Al-Quds Al-Arabi

عصر طوفان الصورة ولا مفرّ رقابة السلطة «الرابعة» على «الثالثة» في محاكمة قاتل فلويد

-

أثار مقتــل الأفرو-أمريكي جــورج فلويد خنقاً تحت ركبة شــرطي أمريكي أبيض )25 مايو/آيــار 2020 في مينيابوليس / ولاية مينيســوتا( احتجاجات واسعة عبر الولايات المتحدة )امتدت كذلك إلى بريطانيا ودول أوروبيّة أخرى( تحول بعضها إلى أعمال عنف، وأطلقت موجة جدل ونقاشات مجتمعيّة واسعة لم تهدأ حتى اليوم حول مسألة استمرار تغلغل العنصريّة العرقيّة في المجتمعات الغربيّة، والحقوق المنتقصة للأقليات الملوّنة فيها والتي تجعل منها هدفاً ســهلاً في مرمى المهووسين باستعمال فرط القوّة من منسوبي الأجهزة الأمنيّة وهيئات إنفاذ القانون.

لم يكن وقتها جورج فلويد أوّل من يقتل بلا داع على يد الشــرطة الأمريكيّة، التي أصبحت إحصائيّــاً للأقليّة ذات الأصول الأفريقيّة فــي الولايات المتحدّة صنو الذّبحات الصدريّة وأمراض ارتفاع ضغط الدّم كأحد الأســباب الرئيسيّة للوفيات.

لكن الضجيج الإعلاميّ الاســتثنا­ئي حول فلويد تحديداً أتى من مقطع فيديو مصور التقطه شاهد عيانٍ على هاتفه المحمول للحظات الاغتيال القاسية ما لبث وجد طريقه إلى مواقع التّواصل الاجتماعي ليشاهده عشرات الملايين من البشر عبر الولايات المتحدة والعالم.

وتحت ضغط الغضب الذي أثاره المقطع، لم يكن ممكناً للســلطات الأمريكيّة كنس الحكاية تحت البساط، كما هو المعتاد في حوادث القتل غير المبرر للشبان الأفرو- أمريكيين، واضطرت لتحويل ديريك شــوفين، الشرطي الأبيض الذي ارتكب الجريمة إلى القضاء.

كأنّ قدر فلويد أن يموت ليصبح نجماً

بالفعل شــكلت ولاية مينيسوتا هيئة محلفين، وبدأت خلال الأسبوع الماضي جلسات محاكمة شــوفين، التي تتابعت لثلاثة أيّام متوالية إلى الآن. كان بيتر كاهيل، القاضي الموكل بالنظر في القضيّة والمدرك تماماً للأهميّة الإعلاميّة، التي ترتبط بعدالته على مســتوى الولايات المتحدة برمّتها قد أمر بتنفيذ إجراءات احترازيّة اســتثنائيّة في قاعة المحكمة للوقاية من كوفيــد 19 تضمّنت تقليص عدد الحضور حتى الحد الأدنى - ومن ذلك اقتصار عدد المراســلي­ن الصحافيين إلــى اثنين فقط في وقت واحد - وهو بالطبع لن يكون كافياً في أيّ حال لإرضاء تعطّش المواطنين إلى معرفة مجريات التّقاضي في قضيّة حساســة وشــديدة العموميّة مثل هذه، الأمر الذي وجد معه القاضي أنّه يمكن التعويض عن غياب الصحافة عبر السماح بنقل الجلسات مباشــرة على هواء التلفزيونا­ت. وكأنّه قدر جورج فلويد أن كل شــيء يتعلّق به من لحظة موتــه، وغضب النّاس إلى محاكمة قاتله ستكون مقاطع مصوّرة تنتشر على نطاق عالميّ.

لم يكن ممكناً بالطبع السّــماح بإدخال كاميرات عشرات المحطات الإخباريّة والتلفزيون­يّــة المهتمة بتغطيّة المحاكمة / الحدث إلــى قاعة المحكمة، ولذا أوكلت مهمّة إدارة البث التلفزيوني إلى )كورت تي في( وهي محطّة أمريكيّة متخصصة بمســائل المحاكم والقانون، علــى أن تفتح هواءها للبث المباشــر لكل القنوات الإخباريّة الأخرى دون مقابل.

دراما تلفزيونيّة في برنامج تلفزيون واقع

كاميرات «كورت تــي في» كانت جاهزة حتى قبل دخــول فريق المحكمة إلى القاعة في اليوم الأوّل المرتقب. ولم يُخف تنفيذيو التلفزيون المتخصص غبطتهم في الفرصة التاريخيّــة التي منحت لهم للانتقال من قاعــدة متابعين محدودة للغاية، إلى مكانة الشاشــة الأولى في الولايات المتحدة ولو لســاعات أو أيّام قليلة. وهم بالفعل شــرعوا فور تكليفهم بالمهمّة من القاضي في حملة تسويقيّة واســعة تحت عنوان «محاكمة قاتل جــورج فلويد» بدلاً مــن «محاكمة ديريك شــوفين» بالنظر إلى أن القتيل أشــهر بكثير من القاتل، ووضعوا تلك الكلمات بين صورتيهما في نهاية مقطع فيديو ترويجي ترافقه موسيقى متصاعدة. وفي إعلانات أخرى، ادعى )كورت تي في( بأنّه ســيكون الشبكة الوحيدة في العالم التي ســتنقل المحاكمة / الحدث من الألف إلى الياء، وهو ما تســبب بمنافس له يدعى )تلفزيون القانون والجريمة( برفع دعوى قانونيّة بحجة أن ذلك الإعلان كاذب، وأن دور )كوت تي في( هو في تنســيق البث للقنوات الأخرى فحســب، وأنّه بالتالي يحق لها أيضاً نقل وقائع المحاكمة من الألف إلى الياء.

أجواء الإعلانات الصاخبة والمنافســ­ة التلفزيونيّة هــذه بدت كما لو كانت اســتعادة لأجواء محاكمة النجم الأفروأمري­كيّ )أو جيه سيمبســون( الطنانّة من تســعينيات القرن الماضي، أقلّه لناحية الحساســيّة العرقيّة التي سترافق مــداولات الحكم المتعلّق بشــخصيّة صارت عامّة ومشــهورة - رغم أن جورج فلويد سيكون الحاضر الغائب فيها - والتي شــهدت حينها متابعة تلفزيونيّة واســعة استمرت شــهوراً. وهو ما تســبب بإثارة نقاش واســع في الأوساط الإعلاميّــة والقانونيّة معاً حول صوابيّة قرار القاضــي بإدخال الكاميرات إلى قاعة المداولات - وهو أمر يحدث للمرّة الأولى في تاريخ ولاية مينيسوتا.

البعض اعتبر بأن محاكمة شــوفين ستتحوّل بســبب الصيغة التي يطرحها الإعلام إلى نوع من دراما تلفزيونيّة، بحلقات متعددة يحشد لمتابعتها الجمهور على أســس تجاريّة. وحذّر آخرون من أن الكاميرات ســتتحوّل من مجرّد ناقل أمين للحدث إلــى لاعب مؤثر في ســلوك أطراف القضيّة الذين ســيجدون مع تســليط الأضواء المكثّف عليهم أنّهم يلعبون أدوراً في برنامج «تلفزيون واقع» آخر، وأن ردود أفعال المشــاهدي­ن ستنعكس بشكل أو آخر على أدائهم وبالتالي حيثيّات القضيّة القانونيّة.

وانقســم أطراف الادعاء بدورهم بــن مؤيّد ومعارض. فذهــب مكتب كيث أليسون، النائب العام للولاية، إلى أن كاميرات التلفزيون قد تؤدي إلى تخويف الشــهود، وأن المراسلين يمكنهم بدلاً من ذلك استخدام مشاهد من لقطات كاميرا الدائــرة المغلقة الخاصة بالمحكمــة. فيما وجد فريق الدّفاع عن شــوفين أنّه قد يحظى بفرصة أفضل لشــفافية الحكم على موكلهم في حال بث المحاكمة مباشرة على الهواء، وأن الكاميرات ســتلعب دور الرّقيب، كما لو أنّها «ســلطة رابعة» تراقب أداء «السلطة الثالثة» وتعزز أسس النّظام الديمقراطيّ والعدالة.

لا توجد كاميرا محايدة لكنّه عصر الصورة ولا مفرّ

حاول القاضي كاهيــل، رئيس المحكمة، التقليل من التأثير الســلبيّ لوجود كاميرات البث التلفزيونيّ المباشر عبر فرض مجموعة من الشروط كأن لا يسمح بعرض حضور أقارب فلويد والشــهود الأحداث دون موافقتهم، فيما لا يســمح بظهور المحلفين على الإطلاق. وهو أمر في الجلســة الأولى بإزالة حاجز وقائيّ )مــن كوفيد 19( من خطّ الكاميرا بعد أن عكس صــورة أحد المحلفين. ومع ذلك، فإن مرافعة النيابة لاحقاً بدت وكأنها حســمت الأجواء ضدّ المتّهم مبكراً، بعدما تضمّنت مقطع فيديو مدته تسع دقائق ونصف لشوفين وهو يضغط بركبته في رقبة فلويد. وعلّق عمر خيمينيز، المذيع في شبكة سي إن إن، واصفاً المقطع بأنه «مشاهدة صعبة للغاية» رغم أنّه ليس جديداً.

وتســاءل «كيف لأي دفاع أن يتغلب على هذا الفيديو؟ أنظر إلى ردود أفعال الناس على مواقع التواصل الاجتماعيّ».

وحدّث ريكي كليمان المعلّق القانونيّ لشــبكة «سي بي إس» مشاهديه بأنّه لو كلّف بالدّفاع عن شــوفين «لطلبت عرض لقطــات التقطتها كاميرات المراقبة الأخرى والتي أظهــرت بعضها جورج فلويد وهو يتعارك مع رجال الشــرطة، وذلك للتخفيف من قوّة مقطع لحظات القتــل» فيما اعتبرت جين كيرتلي، وهي أســتاذة أخلاقيات الإعلام والقانون في جامعة مينيسوتا إن المحاكمة ستكون «فرصة لإثبات أن الكاميــرا­ت لا تنتقص من هيبة الإجراءات القضائيّة ولا تقلل من قــدرة المحكمة على المضي في عملها» مشــيرة إلــى أن حضورها في قاعات المحاكم موضوع جدل قديم منذ ما يقرب المئة عام وأنّه قد حان حســمه لمصلحة التدقيق في الإجراءات القضائيّة، وضمان شفافيّة إقرار العدالة.

الحقيقة أن الثقافــة التلفزيونيّة الأمريكيّة لها كثير من الجوانب الســلبيّة والإيجابيّة، ولن يســهل مطلقاً الوصول إلى قناعات مشتركة بين الجميع بشأن حضور الكاميرات للمحاكمات، ومما لا شـّـك فيه أنّ طوفان الصورة الجارف لن يتوقف على باب المحاكم، وسيتعيّن على أطراف الدعاوى القضائيّة العامّة أقلّه خــال أيّام كوفيد 19 توقع حضور عدّة ملايين من الأشــخاص لمداولاتهم بعدما كان الأمر مقتصراً قبلها على حضور أفراد قليلين.

وإن لي حلماً. أن أرى كاميرات التلفزيون شاهدة في كل قاعة محكمة عربيّة. ٭ إعلامية وكاتبة لبنانية – لندن

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Kingdom