Al-Quds Al-Arabi

ابتهال عبد العزيز الخطيب

- بالحسنى

هــل ازدادت القســوة وتفاقمت غلظة اللســان، أم هي وســائل التواصل التي توصل لنا كل مؤذ كان محجوباً عنا ســابقاً بغياب الشاشــات الزجاجية التي أضحت نوافذ علــى العالم ككل؟ وهل يحتاج الإنســان لأن يكون غليظ اللســان لإيصال الفكرة أو حماية المبدأ؟

يتراشــق نواب البرلمان الكلمات المغلظــة عندنا في الكويت هذه الأيــام بطريقة تنشــف القلب وتبخــر الأمل وتجعل الإنســان منا تائهاً لا يجد جانب حق سياسي يستمسك به. الكلمات هي موصل المبادئ، والأسلوب هو واجهة الأشخاص والأفكار، فإذا ساءا، أي الكلمات والأسلوب، ســاءت المبادئ وأصحابها وأصبحت منفرة كريهة مهما كانت صحتها وأحقية قائليها. إن الأســاليب الكلامية والســلوكي­ات العملية لرموز العمل السياســي لا بــد وأن تنعكس على الشــارع العام، الذي سيتأثر بها وسيقلدها لتتحول إلى طابع سلوكي منتشر. فإذا تحولت جماعة سياسية إلى جماعة قاسية، ســليطة اللســان، عنيفــة التوجه، مهمــا كان لها من أســباب لهذا التحول، ســينعكس ذلك على مريديها، الذين ســيتلونون بلونها، وسيعكســون صورة ســيئة بائســة لهــا، ثم ســينعكس ذلك على أعدائها الذين سيردون لها أســلوبها وسلوكها، وهكذا سيتحول الجو العام إلى جو عدائي مشــحون. لطالما أخفق حق كبير بسبب الأسلوب الصغير في التعبير عنه.

وكــذا هو حال المتدينــن الذين يعتقدون أن الغلظة هي وســيلة حمايــة للديــن، وأن الصراخ والشــتم هما ســاحان واقيان ضد «المســاس» به. ولطالما رُســمت هذه الصورة ثم طبعت في الأذهان عن رجــل الديــن المكفهر، عبــوس الملامــح، غليظ الخطــاب، الذي تصعــب عشــرته وتقفر حنايــا الــروح مــن أي دفء أو ونس في صحبته. لا يســيء أحد للدين كما يســيء هذا النموذج من البشر، خصوصاً أنهم وعلى مر الأزمان قد رســخوا هذه الصورة الغليظة للإنســان المســلم، وكأنه أشــبه «بكفار الجاهلية» كما يبدون في المسلســات والأفلام الســاذجة، شــكلاً وأســلوباً. لا تغيب عني ذكــرى هذه القريبة التي أفضت ذات زمــن، مبررة قطيعتها وجفاء تعاملها، بأن القسوة والغلظة والجفاء هم واجبها السلوكي تجاه من يفشــلون في الالتزام بالدين. كم تأســيت لها، أي حمل تحمله على كاهلها؟ أي قسوة تجبر روحها ونفسها عليها؟

وعلى الرغــم من ارتفاع صوتــه وغضباته المتلاحقة وقســوته على بعض متصليه أحياناً، إلا أنني مغرمة بنموذج د. مبروك عطية كرجــل دين محافظ تقليدي مثالي. الدكتــور عطية هو ابن المجتمع المصري من أعرق عروقه، يعرف ديناميكيات­ه المعقدة وتشــابكات­ه الطريفــة، وهو حين يقدم نصح، لا يفوته أبــداً الجانب الاجتماعي الذي لا يعزله عن الجانب الديني، متفادياً إيقاع السائلين في غربة عن دينهم. هو فــي الواقع يخاطبهم من حيث موقعهم الاجتماعي، ويجد للدين مساحة مريحة في داخل حيواتهم تلك.

ورغــم أن للدكتــور آراء ذكورية نابعــة من القــراءات التقليدية للديــن، إلا أنه يحــاول دوماً التخفيف من وقعها والإشــارة إلى ما قــد يكون عمقاً مفاهيمياً غائباً عن فهــم الناس لها. وفي الكثير من الأحايــن، تصدر عنــه ملحوظة تدل على أنه قــد يتصارع هو بحد ذاتــه مع بعض هذه الأفــكار، فيقول ما معناه: أن لــو كان الأمر لي لفعلــت غير ذلك، ولكن الأمــر الديني له تبريراته ولــه غاياته التي قــد لا نفهمها. في مثــل هذه الملاحظات الســريعة، يضمن الدكتور حق الإنســان في أن يفكر ويتســاءل حول القراءة الدينية أحياناً، وهو يشــير إلى أنــه حتى أكثــر الناس تعمقــاً ودراســة للدين قد يجــد صراعاً في نفســه مع أوامر دينــه، إلا أنه بدافــع من الإيمان والتســليم، يذعن راضياً ســعيداً بهــذه التضحية مــن أجل الدين. مثل هذا التوجه الطيب الرقيق مع النفس، الذي فيه فســحة للتفكر والاختلاف، له أطيب الأثر في خلق إنسان مؤمن متوائم مع نفسه مستريح في رحاب أيديولوجيت­ه الدينية.

والدكتــور عطية، رغم انفعالاتــ­ه الطريفة، دائــم النصح للناس بالهَــون والتعاطــف وحســن الخلق ولــن التخاطب، وهــو يؤكد باســتمرار أن الدين ليس عبادات بقدر ما هو معاملات، فالعبادات تحصيل حاصل، واجبة على كل مســلم، كما يؤكــد الدكتور، إنما الاختبــار الحقيقــي فيمــا يجعلــك طيباً مؤمنــاً هو المعامــات. أن تصلي، يقول الدكتور، ذلك لا يجعلك إنســاناً أخلاقياً، أن تحســن التعامل ذلك ما يرفع مستواك الأخلاقي.

وهو رغم آرائــه الثابتة تجاه تعدد الزوجات وأحقية الرجل في إتيــان ذلك دون حتى إعلام الزوجة، إلا أنــه دوماً ما يرفق الموقف بتوصيــف ســلبي فكاهي مضحك تجــاه المعدد، هــو «عايز يتنيل على عينه بكيفه» في إشــارة نقدية للتصرف رغم حلاليته الدينية. فليس كل مــا هو حلال فرضاً، يقول الدكتــور، هو ممكن لكنه غير مفــروض، وفي ذلك الكثير من «عدم التشــجيع» مــن الدكتور على هذا التعديد.

وفي جزئية غاية في الحنو والتفاعل الإنســاني، يؤكد الدكتور أن الإنسان وهو حي عليه أن يعدل بين الأولاد والبنات في العطايا، بــل أن يكرم البنــت أكثر من الولــد، وأن يحنو عليهــا ويزيدها عن غيرها، أما بعد وفاته فالأمر لله في تقســيم الــورث. ففي حياتك، يؤكد الدكتــور، تعطي البنات كما الأولاد تماماً، إشــارة إلى فصل الدكتور لمفهــوم الميراث الشــرعي عن مفهوم العطــاء الاجتماعي. هذا المنظور، الذي بالتأكيــد لا أتفق معه والذي أرى له مخارج عدة من خــال قراءات دينية متطورة، هو منظور شــفيق رحيم، يراعي أن هنــاك تفرقة دينيــة قد تكون مؤلمة يحــاول الدكتور بتوجيهاته الاجتماعية التخفيف من وقعها.

ورغم استشكالي الفكري مع المؤسسة التي خرج منها الدكتور عطية ومــع منظوره الــذي ينظر بــه للأيديولوج­ية الدينيــة، إلا أن أســلوبه، ولين تعابيره، وكوميدية تعاطيه، وشعرية قوله، وحنو تفســيراته للآيات والأحاديث، ورقة فهمه للفكرة الدينية، كل ذلك حببني الاســتماع إليه، وأوقفني كثيراً عند نصائحه التي دوماً ما تبدو مرنة قابلة للتنفيــذ، ذات معنى متوائم وطبيعة المجتمع الذي يعيش فيه. لقد أســبغ الدكتور عطية الكثير من التحضر والتقدمية والسلاســة على القراءات الدينية التقليدية، جاعلاً منها قابلة جداً للتطبيق المرن المريح في المجتمعات المتدينة المحافظة.

دوماً ما يخلق الأســلوب الجميــل نقاط التقاء، فــي حين يقتل الجفــاء والعنــف والغلظــة أي مودة اتفــاق، حتى لتجدن نفســك كارهــاً لأفــكارك التــي تؤمن بهــا في حد ذاتهــا والتــي يعبر عنها الآخــرون بغلظــة وغوغائية. لا أهــم ولا أجمل ولا أوقــع من بوابة الرفق لكي تدخل الفكرة منها وتســتقر وتتربع في نفس الآخرين. فلا تســمحوا للشاشــات الزجاجية أن تنســيكم الرفق واللين، لا تجعلوها تنســيكم أن على الطرف الآخر إنســاناً، له مشاعر وقلب وروح.

 ??  ??

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Kingdom