Al-Quds Al-Arabi

عن الزجل اللبناني وكتابة التاريخ الشعبي العام

«صناع الفرح»

-

■ عرفــت الســنوات القليلــة الأخيــرة جهوداً أكاديمية عديــدة على صعيد الاهتمام بالمحكــي أو العامي العربــي، بوصفه مدخلاً جديدا لقــراءة المنطقة من الناحية الاجتماعية والتاريخيـ­ـة، وربمــا نذكــر هنا، على ســبيل المثــال، أطروحــة المؤرخــة الفلســطين­ية دانا الســجدي «حــاق دمشــق» التــي أعــادت فيهــا الاعتبــار لعامية البدير الحــاق، خلافا للطبعــات المحققــة مــن يومياتــه الشــامية، بوصــف هــذه العاميــة لا تعكــس حالــة ترد ثقافــي أو اجتماعــي، وإنما علــى العكس من ذلك، جاءت هذه العامية الدمشقية في النص الــذي دوّنه هــذا الحــاق لتعكــس اقتصاداً كتابيا جديدا، وفق تعبير السجدي.

كما أنّ عاميــة البدير أظهــرت قدرتها على نقــل الواقع القلــق في القــرن الثامن عشــر، مقارنة ببعــض نصوص العلمــاء آنذاك. كما يمكن أن نشير في هذا السياق أيضا، للكتاب الذي أشرف عليه عدد من الباحثين والعاملين في حقــل اللغة العربية «بــال الأرفه لي( في الجامعة الأمريكية في بيروت، والذي أشاروا فيه إلى أنّ برامج تعليم اللغة العربية في هذه الجامعــة، أخــذت تركّز بشــكل أكبــر )بعيد الربيع العربي( على تدريس اللغة العامية، من خلال الطلب من تلامذتهم الغربيين مشــاهدة ســاعات طويلة من مسلســل «بــاب الحارة» مثلاً.

ولــم يقتصر هذا الاهتمــام بالمحكي واللغة العاميــة علــى الجوانــب الغربية، التــي عادة مــا تولــي أهميــة أكبر لهــذا الجانــب مقارنة بالباحثــن العرب، الذين ما يزال قســم كبير منهم ينظر للعامية نظرة ســلبية، أو احتقارية أحيانــا، وإنما أخذنا نعثر علــى جهود عربية مهمــة في هذا الســياق، وهي جهــود لا تلقى للأســف المتابعــة الكافيــة، مع ذلــك نراها لا تــكل ولا تمــل مــن العمل فــي هــذا الجانب، للكشــف عن تاريخ موازٍ أو شــعبي للتواريخ الاجتماعيـ­ـة والثقافيــ­ة الرســمية العربيــة، وكمثال على هذه الجهود العربية، أشــير إلى كتاب «صناعُ الفرح» الذي أشرف على تأليفه عدد من الباحثين اللبنانيين، وصدر عن مركز التراث اللبناني/الجامعة الأمريكية اللبنانية، وتنــاول موضــوع الزجل اللبنانــي، بوصفه وثيقــة حياتيــة ويومية تعكس واقــع وأفكار الناس، وأيضا تكشــف عن مــدى حيوية هذا المصدر لفهم تواريخ اجتماعية مختلفة.

وتحــت عنــوان «الزجــل اللبنانــي.. ومن الصــوت كان البــدء» يعــود جوزيــف أبــي ضاهــر إلى تاريخ الزجل الشــعبي في لبنان، إذ يرى أنه في المناخ الزراعي بدأ انتشــار هذا النــوع مــن الثقافة الشــعبية، بينمــا غاب عن ســكان المدن الذيــن اجتذبتهم حيــاة التجارة والصناعة، كما اهتموا أكثر بالطرب العربي. ويبين أبي ضاهــر أنّ الزجل اللبناني شــيء قــديم، وليس وليد القرن الأخير، وأنّ وظيفته تغيرت عبر هذه الأزمنة. فقبل القرن السادس عشــر، عادة ما ارتبطت موضوعاته بالتأريخ والمواضيــ­ع الدينيــة، إذ نعثر علــى نصوص زجلية تعود إلى ســليمان الأشــلوحي، وهي موجــودة في مكتبــة الفاتيــكا­ن، وتتألف من ســتين بيتا يصف فيه خراب مدينة طرابلس (1289( بعــد أن دخلهــا الملك المنصور ســيف الدين قلاوون، ومــن قصيدته «يا حزن قلبي

ومــا يخلي مــن أحــزان.. والقلب مــن الحزن شاعل بنيران، في طرابلس كان بدي القول يا حزني.. والقول من قبل هذا الشرح قد خان.» بيد أنّ أشــهر الزجليات التاريخيــ­ة المعروفة هي زجليــة ابــن القلاعي ويصــف فيها نكبة كسروان بعد حصارها سبع سنوات «إبليس أب كل الطغيان.. نظر شــعب مارون فرحان، حســده وأرماه فــي الأحــزان.. لأجــل اثنين كانوا رهبان .»

ومع بدايات القرن العشرين، عرف الزجل اللبنانــي نهضــة، ليتخطى حــدود لبنان إلى بعــض الــدول العربيــة وعالــم الاغتــراب، فانتقل من إطار البيت والباحة والمناسبة إلى المنبــر، فقبل هذه الفتــرة كان الزجل مقتصرا علــى حفلــة عــرس أو حفلــة عمــاد، أو حفلة يقيمها أحــد الوجهاء، يدعــو إليها الزجالين، ويحضر كل شاعر مصحوباً بشلة من شباب قريته كانوا يســمونهم «زمرة» أو «حوســة» الشاعر، ثم ظهر شحرور الوادي وجعل يقيم الحفــات، بعــد أن أوجــد لها المنبــر، وجعل الدخول إليها خاضعا لبطاقات دخول، وأخذ هذا الفن بالرقي.

ويكشف أبي ضاهر أنّ دور الزجل ازدادت أهميتــه خــال الخمســيني­ات، علــى صعيد السلم الاجتماعي الأهلي، إذ كلفت الحكومة اللبنانيــ­ة بعــض الزجالــن بإقامــة حفلات في كل المناطق اللبنانيــ­ة، يكون القصد منها جمع صفــوف اللبنانيــ­ن، والانضواء تحت راية لبنان، لعلــم الحكومة أنّ الجماهير أكثر طواعيــة حيــال شــعراء الزجل منهــا حيال الخطباء والمرشدين، واستكمالاً لفهم الزجل الشــعبي في لبنــان مــن منظــور اجتماعي، يبــن الألســني اللبنانــي نــادر ســراج فــي دراســة له بعنوان «فنون الأزجال الشعبية.. قــراءة ألســنية اجتماعية» أنّ «فنــون القول الشــعبي» كانت بمثابة وسيلة تعبير شعبية متكاملــة ومركــزة، نشــأت عــن الجماعــة، فاختصــرت تجاربها الإنســاني­ة، وأوجزت ممارســتها العملية والعقليــة والعاطفية في منظومات قولية شــفهية متناقلــة جيلاً بعد جيل، وتمتلك قدرة على التعبير الصادق عن روح الجماعــة ومزاجهــا العام فــي مختلف ســياقات القــول، وانطلاقا من هــذا الطرح، وبالنظر إلى هذه الأشــكال العامية بوصفها

مادة للتاريخ الشــعبي للمجتمع، ســيحاول نادر ســراج العودة إلى نهاية القرن التاســع عشــر، وحتى ثلاثينيات القرن اللاحق، لفهم بعــض تفاصيل الحيــاة اليوميــة، من خلال هذه القوالب الشعبية «الزلغوطة» التي كانت ترددهــا بعض النســوة فــي الأفــراح، لفهم ماضي بيــروت مثلاً، ففي إحدى الزلغوطات التــي أطلقتها نســاء من آل حلــوم في محلة الحمراء غربي الجامع العمري الكبير لمناسبة زفاف أحد ابنائهن نعثر على العبارات التالية «أويها )أســرعي(.. ناجي أفندي شــو كارك )مهنتك(.. أويها ريشة ودواية تحت زنارك» وتبين هذه الزلغوطة أو تكشــف عن مشــهد سبق أن أشار إليه البعض حول فتيان مدينة بيــروت في تلــك الفترة، وهــم يصعدون في طلعــة حــي الأمريــكا­ن، وكل منهــم يرتــدي قميصا وســروالا خاليــا من الرقع، ويشــك ريشة ودواة في زناره، علامة على متابعتهم الدراســة فــي مدرســة الأمريــكا­ن، وكانــت يومهــا الكليــة الســورية الإنجيليــ­ة التــي أصبحــت لاحقا الجامعــة الأمريكية، وكانت تشغل منذ عام 1866 بالإيجار دار الحاج عبد الفتاح آغا حمــادة، الملقب بالســيد «فتيحة» في المحلــة المعروفة بطلعــة الأمريكان «زقاق البلاط» وفي 16 تشرين الأول/أكتوبر، فتح المرســلون الأمريكيــ­ون هــذه المدرســة، التي اســتأجرها القس دانيال باس وكرنيليوس فاندايك، وبنيا قربها مطبعتهما وكنيستهما ومنارتها التي لا تزال باقية إلى يســار طلعة الأمريكان.

وفي الموضوع نفسه يأتي نادر سراج على ذكر طرفة تتصل باســم أحد هذين المرسلين التبشــيري­ين الإنجلييــ­ن، وظفــت فــي إطــار عبارة زجلية. ففي أحد أوعية النشر الشعبي نعثر على اسم فاندايك في إطار نقد اجتماعي ســاخر على لســان أديب ســوري، لــم يفلح طبيبان محليان )مشــاقة وتنبل( في شفائه مــن وجع أصاب يده، فهددهمــا باللجوء في الغــد إلــى الطبيــب الأمريكــي منشــدا: «لولا مشــاقة وتنبــل بيــك.. مــا كان صــار بإيدي هيك» وبالتالي تكشــف هذه المقولة الشعبية عن النقاش الاجتماعــ­ي، الذي عرفته بيروت فــي نهايــة القــرن التاســع عشــر مــع قدوم الأمريكيين والأوروبيي­ن للمدينة، الذي شـّـكل فرصة وتحديا، في الوقت نفسه، للبيروتيين لاختبار أفــكار أخرى في مــا يتعلق بحياتهم اليوميــة، خاصــة أنّ اســم تنبــل مرتبط في المخيال الشــعبي بمعنى «الكســل» وربما في ذلك إشــارة إلى الركــود الاجتماعي والعلمي للبيارتــة العثمانيين فــي ذاك الزمن، أو هكذا كان يــراه صاحــب المقولــة، ولذلك يشــتكي مــن الأطباء المحليــن، ويحذر من الاســتعان­ة بالطبيــب الأمريكــي )الحداثــة الغربيــة(، مرســاً من خلال هذا الزجل رسائل ضمنية حول ضرورة التجديد والإصلاح، وهو بذلك كان يتشاطر الموقف نفسه مع قسم من أعيان بيــروت ومثقفيها، الذين دعوا في هذه الفترة للتركيــز على العلــم والمعرفة، ليــس من أجل نيل المناصب فــي الإدارة العثمانية، بل أيضا لإصلاح واقعهم الاجتماعي والثقافي.

 ??  ?? رسم تعبيري
رسم تعبيري
 ??  ??
 ??  ??

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Kingdom