Al-Quds Al-Arabi

الحرب غير المعلنة بين تركيا والإمارات - إلى أين؟

- عبد الحميد صيام * * محاضر في مركز دراسات الشرق الأوسط بجامعة رتغرز بولاية نيوجرسي

منذ انطلاقــة الربيــع العربي عام 2011 حدث شــرخ واســع في المنطقة بين مؤيد للحركات الشــعبية المطالبة بالحريــة والكرامــة والديمقراط­ة والتخلــص من أنظمة الفســاد والقهر والطغيان، وبين من عمل منذ اليوم الأول على إجهاض هذه الحركات متخوفــا من قيام أنظمة تمثل إرادة شــعوبها تعتمد الصنــدوق والانتخابـ­ـات الحرة والمساءلة حتى ولو أدى ذلك إلى صعود الإسلام السياسي الأكثر تنظيما وإمكانيات. وقــد وقفت تركيا في صف دعم ثورات الربيع العربي بينما وقفت الإمارات ضدها وعملت بكل الوسائل الناعمة والخشــنة لمنع التحول الديمقراطي فــي المنطقة حتى لو كان على حســاب مئــات الألوف من الأرواح والدمار والتشرد.

بــدأ بعدها مباشــرة التنافس بيت تركيــا والإمارات، وأخذت تلك المنافســة مســارات عديدة بعضها عسكريأمني وبعضها اقتصــادي- تجاري. وســنحاول في هذا المقال أن نســلط الضوء على تلك المنافسة التي وصلت إلى حد التهديدات وحبك المؤامــرا­ت ودعم الحروب بالوكالة، كما أخذت تلك المنافسة طابعا شخصيا بين الرئيس التركي رجب طيب أردوغــان من جهة وولي عهــد دولة الإمارات محمد بن زايــد من جهة أخرى. هذه الحرب الباردة والتي ترتفــع حراراتها بين الحــن والآخر ما زالــت قائمة إلا أن نهاية رئاســة دونالد ترامب ووصول جو بايدن إلى البيت الأبيض قد يغير قواعد اللعبة.

منذ تلك الأيام ودولة الإمارات تعمل على لعب دور أكبر من حجمها. البعض يفســر ذلك بأن الإمارات كانت تشعر بالفراغ الذي سببه غياب مصر في سنوات مبارك الثلاثين وأن القــوى الثلاث الأخــرى في المنطقة مــن غير العرب، إســرائيل وإيران وتركيا، هي التي ســتملأ هذا الفراغ أو تتقاســمه، لذا أرادت أن تقفز إلى الساحة وتصبح اللاعب الإقليمي الجديد حتى لو أنهــا لا تملك من عناصر القوة إلا المال. وقد حددت منــذ البداية أن حليفتها إســرائيل وأن عدوها تركيا بينما ســتتعامل مع إيــران بخطاب مزدوج عدو بالكلام وفي الإعلام، ولكنهــا في الحقيقة على علاقة جيدة وخاصة فــي المجالات الاقتصادية والتجارية، بل إن الإمارت راضيــة عن الدور الإيراني في ســوريا خوفا من سقوط نظام بشار الأسد.

تركيا من جهتها عاشــت أفضل أوقاتهــا في العقد الأول

من القرن الواحد والعشــرين ورممت علاقاتها مع محيطها العربي والإســامي، إنطلاقا من نظريــة وزير خارجيتها آنذاك، أحمــد داود أوغلو، القائمة على تصفير المشــاكل. فقد وقعت مع ســوريا وحدها عام 2010 أكثر من 35 اتفاقية وألغيت تأشــيرة الدخول بين البلديــن. وكان أردوغان لا ينتهي من جولة في المنطقة إلا بدأ بأخرى. طموح أردوغان أصبــح حتى أكبــر من قــدرات تركيا لكنــه كان واثقا من النجاح. لقد لعب أردوغان على الوتر الحســاس لاستمالة الشــعوب العربية عندما انســحب احتجاجــا على كذب شــمعون بيريس في دافوس عــام 2009 بينما بقي عمرو موسى جالســا وأرسل ســفينة نافي مرمرة في أيار/مايو 2010 لتخترق الحصار المفروض على غزة وهو ما أدى إلى استشــهاد عشرة أتراك بعد قيام إســرائيل بالهجوم على الســفينة، حيث أدت الحادثة إلى أزمة كبيرة بين إسرائيل وتركيا تركت آثارها على العلاقات بين البلدين لغاية الآن.

أردوغان كان يطمح أن يســتعمل القوة الناعمة ليجذب مزيــدا من الاســتثما­رات إلى بــاده من جهــة وأن يقيم علاقات تجارية وسياســية واقتصادية مع الدول العربية والإســامي­ة من جهة أخرى. وقد نجح إلــى حد كبير قبل الربيــع العربي وبــدأت البضائع التركية تملأ الأســواق العربية بشكل كبير، وتقاطر على اسطنبول والمدن التركية الجميلة ملايين الســياح العرب، وانتشــرت ظاهرة شراء العقــارات في كل مكان حتى يظن الزائــر لمدينة طرابزون الجميلة أنه في مدينة سعودية.

طموح أردوغان تضاعف مــع البدايات الواعدة للربيع العربي، وخاصة عندما شــاهد الرئيس التونسي بن علي يهرب ويتصدر حزب النهضة الإســامي المشهد التونسي، ثم جاء سقوط مبارك المدوي واستحواذ الإخوان المسلمين على كل الانتخابات بما فيها الرئاســية. كان أردوغان أول مــن زار مصر مهنئا ومتحدثا في دار الأوبرا عن الإســام والعلمانية. وتابعت التيارات الإســامية الفوز، ففي ليبيا تصدر الإســاميو­ن انتخابات 2012 ونجــح لاحقا حزب العدالة والتنمية المغربي في الوصول إلى الســلطة بينما كان يســتعد حزب الإصلاح اليمني للفوز في أي انتخابات قادمة بعد سقوط صالح وحزب المؤتمر والذي تحالف فيما بعد مع الحوثيين لاجتثــاث عملية التحــول الديمقراطي ووأدها في المهد.

تصدرت الإمارات حركة الثورة المضادة وكانت مصممة على اجتثاث الحركات الإســامية التي كثيــرا ما تصفها بالإرهابيـ­ـة حتى لو لم تكــن كذلك. وقــد عملت في نفس الوقت على إســقاط حكومــة محمد مرســي المنتخبة، ثم شاركت بقمع ثورة البحرين بالقوة عن طريق قوات «درع الخليج» واســتقبلت الإمــارت أحمد بن عبــد الله صالح ليبدأ هو ووالده عمليات عسكرية بالتحالف مع الحوثيين لإعــادة اليمن إلى حكم العســكر بالقوة المســلحة خوف انتقال البلاد إلى الديمقراطي­ة ووصول حزب الإصلاح إلى الســلطة. كما حرص بن زايد على إبقاء الخطوط مفتوحة مع النظام السوري حيث كانت بشرى الأسد أخت الرئيس بشــار مقيمة في الإمارات ووالدتها أنيســة تقضي معظم وقتها هناك، ولم يســمح بن زايد بأي تحــرك ضد النظام الســوري كالمظاهرات وجمع التبرعات، وظلت الســفارة الســورية التابعة للنظام تمارس التمييــز ضد معارضي النظام. وقــد تحولت العلاقة بعد عام 2016 إلى علاقة دعم وتأييد وعرض الأموال وتســليح قــوات الحماية الكردية لمحاربة تركيا ثــم عرضت أموالا طائلة علــى النظام ليبدأ عملية تحرير إدلب وخرق الاتفاقية الروسية التركية إلا أن روســيا أوقفت العملية. وليس مستهجنا أن الإمارات هي أول دولة أعادت فتح سفارتها في دمشق في كانون الأول/ ديسمبر 2018 ولحقت بها البحرين.

لقد كان انقــاب عبد الفتاح السيســي في مصر ضربة موجعة لأردوغان خاصة وأنــه كان يراهن على دور مصر والتحالف معها والاســتمر­ار في دعم التيارات الإسلامية المعتدلة، وكان لا يتردد في رفع إشــارة رابعة في أحاديثه وخطبــه وفتح بــاده لــكل الفارين من نظام السيســي يحرضون على النظام عبر العديد من القنوات.

في تلــك الفترة عقدت الإمارات اتفاقيــة لإدارة المواني على البحر الأحمر والمتوســط وأقامت قواعد عسكرية في شــمال الصومال وفي ميناء عصب الإريتــري وجيبوتي وجنوب اليمن ثم اســتولت بالقوة على جزيرة ســقطرى اليمنيــة بعــد أن دخلت الحــرب على اليمــن إلى جانب الســعودية ولكن بأجندة مختلفة تماما تقوم أساسا على فصل الجنوب اليمني والسيطرة على ميناء عدن ومضيق باب المندب.

المواجهة بين الإمــارات وتركيا أخذت أبعادا خطيرة في ليبيا. كانــت العلاقات الليبية التركية فــي أوج قوتها في العقد الأول من القرن الحادي والعشــرين. ففي تشــرين الثاني/نوفمبر 2009 زار أردوغان ليبيا مصحوباً بعدد من الوزراء و150 رجل أعمال لبحث سبل التعاون في مجالات الإعمار والتجــارة والصناعة والنفط والغاز والســياحة والفندقة وغيرها. وقد نفذت الشــركات التركية في الفترة ما بين 2002 و2008 مشــاريع إنشــائية فــي ليبيا بقيمة 8 مليارات دولار. فما كان لتركيا أن تتخلى عن استثماراته­ا في ليبيا بكل بساطة.

انحازت الإمارات للثــورة المضادة كــي لا تنتقل ليبيا إلى الديمقراطي­ة والاســتقر­ار. فقد عملــت الإمارات على إسقاط انتخابات 2012 وبدأت تدعم منذ عام 2013 القوات المناوئة للإسلاميين حيث جاءت الانتخابات البرلمانية عام 2014 تحولا في المشــهد الليبي بعد نجاح القوى الوطنية والعلمانيـ­ـة بدعم إماراتي ما دعا أعضــاء المؤتمر الوطني العام إلى رفض نتائــج الانتخابات فانتقــل البرلمان إلى طبرق في الشــرق الليبــي. في نفس الوقــت أعلن اللواء خليفة حفتر يــوم 16 أيار/مايو 2014 بدء «عملية الكرامة» لتحريــر ليبيا مــن الإرهابيين كما قال، معتمــدا على دعم إماراتــي وبعض الــدول الأخرى. بدأ حفتــر يمدد نفوذه من الشــرق إلى الجنوب ثم اتجه إلــى الغرب ليحتل آخر مواقع حكومة الوفاق الشــرعية والمعتــرف بها دوليا. قام فايز الســراج بالتوصل إلى اتفاقيتين مهمتين مع الحكومة التركيــة فــي 27 تشــرين الثاني/نوفمبر 2019، ترســيم الحدود البحريــة من جهة والتعاون العســكري والأمني من جهة أخرى. واتفاقية ترســيم الحدود البحرية جاءت ردا علــى اتفاقية عقدت بين اليونان وقبرص وإســرائيل ومصر وشــاركت الإمارات فيها كمراقب. بدأت الأســلحة التركيــة والمتطوعــ­ون والمقاتلون والطائرات المســيرة، بالتدفق على منطقة طرابلس والمدن الغربية وغيرت خلال الأشهر الستة الأولى من سنة 2020 مجرى الحرب وألحقت الهزيمة وراء الأخرى في قوات حفتر المدعوم من الإمارات ومصر ثم روســيا. هزيمة حفتر في الغرب الليبي هي التي فتحت المجال للتوصل إلى اتفاقيات ســام ووقف لإطلاق النار وانتخــاب حكومة وحدة وطنية تعمــل على تنظيم الانتخابات في 24 كانون الأول/ ديسمبر المقبل.

 ??  ??

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Kingdom