Al-Quds Al-Arabi

من القيمة إلى السلوك: تأملات في الكذب الأسود

-

■ لقد وصلت إلى هذه المرحلــة المحيرة، إذ كلما قرأت كتابا/ مقالة/ بحثا، أو دراســة، أســمع صوت الخواء يصخب في داخلي، كلما حاولت ردمه ازداد عنفاً. أحيانا أقول: ربما لأننــي لا أركّز اهتمامي في نقطــة واحدة، إنما أميــل إلى التداعــي في النقاط البعيدة والمتباينة، التي لــم أر لونها من قبل. لكنّي أعــدل عن رأيي هذا، بعدمــا أدرك أن هناك معرفة لا حدود لها، وموضوعات لا تنتهي، ولو كُتِب لإنسان ما الخلود، لما تعطلت مكائن استمرارية إنتاج المعرفة والأفكار الخلّاقــة. إذن هي محاولة لإمســاك الماء، وأعترف أنه ســلوك صبياني وشــعور غير ناضج، خصوصا ونحن نعيش في عالم التخصصات داخل التخصصات نفســها، بل تخصصات في دقائق فرع لتخصص أشمل.

لكنّه مــع هذا شــعورٌ يمنحك معرفة إنســانية، تلك المعرفة التــي تنتمي إلــى التجريب والخوض والممارســ­ة، تلــك الأبعد مــا تكون عــن الجاهزية والقالب، عن الحكمة الموروثة والتنشئة الاجتماعية والثقافية، تلك التي تضيء فــي داخلك بلون تألفه وحدك، ليس لأنها مســتحيلة النشوء، أو الحدوث، إنما لأنها تلك اللحظــات، حيث تولد فيك موجة جديدة صغيرة، تخالــط أمواجك الأخرى على اختلافها، وتعطيك أفقاً مستنداً إلى ثقة مبررة، فقد عرفت جيدا كيف تصبح إنســانا متواضعا، كما لو أنك ولــدت بهذه الصفة، ولم تكتســبها من جــراء الإصغاء إلى الأجــداد والجدات، ولا إلى المتناثــر من الأمثولــة. وبالتأكيد ليس لأن التواضــع صفة محمــودة، فينتهكه الطامحون والجشــعون والانتهازي­ون، على حد ســواء، كي يجذبوا الناس إليهم عبر ســلوك ســطحي يشبه الثياب لا يشبه الجلد. لأنها قابلة للتبديل والخلع، واختيــار الوقت المناســب لارتدائها، بينما الســلوك الناتج من الداخــل، من تفاعل التجربة وانصهار السابق من المعرفة بالجديد، هو ما يمنح الذات تحديثــا حقيقيا نحو الأمام، أو الأعلــى، إذا ما شــئنا النظر إليهــا من زوايا نيتشوية باحثة عن الذات الأسمى خلف إدراك الــذات، الــذات الأعلى. كذلك ينطبــق مثل هذا القول على أغلــب القيم والصفات الإنســاني­ة الجيــدة، على الإنســان أن يختبرها بطريقته، ويشــذبها، ويمنحها بعداً مغايــراً، إذ ليس من المنطقي أن يكون التواضع على ســبيل الفرض، كمركب مفاهيمي يتألف من مناســيب إنسانية عديدة، هو نفسه لدى الجميع، وهو نفسه بتغير الأزمــان، كما ولا أدعو أن تكون هنــاك قطيعة بينه وبين سيرته الذاتية، إنما سيظل الجوهر والأساس واحــدا مع ترميم جوانب معينــة اقتضتها التجربة الشــخصية المتفردة، تلك التي ستجعل تواضع، س من الناس يمازج بين لون الأصول، ولون تجربته.

ســهوا ينظر الكثير مــن الأفراد إلــى التواضع كصــورة منظمــة ومرتبة عــن الهــزال والتنازل والتخــاذل والانطــوا­ء وغيرها، وفــي مقابل ذلك معادل جسدي يتوافق معها، على اعتبار أن الجسد هــو العلامة التي تعبر من خلالها كل تلك التعبيرات المنغمسة في سوء الفهم. هذا ما يمكن لثقافة تؤسس التنشــئة على أفعال الحكمة المتباهية بالقول المفتقد إلى التصادم مع الموقف.

لا ثراء للكلمات الموجهة إلى الســلوك البشري، كي تلقّنــه وتنقل إليه تلك الصفة. ولهذا الســبب بالتحديــد، جيلا بعد جيل يســتحيل الســلوك الإنساني إلى محض أيقونات، أو صور تراها على الشاشة، لكنها بلا محتوى ثقيل يدعمها لتشتغل. الموضوع يشبه تلك الملفات المحذوفة أو التي تعاني

من خلل ما، فتبقى صورتهــا الناصعة المغرية أمام العين، كما لو أنها حاضرة، تكتشــف الخلل حينما تريد تشــغيلها. كذلك يحدث في الحياة اليومية، نعيش مــع ممثلــن، إذا كان رقيقــا ويحتاج إلى الشدة، فإنه يمثّل تلك الشدة تمثيلا مصطنعاً، وإذا كان مختالا مغرورا إلى حد لا يطاق، فإنه ســيبرع بمرور الوقــت في تمثيل التواضــع، خصوصا أن التواضع مدعوم من الله ورسوله والمؤمنين، وهذا بما لا يقبل الشــك، يعزّز الميول نحو التمثيل أكثر، والالتزام به قدر الإمكان، فليس مهمًا أنك تمثّل، أو أنهم يعرفون أنك تمثّل ـ على الرغم من أن كثيرين ينطوي عليهم ذلك التمثيل الرديء ـ لكن الأهم أن تســتجيب لمنظومة القيم، حتى إن كان ظاهريا، لا بأس، سيقال حينها، إنك تحترم قيمهم ومجتمعهم، وسيعدونه تواضعاً، وفي صياغة أدق، حققت لهم مساعيهم، إذ أثبتّ لهم أنهم ما زالوا يعتلون القمة، فأنــت احترمتهم ابتــداء، ما يؤدي إلــى التصور الآخر ـ تواضعت ـ لكنّه بالنسبة إليهم من الداخل الأعمق، تنازلا، هــذا التنازل هــو مديح كامن في الأفراد، يتحرك لحظة تُطبِق القوى الخارجية على قوى الفرد الداخلية.

هذا المديح يُســتَنفر في المواقف الأشــد حرجا، فيتحول إلى ما يشــبه الإذلال، لن تستطيع أن تميّز بين فردين بمثل هذه المواقف، فرد يتعرض للإذلال وفــرد يدّعي التواضــع، كلاهما يمتلــكان العلامة الجســدية ذاتها، الكلمات المنكســرة ذاتها، الفتور نفسه، التراجع والانهزامي­ة، وانعدام الثقة بالرأي. وفي غالــب الأحيان يكــون الوجــه الآخر، تحت ظل هذا الرضوخ والانحــال والتمثيل هو تحقيق الغايــات. خصوصا عندما يكــون الفرد في موضع سلطة عليا، وســلطة دنيا أو أقل في ترتيبها. وخذ مثالا على ذلك، باختلاف الســلطات من العائلة إلى المجتمع إلى المؤسســات إلى العالــم. هكذا تتحول المجتمعات مــن مؤسســات ضخمة لإنتــاج أفراد متطلعــن إلى الحقائــق والمســتقب­ل، ونبذ الجهل وإدراك الطبيعة، إلى سباق في التزوير الأتقن لتلك الصفة، أو القيمة.

لم يعد صعبا أن تكون كريما، مثّل أنك كريم. كيف تفعل ذلك؟ يبذل الفرد طاقة ذكائه هنا، في اصطياد اللحظة المناســبة التي تلائمه مــن نواحي عديدة، كــي يظهر كرمه، وإن لم يكن غير ذلك. كن ســموحا ونبيلا ومتفانيا، ليــس عليك أن تتعذب بعد اليوم، عليك أن تتحــول إلى صياد خبير كــي تعرف متى بالضبــط، وأين وقرب من تفعل حركتك المناســبة. هذا لا يعنــي أن الناس كلها تفعل ذلك، لكن الغالبية اليوم تمارسه، لأنها مجرد انعكاس عن الأصل لتلك الصفات والقيم والعادات، ليســت هي نفسها. لقد عمِل بها الكثيرون لأنها الطريقة الأســلس للتواصل مع الآخرين، كي يحصل الفــرد على بطاقة الدخول إلى الجماعة، ويصــل إلى مبتغاه بطريقة أســرع، فليس لديه الوقت كي يصبح إنســانا. ولماذا يجب أن يكون مختلفا عن أقرانه؟ ما الداعي لهذه المشقة؟ بينما يمكن فعل كل شــيء بتلك السهولة، إنه مجرد كذب آخر يتحول إلى حقائق وقواعد وحكم ذهبية، يتناقلها الراشدون ويحفظونها ويغلفونها بقماشة أبوية، تنفعهــم في الزواج وإســداء النصائح. هل تريد أن تصبح خلوقا؟ اكذب.

وبما أن الســلوك الخيّر يســتند إلــى مثل تلك الأسس المناورة والالتفافي­ة، فتخيلوا معي من يريد أن يصبح الأفضل في كل ما ذكرناه من قيم وصفات؟

بالتأكيد سيكون أكبر كذاب بيننا.

إلــى هذه الدرجة ســيكون خطــرا علينا جميعا مثل هذا النموذج الباحث عن المثالية والتكامل، في مجتمع يطلق الرصاص عبــر إيعازات رابضة في لا وعيه، على أي شيء حقيقي يتحرك خارج المسارات المحددة، بــل إن الأصدق اليــوم، ذاك الذي يرفض مهنة التمثيل لتنوب عما يعتمل في أعماقه، هو المتهم الأول بأنه الأكذب، بين فرقة الكذبة المحترفين، بينما هناك يلهو بهم من اختــار أن يصبح نبيا، من خلال تفوقه في إجادة اللعب.

هذه المصالــح الفرديــة والذاتويــ­ة المتخبطة، كلمــا تعززت وأخــذت تقترب من مفهوم الشــعار، أو الحكمــة، تعزز البقــاء للأكذب، فيكثــر مريدوه وخدمته، ليصبح النجاح الفردي هو المعادل الأشــد حضورا في فشل المجتمع.

وبهــذا كلما ســعى الأفــراد أكثر، وهــم يمرون ويعبرون يوميا من خلال هــذه المنظومة، زادوا في إفشــال محاولات النهوض بالمجتمع. وهو ما يعزز بقاء المجتمع على حاله هذه، كمسرح ملائم للأجيال القادمة. لأنها حتى تصل إلى المكان الصحيح، يجب

أن تسلك السلوك الخاطئ. هكذا أصبحت المعادلة ولا تزال مســتمرة في طغيانها. يستشري هذا السلوك حســب طبيعة المجتمــع، إذ لا يوجد هنــاك مجتمع مثالــي بالكامل، إنما توجد حدود ونســب متفاوتة يفرضها النظام الجيد، الذي يشــير في النهاية إلى وجود نظيف لفكرة الدولة.

إنه «نظــام التفاهــة» العالمي الذي ســعى آلان دونو إلى تفصيله، وكشــف ألاعيبــه الداخلية في المجالات كافة، من الاقتصاد والبورصات إلى العلوم والجامعات والدارســن إلى الاستثمارا­ت وغيرها. التفاهة وهي تســتحيل إلى حياة. هنا نقوم بسحب «نظــام التفاهة» إلى منطقنــا الثقافي والاجتماعي المحلـّـي، فلو أن آلان دونو عاش فــي هذا الجزء من الشــرق، لما غفل عن مثل هذه البذور، إذ لا فرق بين هنا وهناك، ســوى أننا في نظــام تفاهة ينتمي إلى مرحلــة غائصة في بدائيتها أكثر، بســبب أنها تعيش في ثقافــة الماضي المعنوية وتغتذي علــى ثقافــات العالم المتطــور الماديــة، حيث يصــح أن نطلق على الفــرد أنه شــبه بدائي، فالدارس للمجتمعات البدائية سيرى تشابكات وتشــابهات عديدة في سلوك الأفراد وتعاطيهم مع مفردات الحياة وأحداثها. فباطن كل نظام من أنظمة التفاهة أنوية للكذب، تبنى فوقها طبقات من الأنظمة الفرعية، وبمرور الوقت تصبح فعلا مأخوذا به للانتصــار والعيــش والتلذذ. هي اللعبة نفســها التي تحدث عنها دونو في كتابه هذا، لكن في مكان وظروف أخرى.

يســأل دونو: ما جوهــر كفاءة الشــخص التافه؟ فيجيب: إنه القــدرة على التعرف على شــخص تافهٍ آخر. معا، يدعــم بعضهما بعضا، فيرفع كل منهما الآخر، لتقع السلطة بيد جماعة تكبر باســتمرار. هذه ببســاطة هي ديناميكية البحث المتواصل لتحقيق الغايات، على حساب كل القيم الإنسانية. فلعب لعبة التمثيل/ الكذب، هو ســلوك مراوغ، يشــبه في هيكليتــه، بيتا داخل بيت، الأول هو القواعد الرســمية المعلنة، والثانــي هو اللعبــة/ القواعد غير الرســمية، يمارســها الأفراد مــن خلال الأقنعــة واختلاق المجازات، وقبول التعاملات الداخلية الملأى بالغش والاحتيــا­ل، والدوس على الخطــوط الحمر بكامل القناعة والاســتعد­اد. فقد هيأت لهم البيئة مسرحا بســيناريو وأدوار محــددة، والمرور الســلس هنا يســاوي الانصياع، الذي هو في النهاية كســر لأي معطى روحي.

يتحــدث دونــو عن مصائــب حدثت فــي أرقى دول العالم، بل وفي أرقى مؤسســاتها كالجامعات والمراكــز العلميــة، فتخيلوا معي للحظــة، إذا كان حــال المجتمعات الأرقــى هكذا، فكيــف بمجتمعات هشــة كمجتمعاتنا؟ إذن هي مشكلة عالمية ومحلية، لكنهــا تتفاقم في الأنظمــة اللاديمقرا­طية والأنظمة التــي تدّعي الديمقراطي­ة. وقد تحــدث كثيرون عن الكذب منذ طروحات الفلاســفة اليونانيين الأوائل، إلى مثالية كانط بهذا الشــأن وحنّة أرندت، وليس انتهــاءً بتاريخ الكذب لجاك دريدا، وكل واحد كانت له آراؤه ومفاهيمه في هذا الخصوص.

 ??  ??
 ??  ??

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Kingdom