Al-Quds Al-Arabi

فرنسا: قانون تعزيز مبادئ الجمهورية أو تهافت التصحيحية السياسية

-

أولئك الذين يعدّون ممارســة الاختيار الشــخصي أكثــر أهميــة مــن الترابــط الاجتماعــ­ي أو الســيطرة علــى المخاطر الاقتصاديـ­ـة أو أيّ خيــر جماعــي آخر، ويشــرّعون القوانين اســتنادا إلى أوهام وخرافات التنوير والعلمانية المتصلّبة في نظرتها إلى نفســها، ما كانت هذه الرؤية لتكســب أي أهمية كبيرة بل على العكس، فإنهــا تهدّد بالعجز عــن النهوض بأكثر المهــام صعوبة في هذا العصر، ألا وهي مهمّة توفير شروط التعايش السلمي والإنتاجي بين الشــعوب، وإذابة التمييزات العرقية والحقد الأيديولوج­ي بين النُّظم التي ستكون دائما مختلفة باختلاف الثقافات وتنوّع الهويات الحضارية.

وقانــون «تعزيز مبــادئ الجمهورية» الــذي أقرّته الحكومة الفرنســية، يأتي كمحاولة لتعميم المصطلحــا­ت وإظهارها غير مستفزة للرأي العام الإســامي، خاصة بعد حملة المقاطعة التي تعرضت لها المنتجات الفرنســية إثر خطــاب إيمانويل ماكرون الذي اعتبر في غمرة حماسه بأن الإسلام في أزمة، وذلك للتنديد بحادثة مقتل المدرس الفرنسي الذي عرض صورا مسيئة للدين الإســامي وللمقدّســات. وهذا القانون الذي كان يُعرف باسم «مكافحة النزعــات الانفصالية» ثم تمّ تعديله ليوصف «بالنزعة الإســامية المتطرفة» تدرّج في التســمية كما يبدو، ليستقر عند عبــارة تعزيز المبــادئ. ويدافع عنه المســؤولو­ن الفرنســيو­ن بشراسة غير عابئين بالانتقادا­ت الحقوقية حول طابعه القمعي، وقلق دول عربية وغربية إزاء الحرية الدينية في فرنســا. وهذا المشــروع الذي يتضمن حوالي 50 بنــدا موجّهة في ظاهرها ضد الخطابات التي تتّصف بطابع الكراهية والأيديولو­جيا المتطرفة، هــو في عمقــه يأتي اســتجابة لمواقف عنصرية ضد الإســام، ومحاولة لاســتمالة اليمين المتطرف الذي عُرف بمواقفه الحادة ضد الأقليات والأجانب.

هو قانون يتناول الإكراه أكثر من الدمج، ويصدر نتيجة أحكام مســبقة بحق المســلمين. وهناك خلط واضح يكشف عن تديين السياســة، ويفسّر مشــاكل الاندماج وصعوبات العيش بشكل خاطئ. ومارين لوبان ليست الوحيدة فيما يبدو التي صدر عنها خطاب إقصائي إزاء المســلمين، كالذي صرّحت به في ديسمبر/ كانــون الأوّل 2010 عندما قارنت صلاة المســلمين في الشــارع بالاحتــال النازي في الحــرب العالمية الثانية. فالســبب ليس دينيا أو عرقيا بل اجتماعي. وبتأكيد المفكّر الفرنســي باســكال بونيفاس، فإنّ البعض يجعل من الإســام والمســلمي­ن معركته الأولى بــل علّة وجوده. ولطالما قيل بأنّ العرب الحاضرين ماديا في فرنســا منذ جيلين أو ثلاثة، لا يســتطيعون الاندماج لأنهم مسلمون، خلافا لمهاجرين من موجات سابقة، اسبان وايطاليين وبولنديين وغيرهم. فقد خضع المهاجرون من الأجيال الســابقة لصدمة الرفــض والعنصرية قبل أن يندمجوا بعد جيل أو جيلين بفضل المدرســة والعمل. ولكن موجة المهاجرين المسلمين وصلت إلى مرحلة انفجار البطالة، وبالتالي تعطلت آلية الاندماج. ومن هنا تأتي محاولة البعض تفسير القضايا الاجتماعية من منظور عرقي. فهناك من الشباب المهاجرين من يندمجون مهنيا اندماجا جيــدا، ولكن يبدو بــأن نجاحهم في مهن مميــزة يخيف أولئك الذين ينظرون بارتياب إلى وصول منافسين جدد. إنّه الاندماج الذي بصدد النجــاح يخلق توترات جديدة، وتُســتغل حالات الاندفاع الشاذة، والأحداث المعزولة مثلما حدث مع مجلّة شارلي إبدو، أو حــادث طعن منفصل في كنيســةفي مدينة نيس، ليتم إقرار مشروع القانون الذي يُقام على مبدأ العلمانية لتعزيز قيم الجمهورية. ولكن يتم حصره ضد ديانة بعينها وهي الإســام. وهو تخبّط واضح يفتح الباب لخطورة تسهيل استهداف العرب والمســلمي­ن. وكان يُفترض بحكومة ماكرون ســنّ قوانين لجميع المواطنين بــدون تفرقة تجعل البعض وكأنهــم من درجة ثانية، من باب التدخل فــي تنظيم الديانات لدولــة تدّعي فصل الدين عن الدولة. فالتمييز بين المســلم المعتدل والمســلم المتطرف ليس أكثر من خدعــة، خاصة عندما تعتبر ممارســة الصلاة أو صوم رمضان دليل تطرف ديني. وكأنه لكي يعتبر المسلم معتدلا، عليه أن لا يلتزم بمبادئ الإســام وشعائره، وأن لا يكون مؤمنا. ومن يقف ضد إســرائيل في موضوع صراع الشرق الأوسط، لا يعتبر مسلما معتدلا، في حين يستطيع اليهود الفرنسيون التعبير على هواهم بخصوص هذا النزاع، وهم الذين يشــكلون أوسع طيف سياســي حول هذا الموضوع. ناهيك من وطــأة الخوف من تهمة اللاســامي­ة. وباختصار إذا أراد العربي أن يعيش باطمئنان في الأوســاط الغربية عليه أن يقف بشــجاعة إلى جانب إسرائيل «الديمقراطي­ة الوحيدة في الشــرق الأوســط، المهــددة من قبل الإرهاب». والأفضل له أن يتجنّــب التعبير عن رأيه بخصوص الصراع العربي الإسرائيلي وقضايا الشرق الأوسط.

هي عملية بحث عن الإثارة كما وصفها بونيفاس منذ سنوات. وبالفعل المقاربة الاستراتيج­ية لصراع الحضارات التي يشحذها البعض عمدا ذات ارتدادات في الداخــل. ففي أعقاب أحداث 11 ســبتمبر/ايلول، تمّ العمل على تصوير المســلم بوصفه إرهابيا. ومنذ ذلك الحــن والعرب يعانون التمييز بمجرّد أن تطأ أقدامهم المطــارات الأجنبية. ومن أجــل تجنّب انتقادهــم بالعنصرية، اخترعوا مصطلحــات من قبيل التأكيد على الفصل بين المســلم المعتدل والمســلم المتطرف. وصار لمصطلحــي معتدل ومتطرف أبعاد جديدة، فمن يوافق خطط المعســكر الذي تقوده واشنطن هو المعتــدل، والمتطرف هو ذلك الذي لديــه وجهة نظر مخالفة، ولا يوافق أمريكا سياســاتها في قضايا المنطقــة، وفي مقدّمتها الصراع العربي الإســرائي­لي. والأمر ذاته انسحب على مصطلح الممانعة، وأصبح يُســتخدم بمغزى عنصري ليشــير إلى أولئك الذين يمانعون حق الاســتقلا­ل للشعب اليهودي وليس للشعب الفلســطين­ي. وبفضل الأعراف الصارمة تمّ حجب الحقائق كافة، وهُمّشــت المبادرات الأخرى لحلّ هذا الصراع. ونُظِر إليها بأنها قــد زاحمت عملية الســام التي أوهــم بها المعســكر الأمريكي. والتصحيحية السياســية التي ادّعوها منذ فجر الألفية الثالثة جعلتهم غير منســجمين مع ما اســتعملوه من مصطلحات مثل «الحرب على الإرهاب» المعلنة من طرف الأطلســي من غير تفكير إثر سقوط البرجين والتي سرعان ما تحوّلت إلى مرادف للحرب ضد الإسلام. والمشاكل في أوساط الجاليات الإسلامية المتواجدة في البلدان الغربية تنبع من الَمعِين ذاته. والزعماء السياســيو­ن إلى الآن، لا يفكّرون جيدا قبل أن يتبنّوا شعارات خطيرة كهذه.

قانون ماكرون يقدّم لخدمة حســابات سياســية شــعبوية، بغرض استمالة جانب من ناخبي اليمين الذين يحبون الحديث عن العلمانية وفرنســا للفرنســيي­ن. والمواضيــ­ع التي يخوض فيها الرئيس الفرنســي منــذ فترة، وهــو الــذي اُنتُخب على أســاس برنامج ليبرالي، كان يحتكرهــا اليمين المتطرف. ويبدو أنّه ســيواصل في خطّ اليمين المحافظ، لأنّه ابتعد بشكل واضح عن مبدأ الوســطية، وقطــع تواصله مع اليســار. وهي الدائرة التي أوصلته إلى الحكم إلى جانب دعــم اللوبي اليهودي. ومن المؤســف أن يكون قانــون الانفصالية مجرّد قضيــة انتخابية، يصبــح بفضلها المســلمون رهائن لخــط سياســي، أو أهداف حزبية أو طموحات شخصية. وبالمحصلة، فإنّ هذه المشروعات المتهافتة ليست سوى إطلالات مرحلة منقرضة على عصر راهن، يجب أن يتخّذ لنفســه اتجاها مختلفا عن الاتجاه الذي سار به العصر المنقرض. فهي لا تتفق مع توقّعات التنوير بشأن انتشار العلمانية والدعوة إلى إقرار الســلم عــن طريق التجارة، وهي تنبئ بعودة إلى المنابع الكلاسيكية للنزاع السياسي والعسكري بين الدول وفي داخلها.

* كاتب تونسي

 ??  ??

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Kingdom