Al-Quds Al-Arabi

حماية القراءة

- ٭ كاتب سوداني

■ منــذ ســنوات، وأنا أشــير في كل ســانحة، إلى ضرورة تشــجيع القراءة، وذلك باستخدام كل وسيلة ممكنة، لأن القــراءة كما هــو معروف، هي وســيلتنا لاكتســاب المعرفة، والخروج من ظلام قد نكون نصنعه بأنفسنا، بسبب عدم إدراكنا لكثير من الأمور.

ومن متابعة موضــوع مثل التطــرف الديني، الذي لاحظناه عند كثير من الشــباب، في السنوات الماضية، واســتعداد­هم المطلــق للموت بلا معنــى حقيقي لذلك الاستعداد، ندرك أكثر ضرورة محاربة الجهل بالمعرفة، أي بالقراءة الجيدة.

بالطبع لا أعني قراءة الروايات والقصص والأعمال الإبداعية عموما، لكن كل ما يقود إلى المعرفة الحقيقية، التي تنظف المخ من الشــوائب، وتكسب الروح نشاطا جيدا، نعــم فالقراءة الجيــدة، رياضة جيــدة للذهن والروح ومكسب حقيقي لا بد من السعي إليه.

من المبادرات الجيدة لتشجيع القراءة، الانخراط في مجموعات شــبابية، بدأت تنتشــر مؤخرا، حيث يتفق الأعضاء على قراءة كتاب معين، ومناقشــته بعد ذلك، وأحيانا يســتضيفون المؤلف نفســه، ليرى ويسمع ما اســتخلصه الآخرون من مؤلفه، ويدلــي برأيه معهم. إنه نشــاط مميز لم يكــن متوفرا قديمــا، حيث كانت مناقشــة الكتب أكثــر غرورا، حين يأتــي المؤلف ومعه نقاد يعرفهم، ليجلس على منصة وســط حضور معين، قد لا يكون معظمهم قرأ الكتاب موضوع المناقشــة، تتلى الدراســات النقدية، ويتحدث المؤلف قليلا عن كتابه، كيف اســتوحاه، وكيف كتبه، وإن كان يرى أنه مهم في تجربته أم لا؟ وينتهي كل شيء.

أنا أرى أن مناقشــة القراء للكتاب، أكثر جدوى من وجود نقاد يتحدثون ومســتمعين، ربما كان فيهم قراء، لكن فــي الغالب، مجــرد متابعين ســطحيين للثقافة، يقضون بالوجود في تلــك الندوات، بعض الوقت، هذا بالطبــع لا يعنــي أن نترك تلك المنصــات، ونتبعثر في مجموعات القراءة، لكن نحاول تقريبها من واقع اليوم، حيث لا بد من مشــاركة القارئ بصــورة أكثر جدية في الحياة الإبداعيــ­ة، ولن أبالغ إن قلــت لا بد من وجود القارئ حتى في لجان الجوائز، التي انتشرت أيضا في السنوات الأخيرة.

أذكر في الثمانينيا­ت، أن حضــرت ندوة في «أتيليه القاهرة» لكاتب عربــي كبير، كان يزور القاهرة في تلك الفترة، كنت في البدايات، وحضرت الأمســية مصادفة حين أقيمت، وأنا موجود فــي الأتيليه، وكانت مصادفة أيضا أنني قرأت الرواية التي تمت مناقشتها، وللحقيقة لم أحس بأنهــا كانت ندوة مثمرة، جاء الكاتب بصحبة ثلاثة نقاد، جلســوا علــى المنصة، وتحدثــوا حوالي الســاعة ونصف الســاعة، وانتهت الندوة وكانت في حلقي أسئلة كثيرة بشــأن الرواية، لم أستطع طرحها، وأصلا لم تكن ثمة فرصة لطرحها، بعد سنوات من ذلك التقيت بالكاتب فــي أحد المهرجانات العربية، وطرحت أســئلتي عليه، وكان أن رد عليّ بأنه تجاوز ذلك الطرح كثيرا، وعليّ أن أقرأ نصوصه الجديدة.

من المبادرات المهمة أيضا لتشــجيع القراءة، إنشاء مكتبات فــي الأحياء، والأماكن العامــة، والمقاهي التي يرتادها الشــباب، وهذه مبادرة موجودة، لكن بصوت خافت، حيث نجد بعض المقاهــي الحديثة، في عدد من الــدول، تضم مكتبــة في أحــد الأركان، يمكن للجالس أن يســتعير منها كتابا، ويرده بعد نهاية جلوسه، هنا ليس ثمة عمق كبير في تناول القراءة أو المعرفة، بسبب قصر الوقت الذي قد يقضيه الشــخص مع الكتب، لكن مجرد تعويد اليد على تناول كتاب، والعين على تســلق الصفحات، مهم جدا للاستمرار، ومشجع لاقتناء الكتب في ما بعــد، وقد عمل بعــض المثقفين علــى ربط مقاه افتتحوها خاصة، بالإبداع، حيث توجد القهوة، وتوجد المكتبة، وتوجد قاعة للندوات، مثلما فعل الزميل جمال فايــز في الدوحة، بإنشــاء مقهى كهذا، ســماه «المقهى الثقافي» لكن مثل تلك المشاريع، تحتاج بلا شك إلى دعم كبير من أجل الاســتمرا­رية، خاصة أن أصحاب المباني التــي تؤجر لتلك الأغــراض، لا يفرقون بين اســتثمار تجاري، واستثمار ثقافي.

أعتقد، وبعد أن أزعجنــا كوفيد 19، كل هذا الإزعاج، وزرع في النفوس التي يتحاوم حولها، ويتغلغل فيها، إما المــوت، وإما كل أنواع الإحبــاط، لا بد أن ننتبه إلى ضــرورة حماية القــراءة، وحماية منابــع المعرفة من الجفاف، هناك كثيرون ماتوا، كثيرون فقدوا وظائفهم، وكثيرون انخفض دخلهم، بحيــث أصبح وجود كتاب جديد فــي البيت، نوعا من الترف الــذي لن يقدر عليه كثيرون.

وحتى فــي أكثر الدول احترامــا للكتاب، انخفضت المبيعات، وانخفــض عدد الراغبين في قــراءة الكتب، وشــخصيا ألاحظ ذلك من الأســئلة التي تــرد للكاتب بمجرد أن يعلن عن قــرب صدور كتاب، أو صدور كتاب بالفعل، حيث أن معظم الناس يســألون إن كانت توجد نسخة مجانية في الإنترنت؟

هذا الســؤال يلغي مجهود الكاتب ومجهود الناشر، الــذي تكفل بطباعة الكتــاب، ويؤكد عــدم الرغبة في اقتناء الكتاب في ظل هذه الظروف، ما لم يكن مجانيا، وحقيقة لا تســتطيع أن تلوم أحدا على تفكير كهذا، هو صادق على الأقل في سؤاله.

الشــيء المطلوب في رأيي للرد على سؤال كهذا، هو توفير نسخة ورقية شعبية بســعر زهيد، يتناسب مع الجميع في أي بلد غزته حمى الشظف، وتعثرت موارده الاقتصادية إما بسبب الجائحة، وإما بسبب الحكومات الفاسدة، كما حدث في الســودان قبل الثورة المجيدة، نسخة لا تحتاج إلى ورق فاخر، ولا غلاف مزركش، ولا ملمس حريري، نسخة تحوي نصا فقط، يقرأ للمتعة أو المعرفة، وأظن أن هذا ممكن، وتوجد دور نشــر أعرفها مثل «دار البشير» في مصر، و«دار الفرجاني» في لندن، مستعدة للتعاون في هذا الشأن.

نريد حماية القراءة، وأتمنى أن ننجح.

 ??  ?? أمير تاج السر *
أمير تاج السر *

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Kingdom