Al-Quds Al-Arabi

ديوان ندى الحاج «عابرُ الدّهشةِ»: تجلياتٌ إنسانيةٌ برؤيا صوفية

-

■ ديوانها الجديد «عابرُ الدهشة» الصادر عــن )دار المتوســط(. قد يكــون تتويجاً لما كتبته الشــاعرة اللبنانية ندى الحاج خلال مســيرتها الإبداعيــة.. وقــد يكــون برقمه «التاســع» ولادة جديدة لتجربــة مغايرة.. لكنه في المحصلة نتاج أكثــر من 32 عاماً من الكتابة المتواصلة والتأمــل والإبداع.. نتاج تراكمات لغوية وصوفية وفلسفية وأكاديمية وحياتية، كان الشعر حاملها في هذا الديوان المخلوق للكل، حيث هــم ونحن وأنتم «عابرُ الدهشــة» ومن الكل بســيرورة الكون، كل الكون.. وبمشيئة الكل، الكل مبدعه والمتجلي فيه.. )احتويتَ الكلَّ، واحتواكَ هو الذي فيكَ وأنــتَ فيه(. وبين غبطــة الغموض وتأويل الدلالات يبقى الإنســان حاضــراً، والكون بكل مكوناته، والطبيعة بكل كائناتها، دون تحديد لعناصر بعينها أو تأثر واضح بأحد.. فقد تَعْبُرُكَ الشــاعرة حــن تتركك في الذات وتصير في الكل لتأخذك من جديد، إلى ذات جديدة.. إلى شجرة في حديقة «جلال الدين الرومي» كما في قصيدة «جنان النور» حيث تقول: أنبتُ عاريةَ الأوراقِ حتى تكسوَني. وتتابع: كُلّي يسجدُ لكَ، وفي انحناءِ أغصاني،

أرتفعُ إليكَ أَفرِغْني من ذاتي، لأرتميَ في كمالِكَ

مَن سِواكَ يُدركُ أَناي ومَن لي سِواكَ لأَفنى في كُلِّه؟ تتكئ الشاعرة ندى الحاج على مخزونها المعرفي واللغوي، في بناء مكونها الشعري، لكنهــا لا تركــز فقــط علــى علاقــة خيالها بالعناصــر الأربعــة: الماء/الأرض/الهواء/ النار، عند الفيلســوف الفرنســي غاستون باشــار، بــل تعتمد أيضــاً علــى التقصي والبحــث المعرفي مــن جهــة، وتحاكي كل مكونات الطبيعة من جهة ثانية. فالدهشــة ليست باكتشــاف جديد، بل بالتفكّر بما هو موجود، والارتقاء بسيرورة وجوده.. وكما يقول ابن عربي: «الوجود الإلهي يظهر في كل شيء، لكنه لا يتجلى في شيء مثلما يتجلى في الإنسان .»

مفاتيح الحدس

تســتهل نــدى الحــاج أغلــب قصائدها باقتباســا­ت صوفية وفلسفية وشعرية، من النُفَّــري، ومحيي الدين بــن عربي، وجلال الديــن الرومــي، ورينيــه شــار، ووالدها الشــاعر الكبير أُنســي الحاج، رحمه الله، وحتى بجمل ومقولات من الشــاعرة ذاتها، لكنها لا تقارب التناص مع هذه الاقتباسات، بل تشــكل عندها مفاتيح للحدس الذي يولّد جوهر الرؤية، ويسري في فضائها، حاملاً روحها وتجلياتها بتراتيل وموسيقى داخلية وإيقاعات.. تخبو وتعلو تبعاً لرؤيا القصيدة ككل.. وهذا ما ســنجده، مثــاً، في قصيدة «حروف» إذ كانت مقولة والدها أُنسي الحاج «ينطُق الشاعُر من روِحِه، وروُحُه قلب صاحٍ في الوجداِن الأكبــر» بمثابة حدس ووحي لبوح القصيدة: حروفٌ كتبتُ حياتي من خيوطِ الشمس وأحرُفي من وهْجِ القمر فلا نجمة هوَتْ ولا سماء إلا بنظرةٍ منك كتبتُ الكثير وبقيَ الأكثر حيث لا مكانَ للحبرِ الأسود والقلمِ الأزرق حيث تنتصبُ الحروفُ أمامَ اللوحِ الأكبر حروفٌ من ذهب يسوقُها الراعي

بالنايِ إلى أعلى الجبل ترقصُ منشِدةً ألحانَ الحبِ الأقصى حروفٌ تُمْليها مهْجةٌ تَصفَّتْ برَيْحانِ الفجرِ الأول.

لو اســتعرضنا كل اقتباســات الشاعرة من مقولات فلســفية ومقطوعات شــعرية، تســتهل بها قصائدها، لن نجــد أي تناص حرفي أو تنصيص، أو تقليد أو حتى تخاطر، ربما ثمة أفكار مشــتركة، أو أجواء متقاربة، أو مرجعيات فلســفية وعرفانيــة صوفية، وربما تسخّر الشــاعرة من هذه الاقتباسات مفــردة ما أو أكثر ، لكنها تغدو في ســياقات لغوية وجمل شعرية مختلفة، وفي تناغم مع تأويلاتها العميقة. وربمــا أوضح مثال على ذلك نجده في قصيدة «جذب» التي تستهلها باقتباس من محيي الدين بن عربي: «أنت، أيُّها الإنسان، أنتَ المصباحُ والفتيلةُ والِمشكاةُ والزجاجةُ». جذْبُ في المنارةِ وتَد في الوتَدِ مِشْكاة في الِمشكاةِ زيت في الزيتِ نقطةٌ تصلُني بالأكوانِ الذائبةِ فيكَ عرفتُ أني سأعرفُكَ ولمْ أعرف الصدقَ إلا في المعرفة عرفتُ أني سأحِب ولمْ أحِب إلا في المعرفة عرفتُ كلَ ما عرفتُ لأني صدَّقتُ وفي الصدقِ تستوي المعرفةُ في الدائرة ويستوي الحبُ في النقطة.

ربما تقودنا مرجعيات الشاعرة الفلسفية والصوفيــة إلى وجــوب امتلاكها أســلوباً خاصاً في تقصــي الغامض والحلمي ليصير صورة من مجموعة صــور، لكنها لن تبحث عن جنــس أدبي بين أجنــاس غير محددة، لأنها رسمت لنفسها مساراً خاصاً في قصيدة النثــر، وعليه ربما تأخذ الشــاعرة من هذه الاقتباسات روح معانيها وحسب.

روح المعنى

لا يمكــن أن يكــون لعبور الدهشــة زمن منظور ، فهو عبور مســتمر أو متجدد، وربما هو عبور من دهشــة إلى دهشــة، وربما في الطريق إلــى اكتمال المعرفة التــي لا تكتمل فلســفياً ولا صوفياً.. وربما هــو العبور من حياة لحيــاة، فكيف يتمظهر كل هذا شــعراً عند ندى الحاج؟ كيف لها أن تواكب معانيها

عبور دهشــتها، دون

لغة بروح تجــدد دلالات الرؤية والرؤيا؟ إن روح المعنــى يمنح للمفــردة دلالات جديدة ومتجددة في نحتها وتشــكّلها، في سياقها وتأويلهــا، وفــي تماهيهــا وانعتاقها.. وقد تعود المفــردة لذاتها، لكنها لا تكرر تداعياتها التي تمنحك كقارئ مجازات وأبعاداً مغايرة، ورؤيا شــعرية جديدة تشــي بالعمق الفني لهويــة الشــاعرة.. لكــن عمقها الفلســفي والصوفي يربكك فــي بحثك عن روح أخرى للمعنى، فثمة تأويــات متناقضة ومتداخلة ومتقاربــة ومتباعــدة للدهشــة واليقظة، للتفكّر والتأمل.. للســهو والغفلة وللدائرة والنقطة والقطب.. ولما هو محسوس ولما هو متخيّل أو معنوي ومــادي.. وعليه يتداخل روح المعنــى مع اللغة، ولا يكــون الغموض فقط في ابتعادك عــن إدراك تجليات الذات «بالــذات».. بل أيضاً في اللغــة وما توحيه وتحمله وتشــي بــه من مجــازات ودلالات وإشــارات وتأويــات.. في قصيــدة «أثر» تقتبس الشــاعرة ندى من النفّــري ما قاله عن نظرة القلب: «وقال لي: أنظر بعين قلبك إلــى قلبك، وانظر إليّ بقلبــك كله» ومن هذا الاســتهلا­ل للقصيدة تنطلق من حدســها، وتأخذ وحيها مشــكلة «تناصــاً» خاصاً مع روح معنى هذا الاقتباس، ولا تأخذ منه غير «اكتشفت قلبي» في هذه القصيدة: هنا، من هذا الكوكب، حلَّقت روحي إليكَ

وتصاعدتْ مجرّاتها نحوكَ هنا توالدتِ اللحظةُ بسرعةِ الوميض لتغلِّفَ الأزلَ، وتُلملمَ الأثر هنا، من هذه النقطةِ بالذات اكتشفتُ قلبي، وسمعتُ الكون.

بيئة المفردة

يظهــر جلياً وقــع المفــردة وأهميتها عند نــدى الحــاج، باعتمادها عليهــا «منفردة» فــي عنونتها لأغلب قصائدهــا. كما تعتني الشاعرة بمفرداتها، أكانت في شكل قصيدتها النثرية، أو فــي تراكيب جملها الشــعرية، فالمفردة التي تشــكل في توالفها مع قريناتها جملة ما، أو ســطراً شــعرياً مــا، تنبت في بيئة مواتيــة أو في مناخ متجانس، أكان في المجازات أو الاســتعار­ات، أكان في الوصف بكل جوانبه، أو بســرد حكاية ما، أو بتقص فلســفي أو تأمل صوفي.. ففــي البحر تكون المحارة والملح والمنارة، وفي الريح تشــتعل الأشــرعة... وفي الديوان الكثير من الأمثلة، كيف تكــون القصيدة حاضنــة لمفرداتها في أجواء وطقوس تعيشــها الشاعرة لحظات دفقها الشــعوري واللغوي في آن. كما في قصيدة «محارة»: «استفت قلبك» قال الرائي «وما أدراني به؟ بين مد وجزر يتجاذيني، وفي زبد أمواجه يتقاذفني» «لن تضيع في الزبد، فقلبك محارة، وأنت صائدها ليكن اللؤلؤة الثمينة، وأنت كاشفها» «سيدي ومعلمي، لم أدر يوما كيف أرى، ولم أكشف النقاب عن بصري هل ترشدني إلى منارتك؟» يا بني، أنت من قصدني، فاستفت قلبك الذي قادك إليّ «قلبي يحدثني أنك وتدي، وفي الوتد سؤال ينتظرني» «لا سؤال، لا جواب، يا بني، إلا في نور القلب، والنور منه يهدي».

ورغم أن عنــوان الديوان على تناص

مع قصيدة فــي داخله، فإن مفــردة «عابرُ» كفعل العبور أو كســفر أو كطقــس .. تتكرر متجددة في أغلب القصائد، والعبور كاســم يتكرر، كمعنى أو كمجاز، متجدداً في الشعلة وفي الومضــة والرذاذ والبرق.. وحتى النار ســتعبر إلى رمادها... وعليه طقس العبور يكتنف الديوان، والديوان يحمل متحولاته.. والمفردة في الديوان قلما تشــير إلى اســم الجلالــة )الله( مباشــرة، وحتــى الأديان والرسل لا تظهر إلا في قصيدة واحدة، وهي «انتفض» والتي منها: «اسِر نحوَهُ، واكشِفْ لهُ باطنَ الباطنِ وارمِ الظاهرَ، ليُخلقَ من جديد من جوفِ حوتٍ عتيق فيكَ اجتمعتْ قلوبُ أنبياءَ العهدَ القديمِ وقلوبُ النسوَةِ حولَ المسيحِ ومريمُ عند الصليبِ رِفْقاً! أحرُصْ على دقّاتكِ الثمينة ولا تُفرّطْ برهافتِها..»

جرأة التأويل

ثمة قدرة علــى الاختيار والاســتقص­اء، وثمــة قدرة على التقاط العابــر من المعاني، تتميز بهــا ندى الحــاج في أعمالهــا عامة، لكنها في هذا الديــوان تمتلك جرأة التأويل، والجرأة على إدراك القيم الدلالية والمعرفية والجماليــ­ة للنص القديم، فهــل تمتلك قدرة الكشــف عــن دلالات أصليــة متوارية في المكتوب المراد الاقتباس منه، والاضافة عليه، ما يمنح للتأويل فتنة الرجوع والتحليق من جديد في سياق خاص ومعان مغايرة؟

في اقتباســها مما قاله رينيه رشــار: «لا تنحنِ إلا لتحب، لو مت ســتظل تحب أيضاً» تأخذ من «الانحاء» تأويلها للشجرة، ويسمو الحب الكلي منهــا وإليها في قصيدة بعنوان «ذرات» فهــل حققت بحوارهــا الجريء مع اقتباســها إضافــة أو ارتقــاء للافتراضات الموجودة أصلاً حول النص القديم؟

ذرّاتٌ همستْ لي صديقتي الشجرة بعشْقِها لطيرٍ، بنى أعشاشَهُ في حُضنِها

وهَجَر سُكْنَاهُ، ليلتحقَ بالضوءِ سمعتُ دموعَها تحفرُ الترابَ، وحضنتُها

بكياني «لا تبكي يا شجرتي ! أنتِ وأنا سفرٌ يهيمُ

في الذهبِ ستُظلّلينَ روحي بعد اختفائي، وتُغنّين لي

أنشودةَ العِشقِ.. في الديوان تفاؤل شفاف ورقص ورشاقة وغنــاء.. فيه رومانســية وطفولــة وبوح ومحبــة.. محبة جبران خليــل جبران: «أما أنــت إذا أحببت فلا تقل اللــه في قلبي، لكن قــل أنا في قلب اللــه». وفي الديــوان تأمل عميق وتمــاه وصــاة مريدين.. وأســئلة صوفية وفلسفية تولد أسئلة جديدة موحية ومدهشــة.. وفي الديوان قصص وحكايات وحــوارات ســاحرة، مثل الحــوار بين ابنة الليل والقمر.. ٭ كاتب وصحافي فلسطيني/ سوري

 ??  ??
 ??  ??

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Kingdom