Al-Quds Al-Arabi

ميزانية العراق 2021 تنظيم الموارد والنفقات أم بيع وطن بالمزاد؟

-

بغداد ـ «القدس العربي»:

أقر البرلمان العراقي ميزانية 2021 بعد ولادة عسيرة استغرقت وقتا من السجالات والصراعات والخلافات بين القوى السياسية من أجل استغلال بنودها لتحقيق أهداف ومكاسب سياسية واقتصادية تخدم الأحزاب أكثر مما تفيد الشعب، وسط مخاوف من وجود بنود لها تبعات سلبية على الاقتصاد العراقي.

فبعد عدة اخفاقات في البرلمان لعقد جلسة تمرير الميزانية، ومئات الاجتماعات بين القوى السياسية المتنافسة، تم إقرار ميزانية 2021 البالغة نحو 90 مليار دولار بعجز تجاوز 19 مليار دولار، حيث أشارت اللجنة المالية النيابية ان العجز فيها يمكن أن يسد عبر الفرق بين سعر برميل النفط المحدد في الميزانية بـ45 دولارا والسعر الفعلي الذي يباع به النفط حاليا )نحو 64 دولارا( مع تثبيت سعر صرف الدولار حسب طلب الحكومة عند 1450 دينارا لكل دولار.

وخلافا لدول العالم فإن مناقشة برلمان العراق، لميزانية 2021 منذ أكثر من أربعة أشهر، لم تكن قضية مالية واقتصادية فقط، بل هي موضوع سياسي بامتياز، بسبب الخلافات والابتزاز والمساومات بين الكتل السياسية المتصارعة على الامتيازات الخاصة بها في بنود الميزانية، من خلال إقحام بنود معينة فيها، واستثمارها سياسيا واقتصاديا لصالحها، وسط اتهامات بأن تأخير الميزانية كان لأسباب سياسية تراعي مصالح قوى محلية وإقليمية.

وكانت أبرز نقاط الخلافات التي عطلت تمرير الميزانية، تتركز حول حصة إقليم كردستان، وسعر صرف الدولار، والقروض الخارجية لسد العجز، والضرائب على الرواتب والخدمات وطلب بعض القوى السياسية إضافة أو حذف مواد لتحقيق مكاسب سياسية واقتصادية لها.

وقد صوت البرلمان العراقي على حذف المـادة 20 من قانون الموازنة الخاصة بفرض ضريبة دخل واستقطاع في رواتب الموظفين والمتقاعدي­ن حسب طلب الحكومة، لسد العجز. وبدل ذلك فرضت الميزانية ضرائب جديدة على السكائر والمشروبات الكحولية، ورسوما على السفر بالطيران وخدمات الإنترنت والموبايل، وخدمات أخرى.

وأوقفت الميزانية تعيين موظفين جدد عدا حالات ضغطت الأحزاب لتضمينها في الميزانية، ومنها توظيف 30 ألفا في الحشد الشعبي، وتثبيت بعض الموظفين المتعاقدين الضروريين كالأطباء الذين لديهم خدمة خمس سنوات وأكثر في الوزارات والدوائر.

المساومات والابتزاز في مواد الميزانية

وشهدت مناقشات الميزانية في أروقة البرلمان العديد من الخلافات بين القوى السياسية حول بنودها، وتم تجاوزها في النهاية والتوافق بينها على تمرير البنود وفق مبدأ أوافق على هذه الفقرة مقابل موافقتك على الفقرة الفلانية، وكل فقرة تخدم جهة معينة.

وجاء اتفاق البرلمان على حصة إقليم كردستان بعد تعهد الأحزاب الكردية بتمرير بنود أخرى، كما وافقت كردستان على تسليم 450 ألف برميل من نفط شمال العراق، وبعض واردات المنافذ الحدودية والضرائب، إلى حكومة بغداد مقابل الحصول على رواتب موظفي الاقليم ونفقات حكومته، حيث قبلت حكومة الإقليم بالاتفاق مضطرة لحل أزمة رواتب موظفيها التي تهدد بعودة التظاهرات الاحتجاجية.

وفيما طلبت بعض الأحزاب زيادة مخصصات البطاقة التموينية، الذي اعتبره المطلعون غطاء لفساد متواصل، فإن بعض النواب كشفوا ان تمرير فقرة اعتبار ضحايا عبارة الموصل شهداء ومنحهم تعويضات مالية إضافة إلى تعويض المغيبين في المناطق المحررة، مقابل عدم الاعتراض على إعادة مخصصات لاجئي رفحا وضم 30 ألف عنصر إلى الحشد الشعبي، وتمرير قانون المحكمة الاتحادية مقابل تمرير حصة الإقليم. ووجه بعض النواب اتهامات للحكومة بارضاء التجار والمصارف الأهلية القريبة من الأحزاب وتعويضهم بمبالغ مالية كبيرة مقابل رفع أسعار صرف الدولار.

أما لعبة المطالبة بتغيير سعر صرف الدولار فكان الهدف منها توجيه الرأي العام لإلقاء اللوم على الكاظمي. علما بأن سعر صرف الدولار هو ليس من اختصاص البرلمان وانما محصور بالبنك المركزي العراقي، كما ان الكاظمي أعلن ان رفعه تم باتفاق حكومته مع الأحزاب والقوى السياسية. ورغم ان قرار رفع سعر صرف الدولار ساعد الحكومة إلا انه أضر بملايين المواطنين والموظفين، كما أدى إلى ارتفاع أسعار السلع والخدمات، مما جعل بعض الأحزاب تستغل ذلك لانتقاد الحكومة وكسب الشارع. ووصلت المزايدات على سعر الصرف الجديد ضمن الموازنة إلى حد الانتشار المسلح وسط العاصمة بغداد وتهديد الحكومة والبرلمان، من قبل ميليشيا «ربع الله» بتأييد من أغلب الكتل الشيعية. وهو ما دفع رئيس المؤتمر العام لتيار الحكمة حميد معلة، ان يعلن ان «زج السلاح بالموازنة بدعة جديدة ينفرد بها العراق، وهو أمر غير مقبول، لأن السلاح المنفلت يمثل ظاهرة خطيرة ويضعف هيبة الدولة».

وكالمعتاد، فإن الميزانية كانت مناسبة هامة لتأجيج الخلافات والصراع الشيعي الشيعي، حيث تبادل التيار الصدري وكتلة نوري المالكي والفصائل المسلحة، الاتهامات بعرقلة تمرير الميزانية ومحاباة الحكومة، وذلك لكسب الشارع الشيعي قبل الانتخابات، إضافة إلى اعتماد البعض سياسة لي الأذرع لتمرير الموازنة، إذ اقر عضو اللجنة المالية النيابية، جمال كوجر، إن «هناك إرادتين في الدولة العراقية، إرادة لا تريد للانتخابات أن تجري ولا لهذه الحكومة أن تنجح، ولا أن تقر الموازنة ولديها الحجج، مثل حصة الإقليم، وسعر صرف الدينار العراقي، وعدم العدالة في التوزيع، وهذه كلها حجج وليست واقعا أو خلافا حقيقيا».

بيع أصول الدولة

إلا ان أخطر ما كشفت عنه مناقشات الميزانية، هو وجود نوايا لدى بعض القوى السياسية لاستغلال الأزمة الاقتصادية في البلد ووجود عجز في الميزانية، من أجل بيع أصول الدولة إلى القطاع الخاص والتجار وحيتان الفساد، خدمة لمخطط إقليمي للهيمنة على موارد العراق.

فبعد حملة انتقادات واسعة في وسائل الإعلام ومواقع التواصل وتحذيرات من خطورة بعض المواد التي طلبت الحكومة إدراجها ضمن الميزانية لبيع أصول الدولة أو عرضها للاستثمار) أراضي ومشاريع وعقارات وشركات وغيرها( فقد تم إلغاء المواد 41 - ‪43- 42‬ 47- 48 - 38 من قانون الموازنة، حيث تتيح تلك المواد للحكومة بيعها إلى القطاع الخاص الذي هو واجهة للأحزاب الفاسدة المتنفذة ولدول إقليمية.

المحلل السياسي الدكتور قحطان الخفاجي، حذر العراقيين من تمرير المادة 47 والمواد المماثلة الأخرى ، واصفا اياها «الجريمة المميتة ضد الدولة والأجيال القادمة» مشددا «إذا مررها البرلمان ستؤذن بالشروع في بيع كل أملاك الشعب، فمصانع الشعب وممتلكاته وموجوداته هي للشعب وليس للحكومة، وان بيع موجودات الدولة ستنهي العراق كدولة وتجعله رهينة بيد من سيشتري، الذي سيتسلط على العراق وأهله.» وحذر من «ان من سيشتري ليس تاجرا أبدا، فالحقيقة والواقع يؤكدان أنهم أعداء العراق، تحت غطاء شركات وتجار» متهما حكومة العراق «بالارتهان لأطراف إقليمية تضمر الحقد لنا.»

ورغم عدم تمرير مواد بيع أصول الدولة في البرلمان، إلا ان الحكومة تواصل خطتها بتشجيع الاستثمار الأجنبي في العراق، حيث أعلنت وزارة الزراعة انها تشجع الاستثمار في الأراضي الصحراوية، وان هناك الكثير من المساحات المعدة والمهيئة للاستثمار سواء المحلي أو الأجنبي، مشيرة إلى وجود عروض سعودية وصينية لاستثمار الصحراء. وقوبلت هذه الخطوة بانتقادات حادة من القوى التي طالبت الحكومة بتشجيع الاستثمار المحلي واستغلال الأيدي العاملة العراقية التي تشكو البطالة والفقر، مع توفير مستلزمات النهوض بالزراعة والصناعة التي تستطيع سد الكثير من حاجات السوق المحلية، إذا توفرت لها الإدارة الوطنية المخلصة، خاصة وان العراق فيه خبرات متنوعة وثروات كثيرة.

ولا شك أن مناقشات الميزانية كشفت حقيقة العقلية الحاكمة في العراق، ومدى خطورة هيمنتها على السلطة التي يمكن ان تلحق الضرر الفادح والتدمير بالاقتصاد العراقي، عندما توظف الأحزاب فقرات الموازنة وثروات البلد لخدمة مصالحها وأهدافها، حتى عندما يكون لها نتائج وتداعيات خطيرة على اقتصاد البلاد الآن ومستقبلا. ولعل الفقرات التي تم حذفها من الميزانية وإصرار الحكومة وأحزاب السلطة على سياسة خفض سعر صرف الدينار مقابل الدولار وما أسفر عنها من نتائج كارثية وإشعال الأسعار في الاسواق، كشفت حقائق خطيرة، وعززت مخاوف العراقيين من ان القوى السياسية المتحكمة بمقدرات البلد، لديها الاستعداد لاتخاذ كافة الإجراءات الاقتصادية والسياسية لحل الأزمات الاقتصادية على حساب الشعب ومصالحه ومستقبله، ولكنها لا تقترب من مصالح أحزاب السلطة وامتيازاته­ا المالية، ولا تمس خطوطها الحمراء، ومنها الموارد المالية الهائلة التي تحصل عليها المكاتب الاقتصادية للأحزاب عبر حيتان الفساد، واستغلال موارد المنافذ الحدودية والموانئ، وتهريب النفط والعملة الصعبة، وتسخير كل موارد الدولة لإشباع جشعها الذي لا يعرف حدودا، ولو كان على حساب لقمة الشعب ومستقبل الوطن.

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Kingdom