Al-Quds Al-Arabi

الأديب بين الهامش والمتن

-

■ منــذ بدأت الكتابة وجدت في نفســي ميلا إلــى الهامش دائما، ورأيت الكثيرين من الفنانين والكتاب يميلون إلى ذلك. لا تشمل كلمة الفنانين هنا كتّاب المســرح أو الســينما أو المغنين، رغم أنهم في قلب الفنون، لكن تعني الفنانين التشكيليين بصفة خاصة، فهم الأقرب إلى الأدباء، باعتبار أن أنجازاتهم تنسب إليهم وحدهم.

تكــون قضايا كاتب الرواية أو الشــاعر مع كيــف يكتب، وقدراته على تطويع اللغة لحالات شــخوصه ومكانها وزمانها، وتكون قضية الفنان التشــكيلي هي كيف يطوع مادته، التي يستخدمها لتعبر عن معانــي وراء ما يبدو في لوحته. في كل الأحــوال هو الفاعل الوحيد على عكس المطرب، الــذي يحتاج إلى كلمات الأغنية من شــاعر إلى موســيقار ليقوم بتلحينها. الأمر نفســه في حالة السيناريست، أو الكاتب للســينما والمسلســا­ت، فهو في حاجة إلــى مخرج وممثلين ومصور ومصمم ديكــورات، وحتى إلى الماكيير منفذ ماكياج الأبطال. في النهاية يصبح العمل في الغناء والسينما جماعيا. لن أقول يحتاج إلى منتج ســينمائي، لأن المنتج هنا مثل الناشر فكل مهنة تحتاج إلى راع يخرج بها إلى السوق.

في بــاد مثل بلادنــا، وفي ما يخــص الأدباء يجــدون أن منافذ توزيعهــم أو تحققهم تســيطر عليها الحكومات، أعنــي بها الصحف والمجلات، لذلك يختــار البعض أعمالا قريبة من هــذه المنافذ، وعلى رأسها الصحافة، لكنني آمنت منذ بداية إقبالي على الإبداع القصصي أن البعد عن هذا المجــال أفضل. رأيت أن الصحافة ســتجعلني رهن الأوامر والتعليمات. لن أقول إن لغة الصحافة تأخذ المبدع إلى أســفل كما يقال، ذلك أمر يعود إلى الموهبة لا يفســده العمل الصحافي، لكن إيقــاع الصحافة ســريع، ومن ثم فيها ينشــغل الكاتــب بالكثير من الأحداث، وهكذا تكون الكتابة اضطرارية. العمل في الصحافة فيه من الاضطرار أكثر من الحرية. مواعيد للعمل ومواعيد لتغطية الأحداث، والإســراع فيها والســبق إليها، بينما الأديب، لن يخرب العالم، إذا تأخر في إنهــاء روايتــه، أو قصيدته، وكذلك الفنان التشــكيلي مع لوحته. وقد يجد في ســهرة مع أصحابه أو موعدا غراميا ما يشــبعه أكثــر من إنهاء ما يكتبــه. من يدخل من باب الصحافة، ربما يشــتهر بســرعة، ورغم ذلك فالكثيرون يبتعدون عن العمل الصحافي. كنت واحدا منهــم، رفضت العمل بالصحافة في بداية حياتي، رغم أنه كان أمرا سهلا جدا ذلك الوقت، وليس كما هو الآن، حيث كثير من الشباب يقضون ســنوات حتى يتم تعيينهم بشكل رســمي، فيكون لهم تأمين اجتماعي وصحي يفوزون به بعضوية نقابة الصحافيين. كتبت مئات المقالات في الصحف، لكن دون العمل فيها، وتفرغت للرواية والقصة. اختــرت عملا لا يكلفني كثيرا من الوقت، وأتغيب عنه حين أريد، حتى أعطي الوقت للقراءة والإبداع. وحين جاءتني المناصب الثقافية في ما بعد تركتها أسرع من خروج النهار.

في عالمنا العربي ساعد الوجود الصحافي، أو الوجود المؤسسي في ترويج الكاتب، لكن أيضا يروج الكاتب، إذا لم يتعجل الرواج وحرص على الكتابة. الهامش في الحقيقة بديل عــن الدنيا كلها. الهامش هو متن الحرية، لا يســتطيع أحد إفســاده على صاحبــه. الصحافة في البلدان غير الديمقراطي­ة تكون تحت ســمع وبصــر الأجهزة الأمنية. وقد يجد البعــض في الاقتراب منها فرصة للتقــدم في مناصبه، لكن فرصة الهامــش ومن فيه أكثر للتقدم في مــا يكتبون وتطويره. حين تقرأ روايــة لا تهتم ماذا يعمل صاحبها، وكذلك حين تشــاهد معرضا فنيا لفنان، لكن تهتم بما هو أمامك، أو بين يديك، لكن الهامش يحتاج إلى قوة إرادة حتى لا تتركه وتنطلق في المتن الحكومي، أو المؤسسي. كثيرون من الأدبــاء الموهوبين يفعلون ذلك. رأيت من بينهم اســماء مثل نجيب ســرور وأمل دنقل ويحيى الطاهــر عبدالله، وصنع الله إبراهيم ومحمد البســاطي، ومن أجيال تالية مثل عبد المنعم رمضان. نجيب محفوظ ظل ســنوات طويلــة يكتب في الظل، بينما يوســف الســباعي رجل الدولة يحتــل المقدمة، لكن نجيب محفــوظ فاز ولو متاخرا جدا بالوجود الكاســح. نجيب محفوظ توقف عن الكتابة بعد ثورة يوليو/تموز 1952 حتى عام 1959، حين بدأ ينشر روايته «أولاد حارتنا» لكنه وجد طريقة أخرى للوجود، هي كتابة السيناريو، فكتب ســيناريوه­ات قليلة لأفلام. وحكي الممثل فريد شوقي مرة أنهم حين ذهبوا إليه بمكافاة مالية عن ســيناريو كتبه، اعتذر عن قبولها قائلا يكفي أني تعلمت منكم كتابة الســيناري­و، لكن ذلك كان زمنا آخر غير زماننــا. كان القليل من العائد يكفي، وكان العــاج مثلا متوفرا على نفقة الدولة، دون أهمية لعمل أو قيمة المريض. الآن يموت حولنا كتاب أبدعوا كثيرا من الأعمال ويرتفع الصراخ من أجل علاجهم ولا نتيجة، حــدث ذلك مع محمد عيد إبراهيم ورفعت ســام وســعيد الكفراوي والفنان التشــكيلي مصطفى عبد الوهاب، وتقريبا في عام واحد هو العام الماضي.

لكــن يظل للهامش المســاحة الأكبر من الحريــة، فحتى لو رفضت صحيفة نشر قصة للكاتب لأســباب رقابية، يستطيع أن ينشرها في بلد آخر. والذين يتصــورون أنهم يمكن بقيودهم تحديد فضاء المبدع واهمون، لأن العالم أمام المبدع متســع فســيح الأرجاء، حتى لو كان يعيش في غرفة واحدة. وبعيدا عــن قوة الدولة فبعض الكتاب حين يكــون لهم وجود في المتن الثقافي يقفون فــي طريق غيرهم. هؤلاء لا تبقى منهم غير الذكري الســيئة، لأن من اختار الهامش تتسع الدنيا أمامه. المهم أن لا يضيّع وقته في الجدل معهم، فطريق الوجود الأدبي ليس ما يتحكمون فيه فقط، بل هو أكبر وأوســع. يزيد من اتساعه أن الهامش يعطي صاحبه الوقــت للتجديد في ما يكتب والجرأة على ما لا يتجرأ عليه من هم في المتن. متن الــدول المركزية التي تعد الأنفاس على البشــر. في الحياة الثقافية مؤامرات يعرفهــا كل من عاينها، أو تعــرض لها، لكن فيهــا مغامرات يعرفها صاحبها حين يســتغني عن المتن، ويتفرغ لما يبدع. أعني مغامــرات في الكتابة والتجديد، والذين يحاصرون الكاتــب أغبياء فهــم يعطونه الفرصة أكبــر للحياة في الهامش، فينتج بحرية أكبر ما يريدن لذلك كثيرا ما أقول لكاتب شاب يشــكو لي مما يتعرض له من آخرين يحاصرونه، بينما يغدقون على أصدقائهم أو شــلتهم من الحســنات، إن مجالك الحيــوي ليس هم، لكنه القارئ الغريب الذي لا تعرفه. أصبر واســتمر وســتجد أعمالك تقفز إلــى متن الحياة الثقافية، بينما انشــغالهم بالمتن والتحقق فيه، ســيجعلهم يكررون ما يكتبون، ويبتعد عنهم بساط الفن أو الإبداع. لا تنشغل بقضايا الحياة الثقافية، لأنها في بلادنا نادرا ما تكون حول الفكر، لكن حول المكاســب الشخصية التي قد تكون خافية. وكثيرا ما يكون وراءها أيضا ســوء الفهم. قد يقول لــي أحد كيف وكثيرون في تاريخنا الثقافي والأدبي كانوا أعلاما في الصحافة والسياســة، مثل عباس العقاد وطه حســن وسلامة موســى وغيرهم، أقول له كانت هناك أمة أسرع في طريق الليبرالية، فكان الكتاب يمضون بحرية في كل الطرق، وظل هذا بعد 1952 بقــوة الدفع الذاتي، حتى اختفى ذلك الجيل.

لم تكن الصحــف ولا المجلات تصدرها الحكومات، فكانت الصحف هي التي تســعى وراء الكتّاب، بل كثيرا مــا كان الكتّاب وراء صدور المجلات، وهم أصحابها. الهامش ليس وضعا اجتماعيا أبدا مهما كانت الحياة الاجتماعية فقيــرة، الهامش هو فضاء مفتــوح للحرية مهما كانت الطرق مغلقة.

 ??  ?? إبراهيم عبد المجيد ٭
إبراهيم عبد المجيد ٭

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Kingdom