Al-Quds Al-Arabi

انتفاضة فـ«انهيار ممسوك» فوصاية مالية دولية

- وسام سعادة

محدودٌ الحيّز الذي يسعُ اللبنانيون فيه التقرير بالنسبة إلى أوضاع وأحوال بلدهم. محدودٌ ومتشظي في آن.

المكابرة على ذلك تُقلّص هذا الحيّز بعدُ أكثر. إذ ليس للبلد «داخل» و»خـارج». لا في السياسة ولا في الأمن ولا في الاقتصاد.

لأجــل ذلــك، لا يمكن أن ينفصل التفكير بتغيير الأوضاع اللبنانية عن التفكير بانتزاع، أي تحقيق، حيّز تقريري أكبر.

وهـنـا تكمن الـصـعـوبـ­ة. فـهـي قـبـل كل شيء معركة انتزاع الحق في تقرير المصير، اقتصادياً وسياسياً، معطوفة على معركة استصلاح أسس التعاقد بين اللبنانيين، بما أن الأشكال المحققة من هذا التعاقد لم توفّر لهم إلا تقليص المساحة التي يقرّرون فيها مصيرهم، بأعمالهم وأفكارهم.

لقد خرجت أعــداد كبيرة من الناس إلى الشوارع والساحات في خريف العام 2019، على أساس أن مصيرها بأيديها. وكانت هذه الانتفاضة الشعبية استثنائية في التاريخ اللبناني، وذات عمق اجتماعي فعلي، في بلد منحاة فيه الطبقات الشعبية منذ وجوده عن دائــرة التمثيل السياسي، رغم استناد هذا التمثيل على الاقتراع العام.

وليس تفصيلاً هنا أن الحزب الشيوعي، القوي الحضور تاريخياً في حال لبنان، ظلّ خـارج أي تمثيل برلماني لـه، هـذا في مقابل تمثّل الشيوعيين في البرلمانات ببلدان عربية ليست لهم هذا القدر من الحضور. وإن كانت نتيجة ذلك، في حال لبنان، ان استُلِبَ اليسار فيه مع الوقت بين نزعتين. واحدة تقول بأنه من الضرورة عمل أي شيء لأجل الوصول إلى الندوة البرلمانية )بحيث لا يعني فيه هذا الوصول دخولاً للطبقات الشعبية(. وثانية تقول بــأنّ عـدم التمثّل المديد هـذا هو صك براءة ثورية من الممكن التشرنق داخلها إلى أبـد الآبـديـن، والحـفـاظ على النقاوة بوجه «المنظومة».

إلا أن مصير اللبنانيين ليس في أيديهم تماماً. وهذا ما «غاب» عن أدبيات وخطابيات 17 تشرين. بالتالي، الأمر لا يمكن أن يختصر عندهم بإسقاط نظام أو «منظومة»، من دون الشخوص إلى العلاقات الداخلية والخارجية التي تجعل مصيرهم خارجهم إلى حدّ بعيد.

ولأجـــل هــذا صعب على هــذه الأدبـيـات التفكير في اندماج لحظة الانتفاضة بلحظة بــدء الانـهـيـا­ر، ثـم كيف أمـكـن للانهيار ان يتواصل لوحده، من دون تأهل الانتفاضة لمواجهة الانهيار في مراحله التالية، الانتفاضة أو «الثورة» كما أسمتها الشريحة الأكثر رغبة في تقليص البعد الاجتماعي لها، أي الأقل ثورية فيها، والمفتونة بنموذج «الثوران غير الـثـوري»، أو الموهومة بـأن نمــوذج «الثورة المخملية» على طريقة براغ 1989 يمكن أن يُعتَمَد في المستعمرات وأشباه المستعمرات.

وما حصل أن الانهيار الذي بدأ متلازماً مع الانتفاضة استمرّ من دونها. ومن دون أن تغيب الحركات الاحتجاجية أو العصيانية تماماً، لكنها لم تعد قـادرة على توليد حالة جماهيرية واسعة، وهو ما يعود أيضاً، وقبل كل شيء، إلى ظروف تفشي وباء كورونا. فمن دون هذا الوباء كان من الممكن تصور مدى أوسع للمشاركة الشعبية، التي حتى لو أنها تراجعت بعد تألقها في تشرين الأول/ أكتوبر وتشرين الثاني/نوفمبر 2019 الا أنها كانت مرشحة لفترات تراجع ثم تجدد متعاقبة. بنتيجة توالي الأحداث، واستعصاء السياسات، واستفحال الأزمـــة. الكورونا لعب دوراً كبيراً في هذا المجــال، وبالنسبة لانتفاضتين شعبيتين متزامنتين، في سياقين مختلفين إلى حد بعيد: لبنان وتشيلي.

تشيلي التي انفجرت فيها الانتفاضة لأن البلد ككل ازداد غنى، والفقراء فيه ازدادوا فقراً، في حين انفجرت الانتفاضة في لبنان لأن البلد دخل منذ سنوات في مرحلة «صفر نمو»، أي ازداد فقراً كبلد، وفي نفس الوقت أتيحت لمصارفه ان تـزداد غنى، وللمودعين فيها ان يزدادوا غنى، قبل أن ينكشف لهؤلاء المـودعـن، وبخاصة من لم ينجح منهم في سحب وديعته قبل الانهيار، أي الأكثرية منهم، ومن لم يكن بمستطاعه نقل أمواله إلى خارج البلد - وقسم لا يستهان به من الأوليغارش­ية المحلية قام بذلك، مضاعفاً من هول الانهيار نفسه بالنتيجة - ولا يزال البلد إلى الآن لا يستطيع سنّ «كابيتال كونترول».

بيدَ أن الأثـر اللاجم بهذه القوة للحركة الشعبية بفعل فيروس كورونا ما كان ليكون بهذا القدر لو أنّ هذه الحركة الشعبية كانت لها خبرة تراكمية تمتد إلى سنوات. والحال أنها لم تنشأ عن تراكم، بقدر ما نشأت عن صدمة، صدمة بـأن «التثبيت الأبـــدي» منذ مطلع التسعينيات، لسعر صرف الليرة مقابل الدولار كان وهماً كبيراً ومدمّراً، يجعل الناس تدفع بالمفعول الرجعي، ثمن ربـع قـرن من التضخّم الفعلي لهذا الوهم الكبير.

لقد دخل البلد في خريف 2019 في مسار انـهـيـاري شـامـل، إنـطـاقـاً مـن أزمـــة «شـحّ الدولار»، أي تقلّص التغطية الدولارية لاقتصاد مدولر، وما ترتب على ذلك من انهيار لسعر صرف عملته الوطنية في مقابل الاستمرار إلى الآن في التثبيت «الرسمي» لها، ما يجعلنا حالياً في وضع يكون فيه سعر الصرف بين ثمانية وعشرة أضعاف سعره «الرسمي»، في بلد لا يفترض بحسب تقيده باقتصاد السوق أن يكون لعملته من الأساس سعراً غير سعرها كسلعة في السوق.

لكن، منذ ذلـك الخريف إلـى يومنا هذا، تستخدم أسعار الليرة مقابل الدولار المختلفة لتكبيد فواتير الانهيار للناس، بتقليص قيمة مـا لها. فيما يحافظ الانهيار على طابعه «المــمــسـ­ـوك» مــن خــال اسـتـمـرار المصرف المركزي في دعم المحروقات والأدوية وجزء من الواردات بكل هجانة الحديث عن «انهيار ممسوك»، والايضاحات المتكررة لحاكمية «مصرف لبنان» بأنه لن يكون قـــادراً على الاستمرار بذلك أطول من بضعة أشهر. في بلد ينتظر فيه، بلا طائل على ما يبدو، تشكيل حكومة متعثر تشكيلها منذ ثمانية أشهر.

متعثر تشكيلها لأن مهمتها من الأساس متعثرة ما لم تكن مختلفة جذرياً عن نموذج الحـكـومـت­ـن الـسـابـقـ­تـن، نمـــوذج حكومة «الـتـسـويـ­ة» الـتـي اسـتـقـال رئيسها سعد الحريري تحت ضغط الشارع المنتفض في تشرين 2019، ونمـوذج حكومة التكنوقراط المائلين إلى حضن الممانعة التي قامت بعد ذلك، والمستقيلة تحت ضغط عصف انفجار المرفأ في آب/اغسطس 2019.

لقد مضى عام على إعلان حكومة حسان دياب التوقف عن تسديد سندات اليوروبوند )سندات الدَّين السيادي المقومة والمخرّجة بالعملة الصعبة(، من دون أي منهجية واضحة يمكن أن تدفع باتجاه إعادة هيكلة الدّين العام، وأقل من عام بقليل على تقدّم نفس الحكومة بطلب مساعدة من صندوق النقد الدولي، بقصد نيل ديون جديدة للخروج من كابوس الدَّين لخدمة الدَّين! البلد فعلياً واقع من يومها

في وضعية «المتحضّر نفسياً» للوصاية المالية الدولية.

والتحضّر النفسي للوصاية المالية الدولية اتخذ شكل نـوبـات متتابعة. بــدأت بنوبة «تحديد الخسائر» أمام صندوق النقد، وبما أظهر أن ثمة انشقاق بين حكومتين في البلد.

واحــدة هي حكومة ديــاب، المستقيلة في إثر انفجار «الدمار الشامل» بالمرفأ وبيروت (4 اب/أغسطس 2020(، انمـا التي لا تزال تواظب «مرغمة» على تصريف الأعمال، وتمنّي النفس في الوقت عينه بإعادة «تفعيل» دورها، دون تغطية دستورية لمثل هذا. والثانية هي الحكومة الموازية، أي حاكمية مصرف لبنان وجمعية المصارف.

الأولـــى، تقنع نفسها بــأنّ وراء الانهيار المالي عملية إغراق للبلد بدوامة احتيالية على غرار «سلاسل بونزي» الفقاعية. وأنه كما في النموذج التقليدي لهرم بونزي تنفجر الفقاعة عندما تحين الضربة النهائية لعملية الاحتيال، فيهرب النصّاب بما جمعه من الناس، الذين أوهمهم باستثمار أموالهم، يوم كان يسدد لهم الأرباح الوهمية من الأموال التي تتكدس عنده من المقبلين الجدد عليه طلباً لهذه الأرباح السهلة. وهكذا، تجاوز حسان دياب قبل عام شعار «عـودة الأمــوال المنهوبة» الـذي يشير عادة إلى الأموال المصادرة من الدولة أو من الناس نتيجة «الفساد» إلى خوض المعركة ضد «الأموال المهرّبة»، وفي باله نموذج بونزي.

بيد أن تشبيه الحــال بسلسلة بونزي متى تعدّى حدّ المجاز والاستعارة تحوّل إلى غشاوة تمنع الرؤية. التفسير «التحايلي» لأزمة المصارف وخروج الرساميل من لبنان، مثله مثل التفسير «الفسادي» للانهيار الاقتصادي: تفسيران تسطيحيان يقصيان حركة الدوران المالي عن الدورة الاقتصادية مأخوذة ككل.

أمــا الحـكـومـة الثانية، كونسورسيوم المصرف المركزي وجمعية المصارف، فتبنت اخـتـزال تضليليّ آخــر. أنها وظّفت أمـوال مودعيها، مـن خــال إقـــراض هــذه الأمــوال للدولة، كسندات خزينة، ما سمح للمودعين بفوائد عالية، وبالتالي أمـــوال المصارف والمـودعـن عالقة لـدى الـدولـة التي وصلت بانفاقها غير المتحسب، وتراجع ايراداتها، إلى ما وصلت اليه. وبالتالي هي لا تراجع فيما تسببه الإنفاق العام غير المتحسب والممتلئ هـدراً وفساداً. هي كانت تعيش عليه وتمدّه بأموال الناس، وتوفر لهم فوائد عالية منه، والآن هي ضحيته.

ولأجــل هــذا مـا تـريـده هــذه المـصـارف ان تساعدها هــذه الــدولــة، ممثلة بالمصرف المـركـزي، بتخفيف الوطأة عليها من خلال القص غير الرسمي الودائع، بواسطة «لعبة» الأسعار المختلفة للعملة )السعر «الرسمي»، وسعر «المنصة»، وسعر السوق السوداء(، وبالتطلع إلــى رهــن أصــول الــدولــة، بمعية «صــنــدوق ســيــادي»، يتبع لسيادتها هي كمصارف. أما المصرف «الأبـوي» عليها، أي المصرف المركزي، فيضغط عليها في المقابل لرفع رأسمالها، ثم يساعدها «من كيسه» على تتميم ذلك.

تعاركت هاتان الحكومتان في ربيع العام الفائت، على خلفية التقدم لدى صندوق النقد، لأن المصارف تريد تحديداً أقل للخسائر أمام الصندوق، أيضاً كي تكون قادرة على تحديد أرباحها في السنوات الماضية بشكل أقل.

والحال أن نموذج سلسلة بونزي لا يسمح أبداً بفهم مسألة أساسية. في هذا النموذج، من يقوم بالاحتيال يجمع الأموال ويهرب. أما المصارف فإنها لا تزال تتعامل مع البلد على أنّه إقطاعة لها، ومع الدولة على أنها دولتها، ومع مشكلة هذه الدولة أنها لم تكن مخلصة لها كمصارف!

تراكمت النوبات التحضّرية للوصاية المالية الدولية بعد ذلك. وهي في الوقت عينه نوبات احتضارية للجمهورية الثانية التي تأسست على قاعدة «البلد ممسوك وغير متماسك» في ظل نظام الوصاية السورية، وها انها اليوم تبتدع «انهياراً ممسوكاً حتى إشعار آخر..» ممسوكاً من خلال تكريس ثنائية الحكومتين، حكومة المصرف المركزي رغم شبح «التدقيق الجنائي،» وحكومة تكنوقراط الممانعة، رغم استقالتها منذ ثمانية أشهر. في السياق التحضري للوصاية المالية الدولية «الناجزة» عاد البلد فاكتشف للمرة الألف أنه بدستور يمكنه ان يبيح أوضاعاً لا أصل لها في القانون الدستوري بحد ذاتـه. كمثل الوضع الحالي بين رئيس مكلف تشكيل حكومة لا يمكنه ان يشكلها دون توقيع رئيس الجمهورية، وبين رئيس جمهورية لا يمكن ان يسترد التكليف مـن المكلف ولــو استمرت الحــال على هذا المنوال. وتوازياً مع كل هذا يأتي كلام أمين عام «حزب الله» ليظهر معضلة أخرى عشية الوصاية المالية الدولية الشاملة: حكومة تطبق «إصلاحات صندوق النقد» من دون وجود الحزب، والأحزاب فيها، ستكون حكومة غير قادرة على انجاز أي شيء، وحكومة حزبية

لن تطبق كيفما كان هذه الإصلاحات في نفس الوقت. بيد أن الشق الآخر هنا حكومة حزبية لم تعد مغطاة دولياً لتكون الطرف التنفيذي لهذه الإصلاحات من الأساس.

ما الذي يمكن فعله من قبل الناس والبلد يتجه بهذا الكوم من المكابرات والنوبات والتشظيات والانـــسـ­ــدادات نحو وصاية مالية دولية كاملة؟ لا شيء أبداً قبل مغادرة مجموعة أوهام.

وهم بأنّ هناك خيار بين وصاية مالية دولية وبين نقيضها. من يبيع هذا الوهم يكذب على نفسه. كيفية تحسين شروط المواجهة في ظل الوصاية المالية الدولية مسألة أخرى.

وهم أنه ليس في لبنان دولـة. بلى، وهي مشكلة المشاكل فيه، دولة مركزية «ضخمة» ولا اجتماعية في نفس الوقت. لا اجتماعية ومتفاوتة الحضور بين الطوائف والمناطق.

وهم أنه ليس في لبنان رأسمالية. بلى، في لبنان رأسمالية، وليس شرطاً للرأسمالية ان تكون مثالية. فيه أحط شكل للرأسمالية. ولا أفق وطني للبنان من دون التفكير بالخطو باتجاه جمهورية اجتماعية منحازة لمصالح العدد الأكبر من الناس، وتعيد توزيع الثروة في حركة دوران الاقتصاد نفسه، بالتداخل مع دخــول الطبقات الشعبية إلـى التمثيل السياسي، ومع تفكيك البنية المركزية للدولة القائمة التي هي هي القاعدة الفعلية لرأسمالية الدولة الأوليغارش­ية، الدولة المسخّرة لمصلحة القلّة. في المقابل، الوصاية المالية الدولية ستجعل تحقيق كل هذا أصعب، وليس أسهل، لأن تفكيك القطاع العام اللبناني الضخم من الممكن أن يؤدي إلى تفكيك البلد كله في أوضاعه الحالية.

وهم أن مشكلة حزب الله كباقي المشكلات، أو كسابق النزعات التغلبية في تاريخ البلد. أبداً، هي مشكلة لا حل لها من دون طرق باب أسـس التعاقدات الاجتماعية والسياسية القائمة بين اللبنانيين، وأسس التناغم الثقافي فيما بينهم. انها مشكلة انقسام عميق. ومشكلة دينية بكل معنى الكلمة وليست فقط مشكلة سياسية.

وهــم أنــه يمكن غــض الــطــرف عــن باقي المشكلات بحجة التركيز على التناقض مع حزب الله. غير ممكن وغير صحيح، وهذا ما قوى الحزب على الدوام.

 ??  ??

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Kingdom