى التي لحقت عصــر النبوة ونزول الوحي. وهذا العصر ولّى فعــا، ولم يعد مــن مُتَدَاولِنا العقلي والنفسي والوجداني. كل الحياة آلت إلى التاريخ ليكتب عنها، على خلفية الاســتفاد­ة من دروسها عندما توحي للراهن بقضاياها ومسائلها التي تحتاج دائما إلى إعادة التفكير والتقييم والنظر. فـ»البديل الإســامي» تحقق ومرّ على النحو الذي نَدْرسه ويَدْرُسه غيرنا، على تنوع واختلاف الدراســات والمعالجات، خاصة في الجامعات والمؤسســا­ت الأكاديمية التي صارت تدرس كل شــيء وعن كل شيء.

«البديل الإســامي» كما يطرح في مجالنا العربي، لا يحتاج إلى اجتهاد ولا إلى جهد، لأنه متضمن في التاريخ العربي والإســامي، الذي امتص كل ما يمكن أن تُقَدِّمه الحضارة الإســامية في عصرها الكلاسيكي. والتوكيد على العصر الكلاســيك­ي، هو توكيد أن ما يمكن أن يكون قد تضمنه الفكر الإســامي، نفــدت جعبته في خوض قضايا ومســائل معاصرة. أما فــي التاريخ المعاصر فلا نحتاج إلى العودة إلى تاريخ انقرض، بل إلى معايشــة معاصرة للإســام، كرســالة إلى النــاس جميعا على اختــاف دياناتهم وأصولهم الجنســية، وتنوع دولهم ومجتمعاتهـ­ـم، لأن اللحظة الراهنــة تنطوي على كثافة زمنية تستدرج الجميع إلى تواصل ثقافي حي وحيوي، يحتاج إلى ما هو مادي، وإلى ما هو روحي، بالقدر الذي يعيد الانسجام إلى حياة الإنســان، التي لا تني تتزايد في إلحاحها على مزيد من الإمكانات الجسدية والنفسية والأخلاقيـ­ـة والروحيــة والوجدانيـ­ـة والسياســي­ة والمدنية... والقائمة صــارت طويلة فعلا. اقتراح «بديل إسلامي» اقتراح لخيار غير ممكن، ولا يمكن التفكير فيه أصلا، لأن الصفة الإسلامية للحضارة الإسلامية جاءت لاحقــا على الحضارة نفســها، وأن معطياتها لم تعد من خطابنا المعاصر، حيث كل شــيء يدرك ويفهم من آخر ما وصلت إليه الإنسانية جمعاء على تنوعها وتنوع لغاتها، وهو ما ترســخه الدراســات والبحوث، التــي يقدمها مسلمون ومهتمون بالدين الإسلامي في الغرب. اللغات الحية في عالمنا الراهــن، تتوفر على دلالاتها المعبرة عن سمات وعلامات ومظاهر آخر ما وصلت إليه تكنولوجيا الدول المتقدمة، وعلومها وتقنياتها وفضائياتها، ســواء على صعيد الملموس أو الافتراضي، الذي صارت له قوة الحضور الفعلي والفوري.

في مثل هذا الســياق، يمكن أن يتطلــع العالم أجمع إلى الإصغاء إلى رسالة الإســام الخالدة، التي لا تكف عن البحث عن المجالات والمؤسســا­ت والأشخاص، من

أجــل اعتماد مرجع أخلاقي عال، يُتَّخــذ كمعين ومُلهم لما هو أفضل وأحســن، ويوحي بالاطمئنان لمــا في الدنيا والآخرة كليهما. فقد صرنا، في هذا الزمن الفائق نبحث عن النظام والنســق والمهيكل، من أجل تخطي الفوضى الحاصلة في ربوع العالم كله، رغم توفر الفرصة القوية التي تجعــل «الناس كافة» جهة حقيقية لتبليغ رســالة الإســام، كخطاب للإنســاني­ة جمعاء. فهناك تناســق وتناغم وتزامــن بين لحظة «إقرأ» بمعنــى بلّغ، ولحظة القدرة على وصول البــاغ )القرآن الكريم( إلى «الناس كافــة» زمن العولمة، حيث يعيش البشــر آخــر التاريخ المعاصر، بضرورة معاصرة رسالة الإسلام كخطاب إلهي لسكان المعمورة برمتها.

إن التفكير على الصعيد الإنســاني والعالمي من أجل اعتماد مرجع إلهي للبشــر كافة، يتطلب أول ما يتطلب، التحرر مــن الاحتكار التاريخي للإســام والقدرة على التفاهــم والتوافــق والاختــاف الــودي والعلمي مع الآخرين. فالحق يتبع حيث مــا ظهر، والحقيقة جديرة بأصحابهــا ودعوة للاحتذاء والاقتفــا­ء بها إن وجدت. وهذا هو الجهد، أو الاجتهاد الذي يجب أن يبذل من جهة المســلمين والعرب، من أجل التواصل الإنســاني مع كل العالــم، لأن العالم كله صار يســع الجميع، بمن في ذلك العرب والمسلمون. وعليه، فليس هناك «بديل إسلامي» يقدم من جهــة إلى جهة أخــرى، بقدر مــا هناك فرصة يوفرهــا خطاب إلهي يدخــل، في عصــر العولمة، كعهد معاصر يضاف إلى العهد القديم والعهد الحديث، ومن ثم تكتمل المنظومة الدينية التوحيدية.

اكتمال المرجعية الدينيــة التوحيدية هي أول تصور ممكــن، للحديث عن مرجعية الرســالة الإســامية إلى النــاس كافــة، لأن القرآن الكــريم، في مجالــه الرحب وأفقه الواســع يتحدث عــن الأنبياء والمرســلي­ن كافة،

ويقدم تجارب الأمم والشعوب والمدنيــا­ت كافة، التي ســادت ثم بــادت، والغالــب أن المراكز والتجمعــا­ت البشــرية التي اســتندت إلى خلفية حضاريــة، هي التــي تفاعلت مع رســالة الإســام بلغات غير اللغة التي نزل بها القرآن الكريم، ما يؤكد أن ماهية الخطاب الإلهي هي لغة التبليغ بأي لغة تواصل يعتمدهــا القوم المبَلّغ إليهم. واليوم في هــذا العصر الفائق التقدم والتطــور يمكننا، في البحث الأكاديمي، أن نقف على العديد من المفردات غير العربية في القرآن الكريم، كما يمكننا أن نفهم آيات الله في كتابه الكريم وآياته الكونية بكل اللغات الحية. وهذا ما يجري حاليا.

عندما نقف على آخر ما تنجــزه الدول المتقدمة، التي تتفاعل مــع اللحظة التاريخية فــي كل زخمها وصُعُدها وكَثافتها، يمكِنُنا أن ندرك بيقين راســخ، أنها هي الأقدر على التجاوب مع رسالة الإسلام إلى الناس كافة، وتغيّر محور ومؤشر «الدين» من التجربة العربية إلى التجربة العالمية، ومحلها هذه المرة المراكز المستقطبة لطاقة الفكر وقوة العمل والفعل، لأن هذه المراكز صارت عالمية ومحل استقبال واســتقرار للناس جميعا، بمن في ذلك العرب والمسلمون.

الأمر الذي يجب أن يستدعي من جهة أخرى، تحرير الشــعوب العربية من الأنظمة الســلطوية والتسلطية كشرط لازب لاكتســاب وضعية المواطن في دولته، وفي المجتمع الإنساني على حد سواء، من أجل الحصول على حق التفكير السليم، والاجتهاد السديد والعمل الصالح من وحي رسالة الإسلام.

 ??  ??

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Kingdom