Al-Quds Al-Arabi

الفن التشكيلي وأفق السؤال الفلسفي

-

■ تبقى إشكالية الفن في سيرورتها الإنسانية، تعكس النشاط الإبداعي منذ ما قبل قيام الثقافات والحضارات، كوســيلة للتعبير عن الأفكار وجسر بصري للاتصال الثقافي، يخلق اســتجابة جمالية عنــد الملتقي. لقد ظهر الفن التشــكيلي البدائي، أو فن ما قبل التاريخ قبل حوالي 50.000 سنة، ويقدَّر عمــر اللوحــات الجدارية المرســومة بالجص في كهوف «لاســكو» و«ماجو» في فرنسا و«التاميرا» في إسبانيا بحوالي 17.000 سنة. وبذلك كان الفن التشكيلي الطريقة الأولى التي نختبر فيها العالم، إذ أن مغامرته الأولى لتأسيس رؤية أخرى للعالم، ســبقت بنية العقل الفلسفي، التي لا يتجاوز عمره 3000 سنة.

وإذا كانــت الفلســفة هي الاقتراب من دهشــة الحكمة، كمشروع فكري لإرساء مفاهيم عقلية، فإن الفن هو الإدراك المحسوس بماهية العالم. ومن هنا تطرح شــرعية إشكالية التفكير في الفن التشكيلي كفعــل فلســفي، علما أنه لــم يتم مجــال التحرر التأملي، بالفن التشــكيلي فلســفيا إلا مؤخرا عبر الأستطيقا، ثم الاعتراف بجماليات الفن التشكيلي، كأثر رمزي للتعبير عن دهشــة فلســفية في سياق ثقافي تاريخي معــن، لذا فإن أهمية الفن تكمن في أنه حيوي فــي الإبقاء على المعاييــر رحبة ضمن الحضارة، كما قال الفيلســوف ريتشــارد رورتي. وبالتالــي أصبح الفن وســيلة لاحتضــان العالم البشري، وصياغة لمعنى الشــرط الإنساني في ما وراء اللغــة، أي أنه اللبنة الأولــى في عملية خلق الثقافة في نسقها الحضاري.. تشاركي في مفاهيمه الفنية والجمالية، إشكالي في تعريفه في سيرورة التنوع والاستمرار، أي بمعنى لا يمكن ربطه بزمن ومكان ثابتين، إنه صيــرورة وجدانية. لأن الخلق بالعمــل الفني هو عبارة عن إســقاطات نفســية وشــعورية على حالة وجدانية ما يعيشها الفنان، أو يصطدم بهــا. فرؤيــة الفنان تأتي عبــر الفكر والشــعور، تحت نســق الحذف والهدم والبناء.. واختزال الذاكــرة، في ضوء التجربة المكتســبة، وخلق حــوار موضوعــي بين العالــم الموضوعي والحسي خارج العالم الظاهري.

وبهذا يصبــح الفن التشــكيلي حامــا لفكرة فلســفية، تتمثل في تفاعل الأنــا بالحدس وخيال الإنســان بالعقل، أي التجاوز بين الواقع الملموس،

إلى الرمز المتصل بعالم الرؤى والأحلام، كما شرحه العالم النفسي السويسري يونغ. ومن هنا تتدخل «فلســفة الجمال » كمســوغ فلســفي يرتب الأفكار منطقيا )تحليلا وشرحا(، التي تتجسد لاشعورياً في الوجدان والأحاسيس والانفعالا­ت في العملية الفنية، ولذلــك كان بول فاليري يقــول «ولد علم الجمال ذات يوم من ملاحظة وشــهية فيلسوف.» فعلى اعتبار الفن، هو المقاومة الشرسة، لنفق مظلم بعدمية لا جدوى ذواتنا.

والتعبير عن الأسئلة المفخخة للقلق الوجودي بإنسانيتنا. يتساءل الفن التشكيلي مثل الفلسفة، ويجعــل المســاءلة الوجودية أقرب مــا يمكن إلى كينونة الأشــياء. ويصبــح الفنان /الفيلســوف غارقــا في أســئلة الكون الســابق؛ ليعانق الفرح البدائي منــذ البصمة الأولى فــي معابد الكهوف، أي نظــرة اللمــس وتجريد الصورة فــي لحظتها العاشــقة. فهنــاك فنانون في التاريخ الإنســاني احتفلــوا بالحياة - كالحاجــة الداخلية في عزلة ريلكه، وكفرحة موتسارت، ونور فان غوغ - وراء خصوصيات آلامهم في الوجود.

وعي الجسد

لقد مارســوا الفن، ليس على أمــل الرضا الذي ســيترتب عليه، لكــن بضرورة العيــش، لأنهم لا يمكن أن يكونوا راضين عن الانتظار والأمل. فالفن لا يمكن أن يبقى إلا من خلال الاستفهام الوجودي، مــرورا بثيماته الأساســية بين الحاجــة للعيش وجرح التواري والعدم.. ويصبح معنى الفن عموما أجوبة لتراجيديا الروح في مسارها المعقد للرغبات والإغــراء­ات لأعالي العزلة. فيكتشــف شــيفرة الإبداع الأزلية، على أنها ممارســة الفرح البدائي، عبر حميمية الجســد، فــي ثنائية وعي الجســد وجســد الوعي، فيصبح الوجود منصة لممارســة عالم تراجيديا روح هذا الوجود. إن هذه اللســعة الغاضبة كما يسميها نيتشــه بالحكمة المأساوية، تأتي لتؤدينا في اللحظة نفســها التي حددنا فيها أنفسنا بطريقة ما، مع الفرح البدائي، الذي لا حدود له حيث نشعر في نشوة ديونيسية، ثبات وأبدية هذا الفرح،على الرغم من الرعب والشــفقة، فإننا نتذوق نعيم الحياة، ليس كأفراد، لكن كمواد حية

فــي كينونة الزمان. فتبدع ذات الفنان التشــكيلي المعاصر؛ العمــل الفني الذي يتجاوز أحيانا طبيعة الخطاب الفلســفي. وتصبح الفلســفة ذات طابع وســائطي للعمل الفني، كما اعتقد نيتشــه، أي أن يكون الفنان كائن ضمير، بمعنى ما يتأمله الإنسان في العمل الفني هو إنسانيته، في مواجهة الأشياء الطبيعية الراضية عن مصيرهــا، فيحاور روحيا قوة الفرح البدائي فيه في مواجهة العلامة الإلهية للمقدس، التــي تفوق مــا يفهمه ويدركــه للفعل ولذاته.

وهذا ما عبر عنه الفنان الفرنســي سيزان، في خطابه التشــكيلي مع حميميــة المناظر الطبيعية، حينما يقول: «إنهــا تؤمن بي وأنــا ضميرها» أي اللحظة التي يتحقق فيها الجوهر الفلســفي الذي ينتج العمل التشــكيلي، وكما فــي لوحة «زهور» للفنــان الهولنــدي فان غــوغ، حينمــا الطبيعة احتضنت جراحة الإنســاني­ة، التي تؤكد الارتباط بالطبيعة حيث يقول: «إذا لم أشــعر بالحب تجاه الطبيعة وعملي، فســأكون غير سعيد» وقد وضح في خطاباته أن الطبيعــة والفن مرتبطان ارتباطا وثيقــا، وأنــه لا يجد الإلهــام والســكينة إلا بين أحضان الطبيعــة. وكذلك في لوحــة «الصرخة» لإدوارد مانش، التــي تعبر ذروة القلق الوجودي، حينما تنكسر الروح أمام صراخ الطبيعة، أو ما فعل بيكاسو بلوحته «غرنيكا» مع طبيعة المدينة، حينما رســم طبيعتها دون ســماء، وهي تعيــش العتمة المضيئة بألــوان الأبيــض والأســود والرمادي، ليعكس الدمار والوحشــية اللذين عاشتهما مدينة إبان فاشــية فرانكو. وقد أشــار جواكيم غاسكي، إلى أن بابلو بيكاســو طالما كان يردد بأن الرسّــام يدرك جانبا مــن الطبيعة «ويحوله إلى لوحة فنية بكل تأكيــد». وكما قال جورج براك إن فن الرســم لا يهدف إلى «إعادة تشــكيل واقع قصصي» وإنما بالأحرى «إعادة تشكيل واقع تصويري». فالتعبير عن الشغف الفلســفي في ذهن الفنان، عن طريق اللسعة بالفرشــاة / أو أي أداة تشــكيلية أخرى، تصبح آنذاك ترميزية في الأنــا المبدعة، كما يراها كانــط قائلا: «إن هــذه الأنا يمكــن أن تؤخذ على معنيين، الأنا من حيث هو الإنسان، والأنا من حيث هو عقــل. الأنا من حيث أنا الإنســان هي موضوع للحس الباطن والظاهر. أما من حيث أنا عقل، فالأنا

موضوع للحس الباطن فحسب».

إن إعادة تشــكيل العالم عند الفنان التشكيلي، من خلال الذاكرة والخبرة، كنشاط فكري مفاهيمي في حقيقة العالم، تأتي من رؤية في نســق العالم الظاهري، وليس فــي ماورائيات العالم الظاهري. فتصبح التجربة الجماليــة من خلال العمل الفني، غايــة بذاتها، كخبرة فنية ضمن ســياقها الثقافي. فالتحرر الفني أمام الواقع المحسوس، ينحو حول تأســيس فلســفة الخروج من مــأزق الإنضباط، والانفلات من قيود الصمت، بخلق مقاربات خارج النظــام بعقل مفاهيمي تحــرري. بفتح الفضاءين الفكري والفنــي على بعضهمــا، وبالتالي تصبح الفلســفة والحياة، تأويلا للاندمــاج في جماليات ما وراء الحســي. وهكذا يغدو عالم الفن قائما على صراع مســتمر ما بين الحفاظ على الذوق الخاص، وتعزيــز القبــول الجماعــي. وهذا ما ذهــب إليه الفيلســوف الفرنســي ليوتار، في تحديده لمعالم البناء الجمالي التشكيلي، على أنها تتجاوز مفاهيم اللغة، وصولا إلى الوجــه الخفي للعالم في ذاكرة وتفكير الفنان، من خــال روح اللون ولا متناهي الشكل.

الفلسفة والفن

إن الإيحــاء والترميــز يعطيــان مســاحة من التأويل الفلســفي، وينتجان مســاحة من قراءات المعنى، في نسق فلســفة متصلة بثيمات الوجود، فهذا الإشباع التأملي في حد ذاته يعطي دما جديدا لتقبل صيرورة دواخل الإنسان بمختلف تحولاته واضطراباته وتشكيلاته. يقول الفيلسوف برتراند راســل ‪1938-:) )1872‬«إن الفلســفة تستحق أن تدرس، ليــس من أجل أن نجد فيهــا أجوبة دقيقة عن الأســئلة التي تطرحها، بما أن أجوبة دقيقة لم يعترف ـ عامــة - بمطابقتها للحقيقة، بل بالأحرى بســبب قيمة الأســئلة ذاتها. إن الأسئلة الفلسفية تعمل على توسيع تصورنا للممكن، وتثري خيالنا العقلي، وتقلل ثقتنــا الدوغمائية التي تغلق الفكر وتســد عليه منافذ كل تأمل. لكن، وقبل كل شيء، يكتسي فكرنا أيضا العظمة والجلال، بفضل عظمة وجــال العالم الذي تتأمله الفلســفة». إن الوعي التشــكيلي بالعالم، يتجاوز أفق العالم الطبيعي، المحروم من إرادة الرسم؛ وينتج أسئلة في كينونة جسد العالم. وهذا ما وضحه الفيلسوف الفرنسي ميرلو بونتي فــي كتابه «العين والفكــر» )1960( عن التشــكيل، أي أنه مرتبط بالبعد الأنطولوجي وبرؤيــة العالم وبإمكانية الكشــف عــن حقائق التجربة الإنسانية التي تعجز المعرفة عن الوصول إليهــا، وهذا ما تبينه لنا اللوحــات الفنية، خاصة لوحات بول كلي وهنري ماتيس.

إن انتقــال الفن التشــكيلي من تأســيس رؤية أخــرى للعالم، مرورا من ترميزيــة الكهوف إلى ما بعد حداثة فناني العصر الحديث. من أجل اشتقاق نظرية فلســفية مقبولة للفن عموما؛ ترك فينا أثرا لعاطفة ميتافيزيقي­ة، وكذلك السعي لإدراك العالم المختفــي، لا كمحــاكاة للعالم، بل مــن أجل جعل الفن عالما قائم الاكتمــال والحضور في العالم. كما عندما نرى بعيون مثقفة، لكل من لوحات بيكاســو وجورج براك وبول ســيزان وخوان غريس، وهي تلتقط العالــم لا المادي، عالم المجتمــع والتجربة الروحية. ٭ كاتب مغربي

 ??  ?? لوحة مدرسة أثينا للفنان الإيطالي رافائيل «1509 - 1510»
لوحة مدرسة أثينا للفنان الإيطالي رافائيل «1509 - 1510»
 ??  ??

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Kingdom