Al-Quds Al-Arabi

الحركات الإسلامية بين نداءات المقاطعة والدعوة للاندماج

- *كاتب فلسطيني

رغم مرور عشــرة أيام على انتهــاء الجولــة الانتخابيـ­ـة الرابعة للكنيست الإســرائي­لية، لم تظهر بعد بوادر انفراج الأزمــة السياســية القائمة، وذلك رغــم محافظة الأحزاب اليمينية على قوّتها وتراجع نســبة المصوتين العرب بشكل بارز، فالانقساما­ت الداخلية بين أحزاب اليمين والعداوات الشــخصية التي يكنها بعض زعاماتها لشــخص بنيامين نتنياهــو أدّت إلــى تعقيد وضعــه وإلى منعــه من جني نتائج إنجازاته في حقلي مكافحــة كورونا وتوقيعه عددا من «معاهدات الســام» مع بعض الــدول العربية، أو من قطــف ثمار سياســاته العنصرية والتحريضية الســابقة وتــودّده الانتهــاز­ي المفاجئ للمصوتين العــرب قبل هذه الجولة. سيســتمر المعســكرا­ن، واحد برئاســة نتنياهو، والآخر برئاســة يئير لبيد، بمحاولاتهم­ا في تجميع أكثرية نيابية تمكنهما من إقامة حكومة وترؤســها علمًا بأن جميع الاحتمالات مــا زالــت واردة، بما فيها الاضطــرار لجولة انتخابات خامسة ســتضع المواطنين العرب في إسرائيل، مرة أخرى، أمام نفس التجربة والتحديات.

تعيش إســرائيل إذن تداعيات أزمة سياسية متدحرجة وخطيرة، ولن تنتهي بطبيعة الحال مع تشــكيل الحكومة أو إذا أدّى فشــل ذلك إلى الذهاب لجولة انتخابية خامسة، فالصراع الحقيقي داخل المجتمع اليهودي هو، بدون شــك، أعمق ويدور حول شكل «الدولة القومية اليهودية» العتيدة وطبيعة نظام الحكم فيها ومرجعياته المعتمدة.

لقــد تطرّقت في مقالتي الســابقة إلى بعض الخلاصات التــي قرأتها فــي النتائج كمــا أقرتها «لجنــة الانتخابات المركزيــة» ولاحقًا لما ذكــرت هناك ســأتعرض، فيما يلي، لظاهرة الحركة الإسلامية وأســلوبها في العمل السياسي بيننا مــن جهة، ولظاهــرة مقاطعة الانتخابــ­ات من جهة أخــرى. إنهما قضيتان أساســيّتان مرتبطتــان في عملية الانتخابــ­ات، لكن لهما تأثيــرات أبعد بكثيــر وأدوم على حياتنا اليومية وعلى هوية مجتمعاتنا وعلاقاتنا مع الدولة كما نمارسها في واقع لم يعد يشكّل امتدادًا طبيعيًا لماضينا، كمواطنين عرب في إســرائيل، بل يشي بظهور انشطارات وتشــكّلات «عــرب - إســرائيلي­ة » جديــدة، لــن تحتكم بالضرورة إلى قواعد اللعب المتعارف عليها، وغير مدفوعة بنفس الهواجس والمصالــح التي أملتها في العقود الماضية مشــاعر الانتماء إلى هوية عربية وطنية واضحة وجامعة حافظت على معالمها الأساسية رغم وأثناء تجاذبات بعديها القومي والمواطني وتصادمهما أحيانًا كثيرة.

لا ولن تنحصر هذه المتغيرات في أداء الحركة الإسلامية الجنوبيــة الأخيــر، وإن كانــت هي مــن أهــم معالم تلك التحولات وربما أجدرها بالمتابعة، وذلك لأن أسباب نشوء هذه الحركة ونشــاطها كحركة يمينية سياســية إسلامية، وإمكانيــة نشــوء غيرها من بــن الشــرائح العلمانية أو شــبه المتدينة، مغروســة عميقًا في طبيعة الفكر السياسي الإســامي وفي ما يعتمــل داخل هويات بعض الشــرائح الاجتماعية، ســواء مــا يتوالد منها ويتراكم على شــاكلة طبقة وســطى جديدة، أو ما يتفاقس على حفافها، أو، على النقيض، بــن الشــرائح المجتمعية المهمشــة والفقيرة أو العابثة.

لقد انبرى البعــض بتعريف عبور الحركة الإســامية لعتبة الحســم وحصولها على أربعة مقاعد نيابية بالنصر الكبيــر. وقد يكون هذا التوصيف صحيحًا في المواجهة بين جناحي الحركة الإســامية ودليلًا علــى تراجع قوة قادة جناح الحركة الإسلامية الشمالية وفشلهم بإقناع المصوتين المســلمين المحافظين بصحة نداءات مقاطعــة الانتخابات، فالاختلاف حــول التصويت أو الامتنــاع عنه لا يقع ضمن الفقهيات العقائدية المجمع عليهــا، بل هي اجتهادات حول المفاهيــم السياســية التــي يطوّعهــا المفتون/المجتهدون حســب الظروف والمصلحة، حيث يصبح الاهتداء بقواعد إســامية سياســية مقرّة ومغايرة، مثل الضرورة «بدرء المفاســد» أو حتى «طاعة أولي الأمر» جائــزًا. أمّا أنا، وإن كنت لا أرى بســقوط الحركة الإســامية، لو كان قد حدث، مدعاةً للفرح، لــن أرى بفوزها نصــرًا، إلا إذا رصّد قادتها هذه الأمانة في حســابات المواطنين العرب قوتًا وكراماتٍ

وحقوقًا مســتحقة، وإذا لم يســتغل قادتهــا نجاحها من أجل تقويــة حكومة نتنياهو وحلفائه الفاشــيين ســواء تبوأ هؤلاء الوزارات أم لا. لا نعرف كيف ســيتصرف قادة الحركة الإســامية في الأيام القريبة المقبلة ومعهم النائب مازن غنايم، رئيس بلدية ســخنين الســابق، الآتي مؤخرًا إلى صفوفها من أحضــان حزب «التجمع الوطني» القومي. ومع أن كثيرًا من المؤشــرات لا تستبعد إمكانية اصطفافهم إلى جانب حكومة برئاســة نتنياهو، سيبقى الأمل معقودًا على بعض قادة ونشطاء هذه الحركة التاريخيين، لا سيما أولئك الذين تحدثوا ويتحدثــون دفاعًا عن المصالح العليا للجماهير وعن ضرورة تأمين حد أدنى من التنسيق والعمل الوحــدوي بين جميــع الأحزاب والحــركات العربية، مثل تصريح النائب الســابق عن الحركة، مسعود غنايم، الذي اســتحضر قبل أيام ذكرى يوم الأرض ومقتل الشاب منير عنبتاوي برصاص شرطة نتنياهو، فصرّح أن « الدعوة إلى الوحدة هي واجب الســاعة. فبعد معركة انتخابية شرسة كان بها هذا التشرذم، نحن بحاجة إلى لملمة البيت وإعادة اللحمة والتنســيق والتعــاون بين جميــع الأحزاب وبين القوائم العربية» وهو ليس وحيدًا في هذه الرؤية.

وبعيدًا عما ســيطرأ على هــذه الجبهــة الضيقة، رغم أهميتها، ستبقى الأزمة الكبرى التي تعيشها جميع الأحزاب والحركات والمؤسسات غير الإســامية هي الحقيقة الأهم التي عرّاها أمامنا تحدّي الحركة وزعيمها كاشفًا عجزهم في حماية مواقعهم وفشــل تنظيماتهم في قراءة الواقع ودرء مخاطره.

لم تكن سقطة القائمة المشتركة المدوية غير متوقعة، فمن تابع، خلال العقدين الأخيريــن، غياب قادتها وتنظيماتهم عن مواكبة المتغيرات العميقة الجاريــة داخل مجتمعاتنا، أحس بالمخاطر الداهمة، خاصة بعــد أن برز يومًا بعد يوم فشلهم في حماية الفضاءات الاجتماعية الضامنة لاستمرار حياتنا اليســيرة والآمنة، وتعنتهم، رغم الخســائر، بعدم مراجعة تجاربهــم. لقد حافظوا على بنى تنظيماتهم الهرمة والقاصرة عن خلق وسائل ردع سياسية واجتماعية تكون قادرة وكفيلة على صد تفشــي مظاهر العنف في مواقعنا، وعلى محاصرة تنامي قــوة العصابات الإجرامية الهدامة، أو على مواجهة الحركات الاندماجية في مؤسسات الدولة، على طريقــة الحركة الإســامية الجنوبية، وهي ليســت الوحيدة فــي هذا المدار، فــي وقت كان قادتها يوسّــعون مناطق نفوذهم ويســيطرون على مرافق ومنصات جديدة داخــل مجتمعاتنا، ســواء كان ذلك تحت يافطــة حماية مجتمعاتنا المحافظة، أو نتيجة لعدم مهادنتهم في مســائل العقيدة والإيمان. كان ســلوك قادة القائمة المشتركة ومن ثم انشطارها وخروج الحركة الإسلامية منها أحد العوامل الرئيســية التي أدت إلى تراجع قوتها شعبيًا كما شاهدنا، وكان التراجع في نســبة أعداد المصوتين العرب هو العامل القاتل الثاني.

لا أحد يســتطيع أن يثبت مدى تاثير نــداءات المقاطعة المؤدلجــة على من بقوا في بيوتهم، ولكــن، مع ذلك، يجوز لمن بــادروا بإطلاق تلك الحمــات أن يعــزوا نتائجها أو جزءًا منها لصالحهم وأن يفســروها كزيادة في شــعبيتهم وقدراتهم علــى التأثيــر. وعلى جميع الأحــوال، هنالك حاجة حقيقية لمناقشــة هؤلاء، وأنا أقصد مناقشــة الذين يؤمنون بأن المقاطعة هي وسيلة نضالية فعالة في مواجهة سياســات إســرائيل العنصرية والقامعة، وليست عبارة عن نزق رومانســي أو وقفة احتجاجية غاضبة أو ردة فعل عقابية لهذا الحزب أو لذاك المسؤول، فالاكتفاء بتسفيه تلك النداءات، التي هي في الواقع جزء من كلٍّ مفاهيمي سياسي، أو بإغفالهــا أو بمهاجمــة أصحابهــا لا يســعف ولا يلغي وجودها وتأثيرها، بل على العكس، فقد يلحق الضرر بمن يؤمن، مثلي، بفعالية التصويــت وبكون النضال البرلماني ليس أكثر من رافد في معركة يجب أن تلتئم فيها عدة روافد نضالية أخرى كي تؤتي أكلها السياســية المرجوة. لا أعرف من هم المعنيون بإجراء هــذا النقاش الضروري ولا من هم القادرون على تقييم تجربتنا السياسية باستقامة ومهنية وانتماء حقيقي، فصوت المقاطعين موجود بيننا وقد يكون فيه حكمة الحالمين أو طنين طهــارة الحق أو كله على خطأ، ودور الحركات الإســامية، على تفرعاتها، شاخص في كل ساحة من ساحات بلداتنا وشــوراعها، فمتى سيُناقشون سياســيًا حول مواقفهم وبرامجهم كما «ناقشت» الأحزاب الأخــرى بعضها وبدون مراءاة أو خــوف أو تلعثم، أو كما كان سيفعل، النشطاء الماركسيون والقوميون والعلمانيو­ن أو المثقفون إزاء حركة سياسية مسيحية متخيّلة دعت إلى إقامتها مجموعــة من الأكاديميي­ن والعلماء الفلســطين­يين المواطنين في إسرائيل تحت اسم «الحركة المسيحية الحرة» التي ستعمل بهداية تعاليم المسيح ومن أجل المحبة والسلام ونشر رسالته بين الأمم، وتعلن، في الوقت نفسه، عن نيتها لخوض انتخابات الكنيســت المقبلة بقائمة تؤمن بحماية حقوق الفــرد وتنادي وتطالــب بحقوق العــرب الفردية والقومية في إسرائيل وبمساواتهم المواطنية الكاملة، وقد تدعم نتنياهو في مساعيه لتشــكيل حكومة. فمن منكم لن يصمها بالطائفية وبالشرذمة وبأكثر، كما كنت سأفعل؟

سلوك قادة القائمة المشتركة ثم انشطارها وخروج الحركة الإسلامية منها أحد العوامل الرئيسية التي أدت إلى تراجع قوتها شعبيًا

 ??  ??

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Kingdom