Al-Quds Al-Arabi

أبعد من الوباء: الإغلاق المديد بوصفه نموذجاً سياسياً

-

■ شــهد قرننا الحالــي أزمتــن عالميتين، قد تؤدي نتائجهما لرســم المعالم الأساســية للسياسة والثقافة والمجتمع في العقود المقبلة: الأولى هي الأزمــة المالية العالميــة عام 2008، وما تبعها مــن اضطرابــات اجتماعية كبرى؛ والثانية انتشــار فيــروس كورونــا، وحالة الإغلاق العام المديد، التي يبدو أنها السياســة المثلى، والحل الوحيد الممكن، بالنســبة لمعظم الســلطات الحاكمة، رغم أضرارها الاقتصادية والاجتماعي­ــة، التي قد تفوق أضــرار الوباء نفسه.

يمكن في الأزمتين رصد حالة تخبّط واضحة فــي أداء النخــب التكنوقراط­ية المســيطرة، خاصة في الدول الغربية، فأثناء الأزمة المالية تحرّكت الدول لتنقذ مجالس إدارات الشركات الكبرى من ورطتها، عبر «حزم إنقاذ» بمليارات الدولارات، اُنفقت من أموال دافعي الضرائب، الذين كان عليهم دفع ثمن السياسات الكارثية للنخب المالية؛ وفي أزمــة كورونا يبدو المركب التكنوقراط­ــي -الحيــوي فاشــاً للغايــة، ســواء في عمليات تصنيع وتوزيع اللقاحات، والتطعيــم بها، أو فــي إيجاد حلــول لملايين البشر، الذين توقفت حياتهم وفقدوا أعمالهم.

الأزمتان أظهرتــا أيضاً نتيجتــن تبدوان حتميتين لــكل كارثــة كبرى، أولاهمــا إعادة توزيــع الثــروة نحــو الأعلــى، فالتكتلات الاقتصادية الأضخم تتمكــن دوماً من الحفاظ علــى تراكمها المالي ومضاعفته، على حســاب تدمير الفئات الوســطى بشكل خاص، وزيادة معاناة الفئات الأفقر. وفي هذا السياق يتحدث كثير من التقارير الاقتصادية مؤخراً عن انهيار شامل للشركات الصغيرة والمتوسطة، نتيجة أزمة كورونا، في مقابل زيادة أرباح الشركات الكبيرة؛ وثاني النتائــج تضييق الحيز العام والحريات السياســية الأساسية، فعلى الرغم من انطــاق موجــة احتجاجيــة عالمية عقب الأزمة المالية، إلا أنها لم تــؤد إلى انتزاع مزيد من الحقــوق السياســية، بل علــى العكس، شــهد العالم ظواهر ثقافيــة وأيديولوجي­ة، لا يمكن القــول إنها جاءت لمصلحة الممارســا­ت الديمقراطي­ة، مثل تصاعد سياســات الهوية، و«ثقافــة الإلغــاء» والائتلافـ­ـات الانتخابية لحماية قوى الوسط السياسي، والحفاظ على الوضع القائم في مواجهة الخطر الشــعبوي. من جديد يُدفع الجميع للتحرك لحماية النخب السائدة، مهما أثبتت فشلها.

إلا أن الإغــاق المديــد، الذي نشــهده في الأزمــة الحالية، هــو المظهر الأكثــر وضوحاً ومباشــرة لإغلاق الحيز العــام، المترافق مع تشــديد صلاحيــات الســلطات التنفيذيــ­ة، وتجميد الإجــراءا­ت الديمقراطي­ة والضمانات الدســتوري­ة، وســط لامبالاة واضحة ضمن المــن الثقافي، فــي الأكاديميـ­ـات والمنظمات «غيــر الحكومية» ووســائل الإعــام، تجاه السوابق السياسية والدســتور­ية الخطيرة، التــي تهدد بجعــل الإغــاق والتضييق على الحريــات نموذجاً فــي التعاطي السياســي، يمكن للســلطات انتهاجه وتكــراره دوماً، بل على الأغلب تســاهم النخب الثقافية بدفع كل احتجاج ضد الحالــة الراهنة إلى خارج التيار الأساسي، بوصفه شــعبوية أو إيماناً بنظرية المؤامــرة. فما أبعاد التلازم بــن إغلاق الحيز العام، وإعادة توزيع الثروة نحو الأعلى؟ وما آثارهما على السياسة والثقافة المعاصرتين؟

خطر الحيز العام

توجــد نظريــات متعددة للغايــة لتعريف الحيز العــام وتأريخــه، إلا أن النظرية الأهم تراه مُتضمّناً في التواصل الإنســاني نفســه: يتواصل البشــر لتــداول الحجــج، وإيجاد توافقــات عقليــة ومنطقية حول الممارســا­ت العامة، من خلال لغتهم العادية المشــتركة، أو بالاســتعا­نة بلغة معدّلة، مشــتركة أيضاً، هي «لغة التعليم» المعممة، في العصر الحديث، عبر التعليم الالزامي ووسائل الإعلام، بهذا المعنى تصبح مفاهيم مثل الحقيقــة والعدالة والخير مُستبطنة في اللغة الإنسانية ذاتها، رغم تغيّر مدلولاتها تاريخياً. وتُضطر الســلطات لتبرير أفعالها بلغــة عقلانية ما، رغــم كل محاولات مخاطبة الانفعالات وتجييــش الغرائز، التي مارســتها الســلطات والقوى السياسية عبر التاريخ.

إلا أن التواصل باللغة العادية يحتاج دوماً إلى قنوات ماديــة - مكانية لإتمامه، نموذجها الأولي الســاحة العامة Agora في دولة المدينة اليونانيــ­ة، حيث كان يجتمــع العامة الأحرار والخطبــاء والفلاســف­ة والسياســي­ون، في العصر الذهبي للديمقراطي­ــة القديمة، لتداول الشــؤون العامة. وجاء الانعطــاف الأبرز في الحيز العام مع بداية عصر التنوير، حين برز ما يسميه الفيلســوف الألماني يورغان هابرماس «الجمهور البورجوازي» الذي أنشــأ مساحة تواصلية بمواجهة الســلطة الملكيــة المطلقة، عبــر الصحافة وحركــة النشــر والبرلمانا­ت والصالونات الأدبية والمقاهي، برز فيها «الرأي العام» فــي مقابــل «الحق الإلهي» الُمشــرعن للحكم القمعي للدولة. وعلى الرغم من أن هذه المساحة ضمنت هيمنة البورجوازي­ة، وتميّزها عن الطبقــة العاملة، إلا أنها عممــت نمطاً من المعياريــ­ة العقلانيــ­ة، انتقل بالضــرورة إلى الطبقات الأدنى، ما أدى، مــع تصاعد الصراع الطبقي في نهايات القرن التاسع عشر وبداية العشــرين، إلى تفكك الجمهــور البورجوازي

نفســه، الذي تمتــع دوماً بقــوة نقدية ضد

ســلطة الدولة، لحســاب بروز بــوادر دولة الرفاه، التي اســتطاعت الهيمنــة على الرأي العام، والتدخّل في صياغته، عبر السياســات الاجتماعية، والمؤسســا­ت الوسيطة، ومراعاة مطالــب الطبقــات المتصارعة فــي توجهاتها العامة.

وعلى الرغم مــن أن ما يعتبــره هابرماس تناقضــاً ديالكتيكيـ­ـاً فــي الحيــز العــام البورجــوا­زي قــد أدى إلــى نمط مــن أبوية الدولــة، وخلــق «جمهــور زائــف» يميل إلى الصمت والتلقي الســلبي للثقافة الجماهيرية، إلا أن الفيلســوف الألمانــي يبقــى متفائــاً بإمكانية تنظيــم عقلاني للمجتمع، عبر الدولة الدســتوري­ة الديمقراطي­ة، التــي تحافظ على أفضــل ما في خطــاب الحداثــة، وتؤمن، عبر التعليم، وتوفير المعلومــا­ت والوقائع للعامة، إمكانية تداول الحجــج العقلانية، والتفاوض الديمقراطي بين مختلف القــوى الاجتماعية، ما يحافظ على نمط مــن العقلانية التواصلية. والأهم في هذا التحليل التاريخي الفلســفي، أن بــروز وتطور الحيــز العام، يحمــل دوماً طابعاً جدلياً مزدوجاً، فهو من جهة يســهم في تحقيق وترسيخ هيمنة الســلطة، ويبني، من جهة أخــرى، إمكانية لمقاومتها، تســتفيد منها غالباً الطبقات الاجتماعية غير المسيطرة. يبدو أن تعطيل الحيــز العام، من خلال سياســات الإغــاق المديــد، وتفكيــك اللغــة العقلانية المشــتركة إلى تعليمات لغويــة فوقية، تراعي الهويــات والحساســي­ات، و«الوقائــع» التي تدعي الحيــاد الأيديولوج­ي، صار السياســة الأنســب للســلطات المعاصرة، التــي لم تعد ملكية مطلقــة ذات حق إلهــي، ولا ديمقراطية بورجوازيــ­ة أو عمالية تحررية، ولا حتى دولة رفاه رعائية، بل مركباً سياسياً - حيوياً، يُدار عبر نخــب بيروقراطيـ­ـة وتكنوقراطي­ة، تميل لتعطيل الضمانات الدستورية، وترسيخ حالة «الجمهور الزائف» بالمعنى الهابرمسي، أو حتى «الحشد الســلبي» حســب تعبير الفيلسوف الإيطالي جورجيو أغامبين.

نهاية القدرة النقدية

مفهوم «الحشــد الســلبي» لأغامبين يمكن أن يتضمّــن معظــم الانتقادات التــي وجهت لنظريات هابرماس حول الحيــز العام، فعلى الرغــم من أن الأخير أفضل مــن بيّن التناقض في مفهــوم الجمهور الحديث، إلا أنه يُتهم دوماً ببناء نظريته على أســس جوهرانية، جعلت العقلانية التواصلية موجودة بشــكل طبيعي في اللغة نفســها، ولم يعالج بالشــكل الكافي دور الهيمنة الأيديولوج­ية، والصراع لفرضها، في تأسيس «الحس السليم» ‪common sense‬ الإنساني نفســه، الذي يمكن بناءً عليه إقناع البشر بأفكار وممارسات معينة.

ليس الحشد الســلبي مجرد جمهور زائف، لا يتمتع بقدرة نقدية تجاه الســلطة، ويتلقى منها القيم الثقافية بشكل أحادي، بل هو يفتقد أصلاً لخصائــص الجمهور، ونمــط فردانيته الُمفترض، فــا هو قادر على الالتقاء والتواصل في الحيز العــام، بما يجعله تكتلاً سياســياً؛ ولا هو متمتع بالخصوصية، التي تضمن نوعاً من اســتقلال الحيز الخاص عن العام، كما كان سائداً في ديمقراطيات العصر القديم، حين كان المنزل وتدبيره منفصلاً عن السياســة العامة. الحشــد الســلبي خاضع ومميّع ومتشابه، لا ينال مزايا الفردانية ولا الجماعية، لكنه يعاني من كل ســلبياتهم­ا، و«حسه السليم» قائم على الخضوع الكامل للسياســات الحيوية القائمة، في ما يتعلق بالصحة وأنماط الحياة والسلوك الحســن، حتى داخل المنازل، التــي أُجبر على ملازمتهــا، ولذلك فهــو غير قادر علــى إبداء معارضة واعية تجاه حرمانه من أبسط حقوقه الأساســية، أو حتــى تجاه تدمير أساســيات وجوده الاجتماعي والاقتصادي.

التراكم بنزع الملكية

رغــم كل الحديــث عــن التــرف والنزعة الاســتهلا­كية في الدول الغربية، إلا أن الأرقام والاحصائيا­ت تبيّن بوضوح، أن الجيل الحالي أصبح أفقر بكثير من جيل الآباء، خاصة في ما يتعلق بالقدرة على حيازة المســاكن، وحقوق العمــل، والوصــول إلــى الرعايــة الصحية. ومن الواضــح أن إعادة توزيــع الثروة نحو الأعلى اتجاه ثابت في السياسات الاقتصادية المعاصرة، وهو ما يعتبره الجغرافي البريطاني ديفيد هارفي، نمطاً من التوســع الرأســمال­ي عبر نــزع ملكيــات الطبقات الأدنــى: تعطّلت آليات التوسع الرأســمال­ي من خلال الاقتصاد الحقيقي، مــا يدخلنا دوماً فــي فقاعات مالية وعقارية، تنفجر بشكل كارثي، لتكون النتيجة سلب ما تملكه الفئات الأفقر، وخسارتها لفرص عملها، فــي حين تتعافــى الشــركات الكبرى بسرعة، لتراكم مزيداً من الثروة.

تولّــد هــذه الآلية كثيــراً مــن الاحتجاج الاجتماعي العفــوي، إلا أن الاحتجاج الفعّال يتطلــب أولاً الخــروج مــن حالــة «الحشــد السلبي» وهو الأمر الذي تجعله الأيديولوج­يا والسياســا­ت الحيويــة المعاصــرة شــديد الصعوبــة. ولهــذا ســتبقى الاحتجاجــ­ات «شعبوية» و«جاهلة» إلى حين حدوث تغيّر ما في الشرط العام، لا يمكن توقّعه حالياً. ٭ كاتب سوري

 ??  ??

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Kingdom