Al-Quds Al-Arabi

فلسطين في السرديّة المصرية

- أحمد عبد الحليم ٭

تنتفض وســائل التواصل الاجتماعي عند جموع مــن المصريين مُعبّرةً عن رفضها لأيّ حــدثٍ تطبيعيّ عربيّ مع الكيــان الصهيونيّ، بل وعند أي انتهاكٍ يحدث من قِبل القوات الإسرائيلي­ة بشأن الفلسطينيي­ن. هذا الغضب له ســياقٌ مُقاوم، تاريخيّ غالبا، ديني واجتماعي أيضا. بدايةً من مُشاركة مصر في حرب فلسطين عام 1948 مرورا بالحرب المباشرة بين مصر والكيان الصهيوني، في عاميّ 1967 و1973. لكن، تلــك الاعتراضات، كَثُرت أم قلّت، لا تُعبّر عن كافة الشــعب المصــري، بل هي تعبّر عن اجتماعٍ وســط العديد من الاجتماعات المصريّة، الرســمية وغير الرســميّة، التي تتبنّى ســرديّةً خاصّة بها تجاه القضية الفلســطين­يّة. نحاول بإيجازٍ شــديد التعرف على تلــك الاجتماعات؟ وعمّ تتحدّث ســردياتهم؟ وعلى أيّ أســاسٍ كُوّنتْ تلك السرديات؟

يمتلك النظام المصري ســرديّة تجاه القضية الفلسطينية، طالما مرّت تلك الســردية بتحوّلات وتناقضات عدّة. بدأت بمعاداة احتلال وهجرة اليهود من شــتات العالم إلــى الأراضي الفلســطين­يّة، رغمًّا عــن أهلها، فضلا عن تهجيرهم القسريّ، بالإضافة إلى إخماد ثوراتهم وقتلهم واعتقالهم بواسطة عصابات الكيان الصهيوني برفقّة القــوات البريطانية الُمحتلّة. وحتى بعد نكبّة 48، ووقوع مصر في يدِّ جمهورية الضباط الأحرار 1952 ظلّت ســردية تحرير فلســطين مقابل العداء للكيان الصهيوني باقيّة، مرورا بالنكســة، وفقدان الأراضي المصريّة الشــرقيّة تجاه ســيناء، ووصولا إلى عبور خط بارليف عام 1973 وتحرير الأراضي المصرية مرّة أُخرى )باستثناء طابا(

مفاوضات السلام

بعد حرب أكتوبر، اتجه الســادات إلى بدء مفاوضات السلام، والابتعاد عن جولات الحرب، والوقوف فــي صفِّ حلفاء الولايات الُمتحدّة الأمريكية، إلى أن وُقّعت اتفاقية الســام مع إســرائيل )كامب ديفيــد ‪.)1979- 1978‬ من بعــده، حافظ حســني مبارك على ســرديّة «الحرب والســام» أيّ أنّ الدولة المصرية خاضت الحروب المتواصلة مع إســرائيل، وساندت القضية الفلســطين­ية على مرّ العقود الفائتة، إلا أن الحرب باتت لا تُجدي، والعصر أصبح عصر الســام، مع السعي لإيجاد تسويّةٍ بين الســلطة الفلسطينية والإسرائيل­ية.

بعد ثــورة 2011 وانتخاب أول رئيس مدنــي للجمهورية المصرية مُحمّد مرســي، تغيّر الخطاب الرســميّ، لم يتحوّل إلى عداء مباشــر مع سلطات الاحتلال. لكــن، كان خطابا ليس ناعما كالذي ســاد لأكثر من ثلاثين عاما، خطابا يُدين ممارسات الاحتلال بحقّ شــعبِّ فلسطين، ويصرّح علانيّةً أن الدولة المصرية لن تتركهم وحدهم فريســةً لهذا الاعتداء. تلك هي الســنة الوحيــدة التي كانــت مصدر قلقٍ للنظام الإســرائي­لي نتيجــةً لنيّة تغيير سردية الودّ والســام مع إســرائيل. بعد الانقلاب العسكري منتصف عام 2013، لم ترجع السردية المصرية للسلام الدافىء وفقط، بل عُمّقت العلاقات بين النظامين وفقا للمصالح الُمشــتركة التي جمعتهُما، وفي مقدمتها العداء للإخوان المســلمين، ســواء في الداخل المصري، أو في الداخل الفلسطيني متمثلةً في حركة المقاومة حماس على أرض غزّة.

بلا شــكٍّ، حشــد كل نظامٍ أدواته المؤسســيّة الُمتموّضعة في الخطابات الرســميّة، المؤسســات الدينيّة الســنّية والقبطيّة، الأجهــزة الإعلامية، الثقافية، الفنّية، وحتى الأمنيّة في تدعيم ســرديّته أمام الجمهور المصري. اتســمّت تلك الســرديات بديناميّاتها الدائمة، وهذا شــيءٌ طبيعي، وفقا للتغيير الُمســتمر للرؤســاء والأنظمة المصريّة، وطبيعة الظــرف الراهن، ورؤيتها وإدارتها للملفّات الداخلية والخارجية. لكن، مُنذ بداية التراجيديا الفلسطينيّة عشــرينيات القرن الماضي، لم تولد السردية النظاميّة وحدها، بل رافقها سرّديات لا رسميّة، تتجسّــد في اجتماعات تنظيمية ولاتنظيميّة يمتلكها الشعب المصري.

طالما صاحب ســرديّة نظام ما بعد تموز- يوليو 1952 إلى وقتنا هذا فئة اجتماعيّة عُرفت بالأبويّة، لما اتسمتْ به من التزام تعاليم النظام العسكري في مصر، وتبنّي وترديد شــعاراته في كلّ مرحلــةٍ زمنية، بدايةً من مرحلة الحرب على العدوان وصولا إلى الحرب على الإرهاب. تكوّنت تلك الفئة من الموظفين سيّما الكبار منهم في الأسلاك القضائيّة والأمنية واالدبلوما­سيّة، كبار الُملاك، ورجال الأعمال الُمقربين من النظــام، والذي ترعرعت ثرواتهم في عقود الأنظمة العســكرية الُمتتاليّة، بالإضافة إلى الجيل الأكبر سنّا ذي التعليم البسيط الذي وُلد وتربّى على ما تلقّنه الدولة له. تتجلّى تلك الفئة على الشاشــات في الأعراس الانتخابيّة المصرية مؤخرا، والذي يعزف عن حضورها الكثير من الشــباب المصريّ لفقدانهم الأمل السياسيّ. كانت تلك الفئة دائما مصاحبة لِسردية النظام تجاه القضية الفلسطينيّة، من العداء والحرب مرورا بالسلام الدافىء وصولا إلى التقارب والتعاون.

الاجتماع الثقافي/الفنّي

يُكنى اللامُنتمون لأيّ أفكار أو تنظيمات في مصر بـ «حزب الكنبة» وذلك لما يُعرف أنّهم الأغلبيــة الصامتة، التي لا تمتلك ســردية معارضة أو تأييد لنظام الدولة، ذلــك الاجتماع يتكوّن من الطبقة الفقيرة، والمتوســط­ة مثل محدودي الدخل، صغار الموظفين، صُغار التُجار، أصحاب المحلات البسيطة، العمّال، البائعــن الُمتجوّلين، الشــباب ذي التعليم المتوســط والجامعي. تشــترك تلك المكونات جميعها بابتعادها عن السياسة، وانشغالها بالبحث عن الصعود إلى الحياة الآمنة الكريمة، وتوفير لقمّة العيش لهم ولأُسرّهم، بعيدا عن قلق السياسية، ومعاداة وبطش النظام.

هذا ليس مفاده أنّهم مَعزولون عن أي تغيّرات ربما قد حدثت أو ســوف تحدث، بــل على العكس تمامــا، فذلك الاجتمــاع كان حاضــرا وبقوّة في احتجاجات ثــورة كانون الثانــي- يناير وله كثيرٌ مــن الفضل في نجاح الثورة، وتحقيق مَطلبها الأول في إسقاط نظام حسني مبارك. لكن، سُرعان ما تنشــغل تلك الفئة مرّة أُخرى في البحث عن الَمأمن المعيشي. لذلك تجدها مُتخبطة ويســهل تشــكّل رأيها تجاه قضية كَالقضية الفلســطين­يّة، فربما تتبنى سردية الدولة في حين، وآخر تتبنى سرديّة مقاومة وتحرير للأرض الفلسطينيّة، وغالبا لا تمتلك سردية ثابتة تجاه فلسطين.

أما الاجتماع الثقافي الذي يتكوّن من الكُتاب والشــعراء والفنّانين، فهو ينقســم، كلٌ حسب مدى اســتقلاليّته الفكريّة، ومدى ولائه لما يؤمن به من قضايا التحرير، فَشــعراء مثل أمل دنقل وأحمد فــؤاد نجم وعبد الرحمن الأبنودي، ظلّوا يكتبون من أجل فلســطين ويهاجمون الكيان الصهيوني، حتــى بعــد اتفاقيّة الســام، بقيّ شــعرهم، مُقاومــا ومُســاندا للقضية الفلسطينيّة كما كانت من قبل.

أيضــا في حِقبة مبارك الدافئة، اســتمر الفنانون فــي إخراج الأغنيّات والأفلام التي تُســاند القضية الفســلطين­يّة، وتُعادي الاســتيطا­ن وتُدين القتل والتهجير للشــعب الفلســطين­يّ. مثــل أغنيتيّ «شــجرة الليمون» و«العمارة» للمطرب المصري محمد منيــر، وأوبريت الحلم العربي، وعدّة أغنيــات للفنان هاني شــاكر ومحمد فؤاد وتامر حســني وغيرهم الكثير. أما عن الأفلام، فَكثــرت، من بينهم «أصحاب ولا بزنــس» و «ولاد العمّ»و «السفارة في العمارة .»

في ظل النظام الحالــي، انزوى المجال الثقافي والفنّــي في رُكنٍ صامت تجاه قضية التحرير الفلســطين­يّة، يرجع ذلك إلى سردية النظام الحاليّة التي تمنّع بطرقٍ مختلفة، الكفاح الثقافي والتوعويّ تجاه قضايا التحرير، برهن النظام المصري على ذلك عند اعتقاله مشــجعا مصريّا في الُمدرجات أثناء رفعه علم فلسطين عام 2019 خلال مباراة المنتخب المصري مع نظيره الجنوب إفريقيّ، فضلا عن التطبيع الثقافي/الفنّي الذي ســلكّه البعض من ذلك الاجتماع، ليواكب السردية الراهنة اللّامُقاومة.

تظل النخبــة الثقافية/الفنّية في كفاحٍ مُســتمر بشــأن الوعي بقضايا التحرير، يتماشــى هذا الكفاح أحيانا مع الســردية النظامية، كما كان منذ ثلاثينيات القرن الماضــي حتى اتفاقية كامب ديفيد أواخر الســبعيني­ات، يشــتدُ على ذلك الاجتماع الكفاح، حــن تتغيّر ســردية النظام تجاه تلك القضايا، فيبدأ العمل تحت وطأة المنع والمصادرة والعقاب والسجن.

تمتلك الجماعات الدينيّة في مصر ســواء الدعويــة أو الحركية، ماكينة هائلة من المادّة البشــريّة، يتماشى بعضها مع سرديّة النظام تجاه القضايا التحرريّة، مثل بعض الجماعات الدعويّة. أما الحركيّة السياســّية، الُمتمثّلة فــي الكثير، من أبرزهم الجماعة الإســاميّة، والإخوان المســلمين، فهؤلاء يمتلكون سرديّة ثابتة مقاومة تجاه القضية الفلسطينيّة.

منذ نشأة جماعة الإخوان المسلمين أواخر عشرينيات القرن الماضي، وهى حاضــرة بمنهجيّتها ودعوتها في القلب الفلســطين­ي، فكان رجال الإخوان من ضمن من تطوّعوا وذهبوا للقتال عام النكبة الفلســطين­ية 48، قبل ذلك منتصف الأربعينيا­ت، قد أسســت جماعة الإخوان أوّل فرع فلســطينيٍّ لها، لتنتشر فروع الجماعة خلال أعوام بسيطة في كافة الأراضي الفلسطينيّة .

وثّــق هذا الارتبــاط التنظيمي ســواء في نســخته القديمــة التابعة مباشــرةً تحت قيادة مكتب الإخوان في القاهرة، أو حتى بميثاقها الجديد الُمقاوم المتمثــل في حركة حمــاس وذراعها العســكريّ الارتباط المنهجي والفكري للإخوان المســلمين في مصر لتبنّي قضية تحرير فلسطين، وتربية

وتنشــئة الأجيال الجديدة الُمنتميّة للإخوان علــى الكفاح من أجل القضية الفلســطين­يّة، بالإضافة إلى الأنشــطة الخيرية والمظاهــر­ات التي كانت تنظمها الجماعة في مصر للوقــوف بجانب أهل غزّة الماكثين تحت الحصار والعدوان الصهيونيّ. هذا ما جعل الإدارة الإســرائي­لية في أشدّ قلقها عند وصول رئيــس من الإخوان لِحكم مصر إلى أن أُطيح به بواســطة الجيش المصري.

الاجتماع اليساريّ- الليبرالي

منذ نشأة التيار اليســاري في مصر مع مختلف أفكاره وروّاده وأسمائه إلّا أنّه ســاند القضية الفلســطين­ية، واعترف بحقّ الشــعب الفلســطين­ي بالعودة إلــى أراضيه الُمهجّر منها قســرا وعنفــا. مرّ اليســار بمنعطفاتٍ شــديدة مع الحكومات المصرية سواء أيام الملكية أو ما بعدها، لمع نجم حركة الاشــتراك­يين الثوريين مــع بداية العقد الأول من الألفيــة الثانية، وهى من أوائل الداعين لثورة عــام 2011، ولديها الكثير من الرموز النبيلة في العمل السياسي والقانوني من أجل الكرامة والحقوق. وهى إلى الآن وسط جمود الحركات السياســيّة على أرض الواقــع تقف جوار القضية الفلســطين­ية عن طريق إصدار بيانــات الإدانة للعدوان والإمبريال­يــة الصهيوأمري­كية المستمرة بكافة أشكالها بحقّ الشعب الفلسطيني.

كذلك التيار الليبرالي، رغم عدم وجوده على أرضية تنظيمية ثابتة وذي تأثير، سيّما من بعد قيام جمهورية الضباط الأحرار عام 1952. لكن، كان قبل ذلك متمثلا في أحزاب كبيرة مثل حزب الوفد والدستوريي­ن الأحرار القديم. وكان مُســاندا للقضية الفلســطين­ية في أوّل مأساتها، تماشــيا مع مبادئ التحرير وســردية الدولة المصرية وقتها، عكس التيار اليساري والإسلامي ذي الصيت التاريخي القديم والحديث، والشــعبية الُمتجذّرة في الكثير من الاجتماعات المصريّة التي تنتمي إلى حقل الأفكار والسياسة.

هو الجيــل الذي يبلغ عمره من 9 إلى 23 ســنة، أي جيــل يمرّ بالطفولة والمراهقة وبدايات الشباب والنضج، يقدرون بشكلٍ تقريبي بأقل من نصف ســكان مصر في الوقت الحالي. أكثر من 40 في المئة من مجموع السكان. هذا الجيل قيد التعليم والتنشــئة، يختلف هذا الجيل في رؤيته لقضايا التحرر والثورة، ومنها القضية الفلسطينية، حسب ما تربّى عليه، وما عوّدته عليه بيئته الاجتماعية والفكرية التي ينتمي إليها، ربما يتشــّرب قضايا التحرير لانتمائه الأسري للتنظيمات الفكرية والسياسية، ربما يكون مرددًا مستقبليًّا لسرديّة نظام الدولة، أو حتى ضمن كتلة الكنبة الصامتة. في الغالب يتحسّر البعض على هذا الجيل نظرا لنشــأته في فضاء ثقافي وسياسيّ مُؤمّمّ بقيّد الســلطة الحديديّ، مع بزوغ نظام التفاهة، واستراتيجيّة الفراغ، كذلك تيه بوصلة الثقافة والوعي وســط مُغريات التكنولوجي­ا والأسواق الحرّة لنيل الشهرة والمال بأقصر الطرق.

القضية الفلسطينيّة لا تُرى من قبل النظام/المجتمع المصري بعينٍ واحدة، بل رؤية النظام لها ديناميّة باســتمرار، وعين الاجتماعات المصرية الُمتبانية في النشأة والانتماء والمخزون الثقافي والعمل والحديث تجاه كلّ القضايا المحورية للشعوب العربية والإسلاميّة. ٭ كاتب وباحث مصري مُختص في قضايا الاجتماع والثقافة

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Kingdom