Al-Quds Al-Arabi

عن الزجل اللبناني وكتابة التاريخ الشعبي العام

شعرنا المعاصر إلى أين؟ )7)

- ٭ كاتب مغربي

■ رغم الظروف الصعبة التي مرّ منها الشــعر العراقي في العقدين الأخيرين، إلا أن مخيّلة الإبداع لم تفتر، كأنه يتغذّى من تلك الظروف ويُوجّهها لصالحه بما يشبه عزاء الجماليّات التي تنتسجها روحه الخصيبة والُمقاوِمة؛ فقد ارتقــى متنه الإبداعي تنوّعاً، وتوسّــع أفقــه التخييلي، واتسمت تجاربه وحساسيّاته الجديدة بالجرأة الشكلية والطــراوة الفنية، مغتنمــا كلّ ذلك من واقــع التعايش الجيلي، ومن تعدّدية المناخات الشــعرية التي يتدفّق بها مشهده الراهن، ومن بروز أطراف هامشية تستمدّ موادّها الشعرية من تراث بيئات المحلية السوسيوثقا­فية. كرّست قصيدتا العمــود والتفعيلة بحكم قاعدتهما الجماهيرية الممتدّة - ذائقة جمالية عريضة الأطياف، لقصيدة النثر، بدورها أخذت تســتحوذ على المشــهد بلغتها وأساليب كتابتها الخاصة، وبأشكال تخييلها للموضوع الشعري، التي أصبحت تميــل إلى القصر والتكثيــف، بموازاة مع الحراك الرقمي وشرائط تلقّيه.

وإذا كانت الشعرية العراقية باتت تستفيد من انفتاح الجامعة على نصوصهــا الحداثية الأجدّ، وتعرف مواكبة النقد لما يســتجدّ في ســاحتها التي لا تكاد تهدأ، وتغتني من تعدّد مصادر الثقافة الشعرية ومرجعياتها وتجاربها ومنافيهــا ومشــاريعه­ا الترجميّة، فإنّها ـ فــي المقابل - تعاني من الاصطفافــ­ات، وخفوت الكتابات النســوية، وموضوع )العنف( قياساً إلى احتقانات الأمن الهويّاتي. كما لا يمكن قراءة هذه الشــعرية الرحبة خارج التاريخ ومكــره، وأهــواء الأيديولوج­يا، والصــراع الوجودي والثقافي المحتدم بين أجيال الشعراء، بمن في ذلك الجيل الراهن الذي تخلّص من عقدة الحزب والمؤسســة والأب، عالقاً بأحلام التمرّد ومتاهة البحث عن الذات.

حاتم الصكر: نسغ عصيٌّ على الجفاف

مرَّ أكثر من عقدين على مســاهمتي في آخر اســتفتاء شــامل للمشــهد الشــعري العراقي، عدا ما يوجَّه عادة من أســئلة في حوار ثقافي أو ندوة.. كانت تلك مناســبة مفصلية زمنياً هي دخول العالــم الألفية الثالثة. وجرى الســؤال عن راهن الشــعر ومســتقبله وما يمكن توقُّعه من ملامح مســتقبليةٍ. وأذكــر أنني ركزت فــي إجابتي على استحالة توقع مســتقبل القصيدة في أرض زلزالية مهيأة للتحول كالشــعر.. وأكاد اليوم أن أكرر ما قلته من قبل بصدد ذلك. فلا واقع الشــعر اليــوم يمكن أن يعطينا تنبُّؤات عن طقســه وأجوائه المقبلة، ولا النظرية النقدية قادرة على ذلك. فالشــعر يفاجــئ، والقصيدة في كنفه لا تكــفُّ عن المراوغة والتنصل من أبوّتــه، فتخرج من بيت طاعته مســتجيبة لنداءات التجدد الذي يمثل القلب من جسد القصيدة.

أما السؤال عن )أحوال( الشــعر و)أوضاعه(، فهــو يمثــل إشــكالية ملغومة، لاســيما في الحالــة العراقيــة. لقد تخلّص الشــعر العراقي من إشكالات كثيرة على لائحة قراءتــه وكتابتــه. لكن مســتجدات أخرى ســرعان مــا فرضت نفســها في المشــهد. ومما اختفى من ســجال قراءة الشــعر العراقي ثنائية الداخل والخــارج المربِكــة والمحرِجــة، وذات الحمولة السياســية في المقام الأول، التي أضرّتْ بالمشهد الشــعري، بركام من الاتّهامات والتخوين وســوى ذلك، في وقت لم نجــد اختلافاً كبيراً بين النتاجين: مَـْـن هاجر اضطراراً واختيــاراً، ومن ظلّ في العراق لأسبابه وظروفه. فالشعر العراقي في المهجر باستثناء ســمة الحرية في المضامين الشــعرية، لم يغير أسلوبية الكتابة الشعرية، لا بالمثاقفة مع المهجر أو المنفى، ولا باجتراح تعديلات لافتة، ربما لأن الشــعرية العراقية تتغذى من نســغ عصيٍّ على الجفاف في تربتها، حتى في

أشدّ الفصول جدباً.

وهذا ما نتلمســه اليوم أيضــاً؛ فالظروف الســلبية القاهرة لم تحــدّ من انطلاقة الشــعر العراقي، بل زادته تنوعاً ووسّــعت أفقــه، واتســمت التجــارب بالجرأة الشــكلية واللغويــة والإيقاعية، بل في اختيــار المفردة التي لا )تابو( عليها ذاتياً، لاســيما والشــعرية العراقية معروفة بالتعايش الجيلي - وأعني هنا أجيال الشــعر لا الشــعراء - وتعددية المناخات الشعرية، رغم خضوعها لمــا يمكن وصفه بالمزاج الشــعري المســكون بمعايشــة التجارب وحرارة التعبير عنها، بما يشبه أساليب الفنون الرافدينية الأولى حدّةً وكثافة. وإذا كان شــعر الحرب قد أمسى، برؤية ضدّية غالبا، في صدارة اهتمامات الأجيال الشعرية السابقة، فإن )العنف( الذي ضرب السلم الأهلي والطمأنيني­ــة، والتهديد بعودة المشــروعا­ت الظلامية، صار موضوعاً للشــعر في كثير من أصواته المختلفة عمراً وجغرافية. لكنْ لن تخطئ عين المتابع هيمنة كتابة قصيدة النثر على المشــهد بلغتهــا، وبتجنب الموضوع المباشــر وتفتيت عناصره صورياً. فقد اســتقرت الكتابة الشعرية الحداثية، لا باختيار قصيدة النثر بشكل واسع واختفاء الجدل والتردد بصددها فحســب، لكــن بتقديم تلاوين وتنويعات على الموضوع الشعري، والأشكال التي تُكتب بها القصيدة.

يمكن أن نرصــد هنا مَيْــاً واضحاً لكتابــة القصائد القصيرة أو المقطعية التي تغير من نسق البيت أو السطر الشعري المعتاد، وبدلاً من ذلك تم اتخاذ الجملة الشعرية مرتكــزاً بنائياً في هيــكل القصيدة، اســتجابة للحراك الرقمي الذي زجّ بالشعراء في صلة جديدة بالشعر من جهتين:

- كتابته التــي تحتم التلاؤم مع إيقاع الحياة والتغذيــة الفكرية، أو المؤثرات الفاعلة فــي التجارب الشــعرية، ولا شــكّ في أن المنصات الرقمية واقتراح الاقتصــاد والكثافة مما ســيغير نمط الكتابة الشعرية بشكل عام.

- وتلقّيه بالتلاؤم مع إيقاع التواصل أو التلقي عبر القراءة، ما يحتم مرة أخرى ضبط إيقــاع القصيدة مع تلــك العملية التي خضعت للتقنيات الرقمية، وصارت المواقع الإلكتروني­ة والكتاب الإلكتروني سبلاً شائعة للتلقي.

ثمة هبّــة طارئة قلَّ أثرها حاليــاً، تمثلت بالعودة إلى نظم عمودي للقصيدة، لكن بروح تجديدية تعيد للذاكرة تيّار عبدالأمير الحصيري، وتلامذة الجواهري في العمود الذي كفّ عن التزاحم في المورد الشعري، والذي تشجعه المهرجانات الشعرية التي عادت للمشهد، وبسبب طبيعة التلقي الشفاهي للنصوص في هيجاناتها.. لكن الظاهرة الأبرز هي تفتت المراكز الشــعرية الكبرى في الحالــة العراقية، وبروز كتابات من أطــراف جغرافيــة ومجتمعية تؤدي مســاهماته­ا إلى تنوع مطلوب في زوايا الرؤيــة الشــعرية، والاســتمد­اد من بيئات محلية تُغني المادّة الشعرية.

ولا تزال الشــعرية العراقية تعاني من غيــاب الاصطفافات المهمــة الممَّثلة بالتجمعات والجماعات، فلا التقســيم الجيلي يســتوعب اليــوم حالــة الكتابة الشــعرية بســبب حضور الأجيــال متداخلةً في المشــهد، ولا القرابة الأســلوبي­ة تتيح مثــل ذلك. لكن الأصوات تأخذ طريقها للأفق الشــعري العربي بحيوية لافتة.. وبشيء من العالمية ممثلة بالترجمة وحضور قليل لشعراء مغتربين غالباً في لغات الَمهاجِر.

ولا يمكن التغافل عن خفوت وندرة الكتابات النسوية في الشــعر العراقي، مــع أن التعدد الأســلوبي والتمدد المكاني يخدمان الكتابة الشــعرية النســوية وقضاياها،

إلا أنهــا ظلّتْ محافظــةً على بعض التجــارب المعروفة، وإضافات قليلة غير لافتة.

أما الوزنيّون من شعراء العراق فقد واصلوا تجاربهم بكثير من الحذر والتحفظ على الشــعر الســائد بســبب إيغاله في الحداثة، كما يصرحون في مقابلاتهم. وانكفأت تجاربهــم على وزنيــة من نوع مُطــوّر، أستشــعر فيه كمتابع، هفواً للحدّ من التدفق الموســيقي وتهدئة عوامله الخارجية. ولا شــك في أن صمت كثير من شعراء الجيل وانســحابه­م أو ندرة كتاباتهم، تعلن ضمنياً عن تسارع التبدلات الأســلوبي­ة التي لم تعد خطاهم تواكبها. وتبرز كاســتثناء تجــارب التحقت بالحداثة الشــعرية مــن أوســع أبوابهــا دون تحفُّظات، وهو ما فعله شــعراء أجيــال أخرى اســتنفدت الوزنية تجاربهم السابقة التــي انتظمت علــى إيقاع الحماســة والحــروب، قبــل أن ينجوا منهــا أحياءً وينقلوا مشــاهدها إلى الذاكرة، وينصرفوا إلى رحابــة الحياة وتلاوينها. ومما أودُّ تســجيله، انطباعاً بحاجة لدراســة، هو اقتــراب الدرس الأكاديمي من الحداثة الشــعرية بلا محاذيــر أو تحفّظات، فأقبلت الجامعــات اليوم على دراســة تجارب شــابة وحديثة الرؤية والأســلوب، وســمحت لطلبتها بدراستها، دون تحفظ أو حجْرٍ على الأشكال.

كما أقدم النقد الشعري العراقي على التلامس مع تلك التجارب كتابةً وتحليلاً، وتأشــيراً لما يستجدّ من ظواهر في الســيرورة الشــعرية. فالناقد موجود، وقراءته متعددة الأشــكال فــي التنظيــر أو التحليل النصــي. وربمــا أنكــر بعض الشــعراء ذلــك جرياً على عادة الشــكوى المكررة عن )تقصيــر( النقد بحــقّ تجاربهم، لكن ليــس فــي مجمل رصــد الحالة الشــعرية وتأشــير ما تنجزه. والذي أودّ ان أختتــم به في هذه العجالة، هو الإشــادة بتعدّد مصادر ثقافة الشــاعر اليوم ومرجعياتها، فالترجمات، ومراجعة التجارب الشــعرية، وتحفيز مناقشــة قضايا الشــعرية ومفرداتها النصيــة، تعكس تلــك الحيوية الشــعرية التي تغمرني بالتفاؤل، رغم التحفظات المثارة حول ضعف بعــض التجــارب، بفهم خاطــئ للحداثة، ودليلنا هو ثبات الشعراء العراقيين على فضاء شعرهم، وعدم انجرارهم الحماسي صوب الرواية، كبعض أقرانهم العرب مثلاً..

علي حسن الفواز: إغواء الحرية وكراهية الثورة

يحضر التاريخ بوصفه أقســى مُؤثّــرات التمركز في العقل الشــعري العراقي، وربما في وضع الشــاعر، إزاء رهانــات الذاكــرة الصعبة، حيث يجد الشــاعر نفســه إزاء إغــواء لعبة غير محمودة النتائج اســمها التجاوز، والتمتع الكامــل بحرية التخيل والإنجاز، فأســماء مثل طرفة وبشــار وأبي تمام والشــريف الرضــي والمتنبي، تخرج عن عباءتها التاريخيــ­ة لتصنع نوعاً من اللاوعي الموجــع، حيث يختلــط الإشــراق والشــغف بالهيمنة التي تنزع عن الشــعراء رغبتهــم العميقة في البحث عن الفردنة الشــعرية. رهان التاريخ وأيقوناته يقابله رهان الأيديولوج­يا، فهي لا تقلّ رعباً في تأزيم تموضع الشاعر الحُــرّ في اللغة والهوية، لاســيما وأن خيارات الأدلجات الكبرى - الماركســي­ة والقومية - كانت ضيقة ومتعسّفة، وأحياناً تقفل أبوابها على أيّ خيارٍ للتجاوز والاختلاف، ليبدو أحدهم وكأنه البــوق أو الثوري أو المنظّر أو القائد أو الداعية، ورغم نزعة التمرد عند البعض، إلا أنّ الأغلب منهم ظل مســكوناً بهــا، لا يطمئن إلى نزقه الشــخصي،

ولا إلى هواجســه، وحتى بدر شــاكر السياب الصاخب في أعماقه ظلّ مضطرباً وتائهاً بين ثنائية شــاعر «الراية والمتاهة» بتوصيف فوزي كــريم، حيث طالته توصيفات الكراهية، والعزل والخوف في المدينة الملعونة.

أحســب أنّ مرحلة الستينيات والســبعين­يات وحتى الثمانينيا­ت، بدت أكثــر عصفاً بهذا التمثيل الشــعري، فبقدر ما كان عصف التجريب والتمرد ضاغطاً، فإن هيمنة فكرة الانتماء كانت لها حمولتهــا الأخلاقية والنضالية، وحتى الثوريــة، إذ كثيرا مــا تختلط مفاهيم الثــورة بالتجــاوز، و»الوعي الشــقي» برهــاب البحــث القلق عن خيــارٍ لفكّ الاشــتباك الفكــري والوجــودي مع الســلطة العنيفة والقاســية، وحتى شــعراء المنفى عاشــوا هــذا الصراع الوجودي والثقافــي المحتدم، بين لذة الحرية والتمرد، وشجن النوستاليج­يا التــي هي وجــه آخــر للأيديولوج­يا، إذ يحتشــد كثير من قصائد ســعدي يوســف وفاضل العزاوي وفوزي كريم وشاكر لعيبي وهاشم شفيق وعبد الكريم كاصد وآخرين بتلك الهواجس الخفية تارة والمفضوحة تارة أخرى..

المشهد الشعري اليوم مضطرب، فالشعراء مسكونون بالمراودة، لكنهم أكثر قلقاً في البحث عن ذواتهم، فظواهر مثل الاحتلال، والصراع الأهلي، وعنف التاريخ، وتشوه العلاقة مع السلطة والمختلف، بدت وكأنها قرائن ضاغطة مثل التاريــخ والأيديولو­جيا، فالمشــهد لا هوية واضحة لــه، حيث يتجاور برابرة كافافيــس، مع غموض الغابة، وفرجة الســيرك، وقســوة المعســكر والأرض المفخخة. والشعراء يشبهون الكائنات الضالة، يتوهمون اصطناع ميتات فائقــة للتاريخ والأيديولو­جيــا والثورة والأمة، والســعي إلى اســتيهام صعود غير منضبــط للفردنة، ولتوصيف جيل مع جواز هذه التســمية، له حساســيته الرافضة لذاكرة الهيمنات، ولتاريخ الشعراء الآباء، بدءاً من شــعراء الراية وشــعراء الكراهية، وانتهاء بشعراء القاعات الكبرى.

هــذا الجيل، أقصد جيل المشــهد الشــعري، لا بيانات لهم، أســوة بأولئك الشــعراء الآباء، عالقــون بأحلام التمرد، والســكنى في قيم «الحداثــة» أو ما بعدها، حيث سرديات التكنولوجي­ا، وحيث تأسيس المكتبات الرقمية، وحيث التخلي عن رمزية الشــاعر الثائر والقائد، لكنهم أيضا وبحكم عوامل تاريخية ونفســية وحتى سياســية يعيشون متاهة البحث عن الذات، ربما للظروف الصعبة التي عاشــتها العراق بين الاســتبدا­د الطويل والاحتلال الهوياتــي والصــراع الأهلــي، وكلّهــا عوامــل وضعت القصيدة بوصفها مجالاً للتفكير والوجود، أمام تحدّيات خطيرة، مسّت جرفها الصياني، مثلما مسّت روح الشاعر الباحث عن مكانه المتخيّل، وهذا ما جعل شعراء مثل ميثم الحربــي، وعلي محمود خضير، وصفــاء خلف، وإيهاب شــغيدل، وعلي وجيه، ومهند الخيكاني، وعمر الجفال، وصفاء إسكندر، ونورس الجابري، وكاظم خنجر، وأحمد ضياء وغيرهم، يتخلّصون من عقدة الحزب والمؤسســة، لينفروا إلــى الشــارع والتظاهرة والمقهــى، يجاهرون بالرفض العمومي للتاريخ والأيديولو­جيا والأحزاب ذات المسحة التاريخية. إنهم شــعراء «اللحظة الحرجة» على حدّ قول الناقد عباس عبد جاسم.

علاوي كاظم كشيش: النضج خارج محدّدات الشكل

لم يتوقّفْ نهر الشعر العراقي، وهو الرافد الثالث منذ قرون سحيقة، ولم يكن مجراه رتيبا ساكنا، بل يشهد في كل فترة تاريخية دفقا وهيجانا وســرعة وبطأ ليحمل في مجراه هذا، من أنواع القصائــد والنصوص ما لذّ وطاب وأصاب وما أخطأ وســقط وخاب. في الحاضر الآني فإنّ

نهر الشــعر العراقي ما زال يتدفق بالتجارب الشــعرية العريقة منها والفتية والخصبة، التي هي بين بين وتنطفئ حال اشتعالها.

ويحــاول شــعراء عراقيــون جاهدين علــى إغناء الخطاب الشــعري بالجديد من فنونهم، بغض النظر عن تنوّع الأشــكال الشــعرية، فهي لم تعد معيارا للحداثة، بل أن ما يمرّ به العراق مــن احتدام في الأحداث والوعي جعل القصيدة تنهض لا بشــكلها، بل بما تكتنزه من رؤيا وجمالية تعوض الخســارات التــي تدفعها تجاه الحدث الســريع، الذي لا ينطوي على جمالية وحياة ويســبب عرقلة في مســيرتها، ما يعجل في ولادة الأسئلة الشرسة الواعية حول مصير هذا البلد والإنسان فيه.

المتابع للتجارب بما صدر منها خلال العقدين السابقين، يجد أن هنــاك قصيدة عراقية ولدت محملــة بالكثير من الوعــي الجمالي، الــذي يقترب من البيــان أكثر مما كان مقتربا فيه من الهذيان على مســتوى قصيدة النثر مثلا، ومن الإتباعية الباردة على مستوى القصيدة العمودية، أما قصيدة التفعيلة فقد شــهدت انحسارا واضحا كونها مثقلــة بالصنعة والقيــود التي لا تمنح الكلام الشــعري حركة تتيح لــه أن يذهب بالحمولات التعبيرية الجمالية، من دون أن يصيبــه البطء والكــزازة إذا كان متاحا لنا استعمال المصطلح القديم.

تشهد قصائد حسين القاصد وعارف الساعدي وعامر عاصي وعادل الصويري وقاســم العابدي وســواهم من الشــعراء، الذين ما زالوا يرفدون القصيــدة العمودية، بحــرارة اللغة التعبيرية، والصــور اللافتة والعمل على كســر الطوق المضروب حول الكلام الشــعري في الشكل العمودي، حتى أنّ قصائدهم جاءت ساخنة فوارة تحتفظ بحرارة الرحم الــذي أنجبها، بعيداً عن التصنع والتكلف ومواكبة للحدث والمشاعر والرؤى في هذا الآن الساخن.

بينمــا جــاءت قصائــد )ولا أقول نصــوص( عمار المســعودي وحســن جعفر وطالب عبد العزيز وإيهاب شغيدل وكريم جخيور بكلامها الشــعري النثري، وهي تميل إلى طغــراء البيان العربي، بشــعرية عالية وكلام شــعري لا يجانــب اليومي، بــل يندمج معــه بصوفية واضحــة تعمل علــى إعادة اللغــة من الاســتهلا­ك إلى الولادة الأولى؛ بحيث حققوا مفهوماً معاكســًا للانزياح بمفهومه الشــائع. ويمكن القــول إن اللغة في نصوص هــؤلاء الشــعراء النثريين، تولد من جديــد وهي تحمل معها تناقضها الجمالي العالي، من دون السماح للمُخيّلة بالانفلات والتذرع بالهذيان الذي غزا «النثيرة» العربية منذ عقود.

القصيدة العراقية بكلامها الشعري المنظوم والمنثور، ولدت مــن رحم البســاطة، تلك البســاطة التي يمنحها الإبداع بعد عسر واعتمال هائلين موجعين، لنجد أنّ هؤلاء الشعراء لم تأخذهم السهولة بخديعتها ولم يعملوا على نشــر ثمارهم قبل نضجها. وليس مــن المغالاة والتدبيج السريع القول إن شعراءنا حملوا وعي القصيدة وصوتها الذي كان مُســخّراً لغيرها ولغير أن تكون وتنبت، خالية مــن الغائية والغرضيــة، بل هم يعملون علــى أن تكون قصائدهــم نخيلا عراقيا جديرا بالغــرس والإثمار. على أن هذا اللمحة الســريعة لا تغفل كثيــراً من الغرس الذي لم ينبت، ولم يحمل معه شروط سلامة ولادته من قصائد كثيرة كتبت وولــدت وهي تحمل معها أســباب ذبولها، لكونها في الأعم الأغلب كانت ثمرا غير ناضج. وقد صدرت مجموعات شعرية عديدة لم تحقق حضورا وإضاءة على العكس من تجارب الشعراء الذين مرّ ذكرهم آنفاً.

 ??  ??
 ??  ?? حاتم الصكر
حاتم الصكر
 ??  ?? علي حسن الفواز
علي حسن الفواز
 ??  ?? كاظم كشيش
كاظم كشيش
 ??  ??

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Kingdom