Al-Quds Al-Arabi

تحية للعمال

- * كاتب مصري

فــي الأســبوع الماضــي كتبت عن «الصورة» وقيمتها بالنســبة للطغاة والأنظمة والدول بصفــةٍ عامة؛ لجأت إلى تلك الكلمة من قبيل الاســتعار­ة والمجاز تعبيراً عن الانطباع الذي تخلقه وتحرص عليــه، إلا أن للصورة بمعناها الحرفــي مكاناً مهماً في التاريخ أيضاً، فثمة صورٌ خلدت لحظاتٍ ومواقف ورجالاً وكم من أخرى شــكلت أدلة إدانة لعل أقربها إلى ذهني صورة تلك الطفلة الفيتنامية التي تركض عاريةً وقد أحرقتها قنابل النابالــم التي أســقطتها غــارةٌ أمريكية مســجلةً بذلك على جسدها المشوه جريمة الرأســمال­ية، وتلحق بها صورة تشي جيفارا ممدداً قتيلاً.

لكــن يبدو أن الحــظ أو القدر أبــى إلا أن يرفدني بصورةٍ أخرى، مشــرقة بقدر ما تحمل من الأمــل والمعاني وما تحيل إليه من مواقف وانحيازات، صورة العمال الذين شاركوا في إعادة تعويم السفينة العملاقة الشاحطة في قناة السويس.

تلــك صورةٌ عفويةٌ تمامــاً، صادقةٌ بنــت اللحظة، لذلك لا تســتطيع ألا تلاحظ البهجة الحقيقية؛ صورةٌ واقعيةٌ لأقصى

مدى ليس فيها شــبهة تكلف فهم يرتدون السترات والأحذية ويعتمرون القبعات الواقية التي تتطلبها طبيعة العمل، تبدو عليهم علامات الإرهــاق بعد أيامٍ قضوها فــي مجهودٍ مضنٍ تحت ضغطٍ رهيب، سياسيٍ واقتصادي من رأس المال العالمي المعطل الــذي تتراكم خســائره الفادحة كل دقيقة، وشــبح اليأس من محاولاتٍ فاشلةٍ ســابقة؛ صورةٌ لعلهم لم يريدوا منها ســوى تخليد لحظة الإنجاز، لكي يثبتوا «أننا كنا هناك وشاركنا في هذا العمل» تخليد عملهم وقيمته.

هنا في رأيي بيــت القصيد ومكمــن كل المغازي والخطوة الأولى للفهم والتي ينبغي أن يبنى عليها كل تحليل: الســؤال عن العمــل وقيمته ومن في الحســاب الختامي يســتأثر به ويستحوذ عليه ومن ثم طبيعة المجتمع بعلاقاته.

بعد التطبيل والصياح والتهليل، شــرع الكثيرون، وعلى رأســهم إعلام النظام، يؤكدون على ما لفــت إليه هذا الفصل من قيمة قناة الســويس ما عُــد إعادة اعتبــارٍ بها، لكن تلك مغالطةٌ ناتجةٌ إما عن التســرع والالتباس وغموض الصورة في ذهن حسني النية أو لأغراضٍ خبيثة في ذهن من يريدون أن يموعوا الحقيقة التي تخرق عين الشــمس: لم يعد شحوط الســفينة و تعويمها الاعتبار لشيءٍ بقدر قيمة العمل وأوليته الحاســمة والعمال الذين تبــن بما لا يدع مجالاً لذرة شــك أنهم هم صناع القيمة والمكســب )حتى السفن العملاقة التي أعادت التعويم لم يصنعها إلا مهندســون وعمال( وهم أناسٌ عاديــون تمامــاً، أبناء هــذا المجتمع المحلــي، خريجو مراكز التدريب في هيئة قناة الســويس، تلك التــي حفرها وبناها أجدادهم أيضاً فصنعوا القيمــة وفائضها، وماتوا حينها فقراً وجوعاً لتُصنع ثرواتٌ ضخمة إلى الدرجة التي تدفع بريطانيا وفرنســا، القوى العظمى آنذاك، إلى الصراع الاســتعما­ري عليها وعلى الاستئثار بأسهم شــركتها وعائدها بينما يجني الناجون وســائر المواطنــن العاديين أمثالهم الــذل والفقر، تمامــاً كما ســيحدث الآن، إذ أن الذين ظهــروا في الصورة، مبتسمين فخورين بعملهم العظيم ، أعادوا حركة مليارات من الدولارات، ولن يتبقى لهم ســوى تلك الصورة وربما علاوة تافهــة أو مكافأة أتفه لن يلبث الغلاء )ذلك الذي تســبب فيه السيسي ونظامه الجشعان( أن يبتلعها.

هــم الُمخَّلِصــون الحقيقيــو­ن، العاديــون أبنــاء الناس العاديــن، المصريون جداً، بحكاياهم ومشــاكلهم، ليســوا ملائكةً ولا هم بشــياطين، لم يدعوا عظمةً ولا أن الله «خلقهم أطباء » ولا أن «الفلاسفة شهدوا لهم .»

هم بالمناسبة أيضاً ومداً للخط على استقامته قادرون تماماً على انتخاب من يمثلهم وإدارة شؤونهم على المستوى المحلي بأنفسهم فهم أدرى بها، كما أن لديهم القدرة تماماً على إيصال أصواتهم عبر هؤلاء إلى القاهرة والمشــارك­ة في صنع القرار وصناعة مجالٍ عام وحياة سياسية ســليمة لولا هذا النظام الرابض على أنفاس كل شيءٍ بثقل الحديد والنار.

لكن كما هي العادة، وبطبيعة النظام الرأسمالي البدائي ) القروســطي جداً في أحيانٍ كثيرة ( الذي يحكم مصر، سقطت الدولة والسيســي بالمظلة، بمنتهى الطفيلية، على إنجازهم، وذلــك بعد أن كانــوا قد فاقمــوا الأزمة في بداياتها بســوء التخطيط وأسلوب التعامل معها، ووفق خطابٍ رسمي ترسخ وعياً زائفاً للأسف عبر عقود لدى الجمهور، خطابٌ يماهي بين الناس العاديين العاملين والبورجواز­ية المستغلة واللصوص الكبار والجيش ومنظومة الأمن ومصر البلد ومصر التاريخية علــى تقلباتهــا والنظام والرئيــس الأوحد المفــدى فتصبح جميعها «مصر» ذلك الوعي «الوطنجي» الســاذج ابن الحلال العابر للطبقات والحقب والأنظمة، فإن ذلك الإنجاز يُســحب ويتم تســريبه بخفة من بين أيدي العمــال ليصير إنجازاً لـ «مصر» المجمعة هذه، تماماً كما يُســحب الربح وفائض القيمة من أيديهم وأيدي غيرهم من العاملين طيلة الوقت، ولن يلبث في القريب العاجل جــداً لدرجةٍ تغيظ أن يصبح إنجاز الهيئة ومن ثم إنجاز السيســي وربما احتُفل به كل عام ورفعت إليه التهاني به وبإدارته الحاســمة والحكيمة التي لولاها لم تكن لتتحقق هذه المعجــزة، ومن يدري ربما أوفد بعض هؤلاء في الصورة لتحيتــه لتلتقط لهم صورةٌ وهــم يصافحونه هذه المرة فــي مفارقةٍ عبثيةٍ ســوداء؛ فهؤلاء يُســرقون مراراً… طيلة الوقت…و يُسلبون كل شيء…بعرقهم تتكدس ثرواتٌ في المصارف في الداخل والخارج وتُشــترى أســلحةٌ وعتاد ومركبات وتُصرف مكافآت لمنظومة الأمن والضباط والقضاة الذين يعملون على إبقائهم حيث هم.

ليس هذا إنشاءً أو بلاغة وإنما تصويرٌ مقصرٌ مُفرِطٌ لواقعٍ مرير شديد البؤس لمن توقف وتدبر.

لكن شــيئاً لا في الســماء ولا في الأرض لن يغير الحقيقة الأولية بأنهــم صانعو القيمة والفخر الحقيقي، وســيظلون هم الأجمل والأبهى، ويكفــي أن تقارن صورهم تلك بعفويتها وصدقها النابض بتلك التي للسيسي واقفاً على ظهر السفينة الحربية، مرتدياً زياً عســكرياً حيك خصيصاً للمناسبة، فكل شــيءٍ مفتعل، بدءاً من الإخراج للــزي للرجل الذي جيء به على ظهر دبابة، كل شــيءٍ منعدم الجدوى بما فيه المشــروع برمته الذي اعترف بنفسه، بحصافته ونباهته، أنه لم يكن إلا لرفع الروح المعنوية. المشــهد هنا برمته مدمرٌ للقيمة بما ردم فيه من مليــاراتٍ بلا عائد لمجرد المظهريــة الفارغة والبهرجة الزائفة.

لا يســعني إلا أن أفخر بهؤلاء العمــال، فأنا أتماهى معهم. أنا أحب أن أرى نفســي فيهم، ذلك اختيارٌ وانحياز اجتماعي، وبكل تأكيد لا أرى نفســي ولا أتماهى مع الذين يعتقلون أبناء الناس ويخفونهم قســرياً ويلفقون لهــم القضايا ويعيدون تدويرهم ويستمتعون بتعذيبهم وذويهم وإذلالهم؛ لا أتماهى مع الذين سيجنون المكاســب الطائلة من عرق هؤلاء العمال الذين عوموا الســفينة وهم الآن يحزمون حقائبهم ليلوذوا خلف أسوار العاصمة الإدارية الجديدة؛ لا يسعني في النهاية سوى الاحتفاء بهؤلاء العمال وتوجيه التحية لهم، فهم، وهم فقط، من يستحقونها.

المهم هو السؤال عن العمل وقيمته ومن في الحساب الختامي يستأثر به ويستحوذ عليه

 ??  ??

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Kingdom