Al-Quds Al-Arabi

ضرب سد النهضة... فات الميعاد

- *كاتب أردني

حتى لو كان المــزاج الدولي متفهماً لفكرة ضربة مصرية لســد النهضة فإن هذا الخيار يبدو مســتبعداً من الناحية العملية، فهو ما يمكن وصفه بخيار شمشون لأن تدمير السد ســيطلق مارد الفيضان النهري ليدمر في طريقه مساحات شاسعة من السودان ومصر، أما الضربة التي تقصد إلحاق العطب بالســد الأثيوبي فعملية معقدة وتتطلب ربما تدخلاً أبعد من القصف الجوي.

المصريون يمتلكون الطائرات التي تستطيع الوصول إلى السد، وبعضها متواجد في قاعدة مروي الجوية السودانية، ومعها قوات الصاعقة المصرية والســودان­ية، ويعزز وجود القوات الخاصة من البلدين فكرة إنزال عســكري في منطقة الســد لتنفيذ عملية نوعية تســتهدف منشــآته لتعطيله

وتجنــب تكلفة انهيــاره، ولا يتطلب هذا الاســتنتا­ج أدنى قدر من الــذكاء، ولذلك هو وارد أيضاً لدى الأثيوبيين الذين يعرفــون أن حلول الأرض تختلف عن حلول الســماء، لأن ذلك يعنــي تورطاً في حرب برية على أرض دولة يفوق عدد سكانها مائة مليون نسمة.

مــن الصعب كذلك إدعاء أن مصر كانــت قادرة فعلاً على ضرب السد في الســنوات الســابقة، فهي ببساطة لم تكن تمتلك المبــرر أمام المجتمــع الدولي لأن الســلوك الأثيوبي المتعنــت كان يتطور مــع الوقت، ولم يكن العمــل العدائي مقبولاً في المراحل الســابقة، إذ يســتغل الأثيوبيون اليوم الموقــف المعقد وسياســة الأمر الواقــع لتمريــر أجندتهم وأولوياتهـ­ـم. وفي المقابــل فإن خيار العطــش ليس وارداً على الســاحة المصريــة الداخلية، وتصعيــد الرئيس عبد الفتاح السيسي أثناء تواجده في قناة السويس بعد تعويم السفينة الجانحة كان موجهاً لأثيوبيا كما هو موجه للداخل المصري، التهديد الذي يتوازى مع الطمأنة.

أعدمت أثيوبيا جميع الخيارات المتاحة، وتمسكت بوجهة نظرها، وتبدو مســتعدة اليوم للبحث عن أعداء يساعدون بصورة غير مباشرة في لملمة الفوضى القائمة التي تتفاعل في إقليم تيغراي ومرشــحة للتوســع فــي مناطق أخرى، وضربة مصرية ســتجعل من رئيس الوزراء آبي أحمد بطلاً قومياً، وســينتهج نفس الاستراتيج­ية التي حولت الرئيس جمال عبــد الناصــر إلى بطــل وطني وقومــي بعد حرب السويس 1956، وآبي أحمد سيكون بطلاً أثيوبياً وافريقياً، وهو يدرك ذلك جيداً، إذ أنه على المســتوى الشخصي ليس خاسراً على أية حال، زعيماً أو شهيداً فهما فكرتان جذابتان لرجل استطاع أن يدير بلداً مثل أثيوبيا بشجاعة وحنكة.

في المقابل، فإن الخيار العسكري ليس الحل الوحيد المتاح

لمصــر، ولا هو الحل الأكثر فعالية، فمــع أول صاروخ يغادر جناح طائرة مصرية ستخســر القاهرة مكانتها الإفريقية، وســتصاب العديد من الدول الإفريقية بالإحباط والمرارة، ويبقى أمام مصر الحل القائم على التأثير الكبير وإمكانياته­ا القائمــة، وهو ما يتطلب أن تضع مصــر أمام الدول العربية والحلفاء الإفريقيــ­ن والدوليين المســألة بصورة واضحة وغير قابلة للالتبــاس، وأن تضع خيارات محدودة تدفعهم لإبلاغ أثيوبيا بأن مصر لن تقبل اســتمرار أي اســتثمار أو تعاون مع أي دولة تقوم بالاســتثم­ار في أثيوبيا أو التعاون معها، ويمكن للمصريين إغلاق قناة السويس أمام أي سفن تحمل بضائع تستوردها أو تصدرها شركات أثيوبية، وهو الأمر المعقد وربمــا تعتريه مصاعب قانونية وإجرائية تبقى أقل تكلفة من التدخل العســكري. ومشكلة هذا الحل تتمثل فــي الوقت أيضــاً، حيث يجــب تطبيقه بالســرعة الممكنة لعدم تمكين أثيوبيا من المباشــرة فــي تغذية الخزان بالمياه واســتثمار فائض الوقت الذي تحتاجه الإجراءات المصرية لتحقيق أثرها وزخمها.

في المدى البعيد، على مصر أن تتحرك في مشــروع ربط النيل بنهر الكونغو لأنها الدولة المســتفيد­ة، والمعدات التي أقتنتها مصر في مشاريعها العمرانية ومشروع حفر تفريعة القنــاة يمكن أن تشــكل نــواة جاذبة للبحث عن شــركاء دوليين، وعملية الربط ســتنقل مصر إلى مرحلة متقدمة في الإنتاج الزراعي الذي ستســفيد منــه العديد من الدول في المنطقة وحوض المتوســط، أي أن المشروع ليس حلماً بعيد المنال أو حبراً على الورق، وفوق ذلك سيكســب المشــروع مصر زخمــاً افريقياً جديــداً بتداخل مصالحهــا مع الدول الإفريقية وراء حوض النيل، وهي دول لا تستشعر أي غبن تجاه مصر نتيجة حصتها الكبيرة من مياه النهر.

الرئيس السيســي يعرف حدود قدرات الجيش المصري، ويتحدث على أساسها، ومن جديد يختزل مصر في الجيش، مع أن هذه المعركــة كان يجب إدارتها داخــل أروقة وزارة الخارجيــة المصرية ولاســتعاد­تها من جديــد يجب إعادة صياغة الدبلوماسـ­ـية المصرية وإعادتها إلى زخمها القديم الذي يسبق المذبحة التي نفذها الرئيس محمد أنور السادات أثناء بحثه عــن وزير خارجية يقبل الانخراط في مباحثات كامــب ديفيد، وبعد اســتقالة الوزير محمــد إبراهيم كامل احتجاجاً على تنازلات الســادات الجســيمة في الاتفاقية، والضرورة تحتم إعادة الخارجية إلى جزء من عقل الدولة المصرية وأحد أدواتها بعد أن اختزلت في مجرد ســكرتارية لمؤسسة الرئاسة تنشــغل بالمناكفات والمزاحمات الصغيرة بعيداً عــن اشــتراكها في صياغــة توجهــات التحالفات المصريــة، فمصر دولة لا يمكنها أن تنعــزل عن العالم بعيداً عن مشــكلاته، والعالم يعرف أن مشــكلات مصر بطبيعتها أكبر من أن يتم تجاهلها بســبب موقع مصر وثقلها السكاني وثرواتها الطبيعية والبشرية.

تصريحات السيسي كانت تحمل تهديداً غير مباشر بهذه المعطيات لــدول العالم والمنطقة وهو يهدد بحالة لا يتخيلها أحد من عدم الاســتقرا­ر في المنطقــة، والنصيحة للرئيس السيسي ليســت الاســتمرا­ر في الحوار الرشيد والصبور الذي أثبت أنه لم يكن مثمراً، مع اســتهلاكه لكثير من الوقت الثمين، ولكن في مناقشــة الأمر بجدية ووضع الجميع أمام مسؤولياته وربما التضحية ببعض التحالفات القائمة التي لم تثبت جدواها.

الخيار العسكري ليس الحل الوحيد المتاح لمصر ولا هو الحل الأكثر فاعلية

 ??  ??

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Kingdom