Al-Quds Al-Arabi

نوال السعداوي: موقع المرأة من المرأة

-

■ لم تتوان نوال الســعداوي عن تكرار القول إن النســوية لن تكون قوة سياســية منظمة وواعية بحقوقها وأهدافها، ولهــا قدرتها على الفعل واتخاذ القرارات الكبرى؛ إلا إذا حررت المرأة مثيلتها المرأة، فالنســاء لن يحررهن إلا النساء أنفسهن. والأنثى الحقيقية هي المتحررة العقل، والمرأة إنسانة كالرجل تماما، ولها أهليتهــا التي هي أعظم نعم الله التي ينبغــي ألا تهدر؛ بل توظف وأهمهــا التفكر العقلي بحرية وصدق. وهذا ما حاولت الســعداوي فعله وهي تؤلف وتنشر وتحاضر وتناظر وترفض وتؤيد.

وحين اســترجعت الســعداوي بواكير النهضة النســوية العربية، بدأت بالرجال الذين دعوا إلى تحرير المرأة من الجهل والحجاب فذكرت أحمد فارس الشــدياق ورفاعة رافع الطهطاوي وعبد الله النديم ومحمد عبده وقاسم أمين ومحمد حسين هيكل مؤلف رواية «زينب».

ولعل المعيار الذي اتبعته الســعداوي في تقديم هــؤلاء المصلحين الرجال على النســويات، تأكيدها على التأثير الفعلي لآرائهم في مرحلة البواكير على النســوية العربية، التي لم يكن دورها ســوى دور المكمل لدورهم، وفي مقدمة هؤلاء المصلحين رفاعة الطهطاوي وقاســم أمين، وكأن النهضة النسوية التي انطلقت مع منتصف القرن التاســع عشر، لم تحقق تبكيرا ولا جرأة، ولم تقدم شيئا ذا قيمة يترك أثراً في معركة تحرير النساء.

وبسبب ذلك مرّت الســعداوي مرورا عابرا على عائشة التيمورية، وزينب فواز، وملك حفني ناصف، فلــم تقف مليا عند منجزاتهــن الأدبية والتأليفية المناصرة لقضية المــرأة.. لكن وقوفها عند مي زيــادة، الذي جاء تحت عنوان )المــرأة العربية الثائرة( كان وقوفا مطولا بعض الشــيء، لا لعرض أفكار مي التحررية، وكفاحها الاجتماعي من أجل ترسيخ قيم مدنية فيها للنسوية موقع ومكانة؛ وإنما لتقدم صــورة للمرأة الذكية، مركّزة على حياتها الشــخصية، لبيان المصير المأســاوي الذي انتهت إليه، واجدة أنها في هذا المصير لا تختلف عن مصير أي رائدة من الرائدات اللائي اتهمن في العصور الوسطى بالجنون والفسق والسحر.

ومن الغريب أنها لم تعط هدى شعراوي المؤسسة للاتحاد النسائي العربي عام 1923 وقفة مناســبة، زاعمة أن مكاســب الحركة النســوية التي شاركت فــي ثورة 1919 ذهبت للطبقــة العالية، وصارت في خدمــة القصر والأحزاب الرجعيــة. وإذا كانت ترى الحركة النســوية آنذاك قد اتســمت بالابتعاد عن مجال العمل السياســي، فلم يحقق الاتحاد النسائي تغييرا في قانون الأحوال الشخصية، ولا منح المرأة حق الانتخاب، فلأن الاتحاد ما زال في طور التأسيس ولم يثبت دعائم فعله بعد، لكنه في ما بعد سيتمكن من تحقيق بعض المطالب، لاسيما حين أُسست له فروع في بعض من البلدان العربية.

ولم تشــر السعداوي إلى نبوية موســى مؤلفة كتاب «المرأة والعمل» وفيه تناولت الفرق بين الرجل والمرأة، واســتعداد كل منهما للعمل، ولم تذكر درية شــفيق التي اســتُبعدت من الحياة المدنية، وهي التي حاربت طواحين الهواء حتى وفاتها 1975. كما لم تذكر نســويات غير مصريات مثل صبيحة الشــيخ داود مؤلفــة كتاب «أول الطريق في النهضة النســوية» ونظيــرة زين الدين وكتابيها «الفتاة والشيوخ» و»السفور والحجاب».

وإذا كانت نوال الســعداوي قد قصَّرت في تصوير بواكير النهضة النسوية العربية؛ فإنها أجادت في تصوير الواقع النســوي، وما فيه من صور حســنة كاســتيزار أول مصرية عام 1962، علما أن العراق هو أول بلد عربي استوزرت فيه امرأة هي الدكتورة نزيهة الدليمي عام 1959. وما جعل نوال الســعداوي تركز علــى خيبات النهضة النســوية، وتنســى إنجازاتها علــى الصعيدين المصري والعربي، هو طوباوية الطموح الذي فيه شــيء من الذاتية والتفرد، على حساب النماذج النسوية السابقة التي قدمت الكثير من التضحيات وهي تجابه المجتمع الذكوري وتتصدى لمواضعاته.

وهذا التركيز على إخفاق المرأة المناضلة وسلبية أدوارها، كانت قد مارسته نوال السعداوي بحق نفسها أيضا، حين تناست أن تركز على جوانب نجاحها الفكري والإبداعي على المســتويي­ن العربي والعالمي، وهــي تتبنى الدفاع عن القضية النســوية حتى صــارت المرأة رقم واحــد الممثلة للنســوية العربية المعاصرة.. وإنما ركزت بدل ذلك علــى الإخفاقات والخيبات التي تعرضت لها خلال مراحل حياتها. ومن يعد إلى مذكراتها كطبيبة وســجينة ويقرأ سيرتها الذاتية «أوراقي حياتي» ســيجد ذاك التناســي وهذا التركيز واضحين، وهي تسخر قلمها لعرض تجاربها المؤلمة والتراجيدي­ة.

وانطلاقــا من وعيها الثوري، ونزعتها النضاليــة ذكرت صورا مؤلمة لحياة المرأة العاملــة، مؤكدة على أن انتــزاع حقوق المرأة لن يكــون إلا بأن تصبح النســاء قوة سياســية، وحصرت تحرير المرأة في البلدان التي تســير نحو الاشتراكية، أما المجتمعات الرأسمالية فتنخفض فيها مكانة المرأة.

وانحياز الســعداوي إلى الجانب الثوري في العمل النسوي ونقمتها على بورجوازيــ­ة بعض ممثــات النهضة النســوية و)صالونيتهــ­ا( جعلها ترى أن فاعليــة المرأة العربية لا تكــون حقيقية إلا في الميدان الواقعي السياســي والاجتماعي. وأوجبت نوال السعداوي على المرأة العربية أن تدعم هذا الميدان الواقعي، بالوعي الثقافي، فتحرص على قراءة التاريخ والأساطير والاقتصاد والسياســة، مع التعرف على حركات التحرير العربيــة، والأديان من ناحية التشــابه والاختلاف.. وبالشكل الذي يعطيها الشــجاعة على اتخاذ مواقف جريئة في حياتها الخاصة والعامة.

وثورية نوال السعداوي جعلتها تحنق على المرأة العربية التي تزيف نفسها فلا تظهر على حقيقتها، من خلال نظرتها القاصرة للجمال. ولا عجب إذا قلنا إن الميدان الواقعي كمظاهرات ومســيرات وانخراط في العمل السياسي، لم يكن ليميز نوال السعداوي كما ميزها الميدانان الفكري والإبداعي اللذان كانا مهمين في ما كســبته من تأييد الرأي العام، ولاســيما حين أهدرت بعض الجماعات المتشــددة دمها، مع اشــتداد نزعة التطرف والتكفير في المجتمع المصري مطلع القرن الواحد والعشرين.

وإذا كانت نوال الســعداوي قــد تعاملت مع المرأة العربيــة عموما، والمرأة المصرية تحديدا؛ فإن هناك امرأة غيــر معروفة كثيرا ما تحدثت عنها في كتبها بوصفهــا الرفيقة التي كانت تلازمها فــي كل كتاباتها، فتبــدو لها تارة طيعة وســهلة، وتارة أخرى تظهر عصية ومتناقضة، في إشارة إلى أن هناك تلاقيا حتميا بين عالم المــرأة الداخلي وعالمها الخارجي، فكيفما يكن أحد العالمين يكن الآخر مثله.

وهذا يذكرنــا برواية «وجهان لحواء» المنشــورة بالإنكليزي­ــة عام 1971 للكاتبــة الهندية المعروفة أمريتا بريتام، وفيها البطلة أنيتا تتحدث في شــكل تناوب قصصي عــن صورتين لها: صورة تبدو فيها امرأة لا يســتطيع أحد أن يراها، هاربة بشــعرها المنفوش الذي يتطاير عند ركضها، والصورة الأخرى تبدو فيها أنيتا امرأة جالســة إلى جانب زوجهــا تقليدية ليس لها أن تتحدى أو تقاوم أو ترفض. وقد اعتــادت المرأة الأولى أن تصطدم بالثانية لتنهمكا في شجار طويل وجدال لا ينتهي.

وقد عكست نوال الســعداوي في انحيازها لرفيقتها، أو في التصادم معها، نظرتها الواقعية للمرأة التي هي أنثى حقيقية، متحررة العقل وإنســانة ترى نفســها كالرجل لا تختلف عنه، ولهــا أهليتها، التي هي أعظــم نعم الله التي ينبغــي إلا تهدر، بل توظف وأهمها التفكر العقلــي بحرية وصدق، وهي تعمل وتؤلف وتنشــر وتحاضر وتناظر، وترفض وتؤيد. وعدد الإناث اللائي تتوفر فيهن هذه المميزات قليل يكشــف عنه اعتراف الســعداوي أن أغلب النساء لا يؤيدن رؤاهــا، في قولها: «انقضت ســتة وثلاثون عاما حتى يســقط قانون الزواج القديم، كنت أتمرد عليه وحدي، كنت أعرف أنه بقايا العصر العبودي، لكن أغلب النساء لم يكن معي حتى صديقاتي الثلاث بطة وصفية وسامية، لم يملكن شجاعة الطلاق، أو الاعتراض على القانون».. «أوراقي حياتي، ج3».

ولا شــك في أن الفعل النســوي العربي يظل دون الطمــوح لمحدودية هذا الفعــل وخصوصيته، ومن ثم لا منــاص من العمومية التي هي الســمة التي ينبغي للنســوية العربية أن تحملها. وما جعل كثيرا من المشــاريع النســوية الثورية تتلكأ، وربما تفشــل في تحقيــق تطلعاتها المصيريــة، أنها اقتصرت على الأبعاد الوطنية والسياســي­ة فقط، فلم تغير الواقع المعيشــي للنســاء.. وبذلك تظل الأهداف الكبيرة غير متحققة بالإصلاح الجزئي والتغيير المحدود والخصوصي؛ وإنما بالثورة الجذرية الشــاملة التي فيها النســوية تنظر إلى نفسها بوصفها عمومية. ٭ كاتبة عراقية

 ??  ??

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Kingdom