Al-Quds Al-Arabi

هل تخلف العرب بسبب تخليهم عن الإسلام فعلاً؟

-

■ مازال الكثير من العرب والمسلمين حتى اليوم يعزون تخلفهم وتأخرهم عن باقي الأمم إلى تخليهم عن الإسلام. وهــم يربطون بين الديــن والتقدم والازدهار الذي ســاد بعض عصور المســلمين فــي الماضي. ومــن المقولات التي انتشرت في مواقع التواصل الاجتماعي في الآونة الأخيرة مقولة إن العرب قبل الإســام كانــوا قبائل متفرقة ترعى الغنــم، فجاء الإســام فجعلهم أمة واحــدة ترعى الأمم. أما اليــوم بعد أن تخلوا عن دينهم فعــادوا كما كانوا، مع اختلاف بسيط وهو أن الأمم صارت ترعاهم. لكن السؤال الذي يجب أن يُطــرح الآن في هذا العالــم الذي تقدم في العقود الماضية أكثر مما تقــدم على مدى قرون خلت، هو: هل كان الدين يوماً العامل الأساســي فــي تقدم أو تخلف الأمم؟

لقد أجاب المفكر الشهير شكيب أرسلان عن هذا السؤال في كتابه الشــهير «لماذا تأخر المســلمون وتقدم غيرهم»؟ وهو كتاب يعتد به المســلمون ويعتبرونه وثيقة تاريخية تشرح وتفصل أســباب تخلف المســلمين وتقدم غيرهم. وكي لا يبقــى البعض يجتر مقولات مغلوطة ويعممها على شرائح عريضة من العرب والمسلمين، فلا بد أن نعود ونضع النقاط على الحروف مرة أخرى لملايين العرب والمســلمي­ن الذين استســهلوا لعبــة التقدم والتأخــر وحصروها في الدين دون غيره مــن العوامل التاريخيــ­ة والاجتماعي­ة والاقتصادي­ة والعلمية. وليس المطلوب هنا مطلقاً التقليل من شــأن الدين، لا أبداً، بل الهــدف توجيه أنظار الأجيال التــي ترعرعت على مفاهيم مغلوطة إلــى بقية الأمم التي لم تتقدم وتصبح ســيدة العالم بسبب تمسكها بدينها، بل لأنها التزمت بشــروط معينة أخرى للتقدم لا علاقة للدين بها لا من بعيد ولا من قريب. وبالتالي على العرب التوقف عــن اجترار المقولة التــي تربط التقــدم بالدين، حتى لو انطبقت ذات يوم على المسلمين دون غيرهم.

هل تعلم عزيــزي العربي المســلم أن اليونانيين «قبل النصرانية كانوا أرقى أمم الأرض أو من أرقى أمم الأرض، وكانوا واضعي أســس الفلســفة، وحاملي ألوية الآداب والمعــارف، ونبغ منهم مــن لا يزالون مصابيح البشــرية في العلم والفلســفة إلى يوم الناس هذا وكان الإســكندر المقدوني أعظم فاتح عرفه التاريــخ أو من أعظم الفاتحين الذين عرفهــم التاريخ، حامــاً للأدب اليوناني ناشــراً ﺔﻓﺎﻘﺜﻟ اﺎﻧﻮﻴﻟن ﺑيناﻣﻢﻷ اﻲﺘﻟ ﺐﻠﻏ عليها. وما كانت دولة البطالسة التي لمعت في الإسكندرية بعلومها وفلسفتها إلا من بقايا فتوح الإســكندر، ثم لم تزل هــذه الحالة إلى أن تنصرت اليونــان بعد ظهور الدين المســيحي بقليل، فمذ دانت هذه الأمة بالدين الجديد بدأت بالتردي والانحطاط وفقد مزاياهــا القديمة، ولــم تزل تنحط قرنــاً عن قرن، وتتدهور بطناً عن بطن، إلى أن صارت بلاد اليونان ولاية من جملة ولايات الســلطنة العثمانية، ولم تعد إلى شيء من النهوض والرقي إلا في القرن الماضي، وأين هي مع ذلك الآن مما كانت قبل النصرانية؟»

ويضيف شكيب أرســان في كتابه الشهير: «ثم كانت رومية في عصرها الدولة العظمى التي لا يذكر معها دولة، ولا يؤبه في جانــب صولتها لصولة، ولــم تزل هكذا هي المســيطرة على المعمورة إلى أن تنصرت لعهد قسطنطين، فمنذ ذلك العهد بــدأت بالانحطاط مــادة ومعنى، إلى أن انقرضت أولا من الغرب، وثانياً من الشرق، ولم تسترجع رومية بعــد انقراض الدولة الرومانية شــيئاً من مكانتها الأولى، وبقيت على ذلك مدة 15 قرناً حتى استأنفت شيئاً من مجدها الغابــر وما هي إلى هذه الســاعة ببالغة ذلك الشأو الذي بلغته أيام الوثنية...وأيضا فقد تنصرت الأمم الأوروبية في القرن الثالث والرابع والخامس والسادس

من ميلاد المســيح، وبقيت أمم في شرقي أوروبة إلى القرن العاشر حتى تنصرت، ولم تنهض أوروبة نهضتها الحالية التي مكنتها تدريجاً من هذه الســيادة العظمة بقوة العلم والفــن إلا من نحــو أربعمئة ســنة أي من بعــد أن دانت بالإنجيل بألف ســنة، ومنها بعد أن دانت به بســبعمائة سنة، ومنها بثمانمئة سنة .»

وما ينســحب علــى الغربيين ينســحب أيضــاً على اليابانيــ­ن حســب أرســان: «وهــؤلاء اليابانيون هم وثنيون، ومنهم من هم على مذهــب بوذا، ومنهم من يقال لهــم: طاويون، وكثيرون منهم يتبعــون الحكيم الصيني كنفوشــيوس، ولقد مضى عليهم نحو ألفي سنة ولم تكن لهم هذه المدنيــة الباهرة ولا هذه القوة والمكانة بين الأمم، ثم نهض اليابان من نحو ستني سنة وترقوا وعزوا وغلظ أمرهــم، وعلا قدرهم، وصــاروا إلى ما صــاروا إليه ولم يبرحوا وثنيين». بعبارة أخرى، فليترك إذاً بعض الناس جعل الأديان هي المعيــار للتأخر والتقدم، فلا الإنجيل هو الذي أخـّــر روسيا ولا عبادة الآلهة ابنة الشمس هي التي انتشلت اليابان حتى ســبقت روسيا...إن إدخال الأديان في هذا المعترك وجعلها هي وحدها معيار الترقي والتردي ليس من العدل في شيء» حسب أرسلان طبعاً.

وبالرغم من أن شكيب أرســان يرفض ربط التقدم أو التخلف بالأديان، إلا أنه يؤكــد في معظم كتابه على أن لا جدال في أن الإسلام هو ســبب نهضة العرب وفتوحاتهم المدهشــة، لكن الســؤال الذي نطرحــه الآن على العرب والمســلمي­ن هذه الأيام، إلى متى ينتظرون حتى يصبحوا كالمســلمي­ن القدامى الذين حققوا نهضتهم عبر الإســام؟ وماذا لو لم يعد الإســام إلى بلاد العرب والمســلمي­ن كما كان أيــام الأمويين والعباســي­ين والعثمانيي­ن؟ هل يبقون يتحججون بأنهــم غير قادريــن على التقــدم ومجاراة الأمم الأخــرى إلا بعــودة الإســام القديم الــذي حققوا بــه فتوحاتهم وعزتهــم؟ لماذا لا ينظرون إلــى البلاد الأخرى التي حققت إنجازات عظيمة وأصبحت على وشــك قيادة العالم كالصين مثلاً وهي لا تتبع أي نوع من الأديان أصلاً؟ فليبق الإسلام مرشــد العرب والمســلمي­ن الأول، لكن هذا لا يعني أن يبقى المســلمون يتذرعون بالعامل الديني كي يبرروا فشــلهم في التقدم والنهضة من جديد، وليتذكروا بأن الإغريق والرومان كانوا ســادة العالم ذات يوم قبل أن يصبحوا مســيحيين، وليشاهدوا أيضاً أن الغرب حقق نهضته التاريخية عندما فصل الدين عن الدولة، وبالتالي فإن المعضلة الإسلامية لا تكمن في الابتعاد عن الدين بقدر ما هي أزمة أنظمة حكم وديكتاتوري­ة وتبعية وسوء إدارة، وأن الدين منها براء.

ولعل الشيخ محمد الغزالي لخّص مشاكل المسلمين في كتابه «الإســام والاستبداد السياســي» أن بلاد الإسلام في هذا العصر - وفي العصور القريبة الســابقة ـ تواجه نوعين مــن العذاب أحدهما يتمثل في الهيمنة العســكرية الغربية على المنطقــة من المحيط إلى المحيط والآخر يتمثل فــي أن غالبية الحكام تحولوا إلى وكلاء للاســتعما­ر. ولا ننســى طبعاً غياب الأنظمــة الوطنية بعــد أن أصبحت الدائرة الانتخابيـ­ـة للطغاة العرب خارج بلدانهم. ويبدو أن كثيرين مازالوا يعملون بنصيحة الرصافي: «ناموا ولا تستيقظوا ما فاز إلا النوّم». هل من الصواب إذاً القول بعد كل هذا إن العرب تخلفوا بسبب تخليهم عن الإسلام؟

 ??  ??

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Kingdom