Al-Quds Al-Arabi

ميكانيكيو الكلام

-

■ من حسن حظي أن تعطلت عربتي غير بعيد عن ورشة ميكانيكي.. حملق الميكانيكي فيّ جيدا، وهو يســير معي إلى حيث السيارة وسألني كم عمر الســيارة؟ أجبته بالتقريب لأني لا أعرف عمرها الدقيق.. سألني هل تعطبت قبل هــذا: أجبته طبعا طبعا.. عاد ينظــر إليّ والحيرة على وجهه من أجوبتي فســألني: ماذا تشــتغل يا أخانا؟ سيارتي لا توحي بمهنتي ومهنتي لا تطابقها سيارتي وتلك قضية أخرى.. قلت له مدرس.. حدجني بنظرة تشبه مفتاح الفولاذ الذي في يده، ثم قال: ميكانيكي كلام يعني.. وقهقه ضاحكا.. لم أبتسم لكن استعارته لاقت في نفسي هوى.

الميكانيــ­كا أو «علم الحيل» مثلما يحلو للعرب تســميته تعود قصته عهودا أبعد من عهد الإخوة بن موســى )أحمد ومحمد وحســن( الذين كانــوا يشــتغلون بالحيل في أقــدم بيت للحكمــة في بغــداد، برعاية الخليفة المأمون العباســي. وضعوا مصنفا في الهندســة سموه «كتاب الحيل» وصفــوا فيه كثيرا مــن الأجهزة وكيفية تشــغيلها وكانت هذه الآلات متنوعة، تســتجيب لحاجات عصرها في الإنارة والري والصيد والموسيقى وغيرها من الأدوات والآلات.

علــم الحيل تســمية معيارية تترجم لفــظ الميكانيــ­كا المعروف لدى الإغريق، والتي اســتعملت عندهم في معنى «فــن صناعة الآلات». ومن المعلوم أن هذا الفــن كان فرعا من الفيزياء موضوعه دراســة الحركات والتوازنات والانحرافا­ت التي تطرأ على الأنظمة الفيزيائية. وما من شك في أن الحيلة تعني ههنا الحذق، وجودة النظر، والقدرة على تدبر الأمور لكن، باســتعمال الآلة. وترتبط الحيلة أيضا بالبراعة التي تصل إلى حد التعجب، أو الإعجاب. وهذه المعاني إذا ما استعرناها لحيل الكلام كانت ممكنة، ذلك أن في الكلام من البراعة وإثارة الإعجاب وحســن التوسل والقدرة على إخراج القول المخارج الحسنة ما يشبه الحيل.

الميكانيكـ­ـي في اســتعمالن­ا الآن، وهنا هو الشــخص الــذي يصلح الســيارات وما شــابهها مما ركبه الناس، وهذا المعنى الذي للعبارة هو جزء مما اكتســبته في تاريخها وفي الحضارات الأخــرى، إذ هو هناك العــارف بهندســة الآلات وصناعتها وقيــادة ما يقاد منهــا. لكن معنى الميكانيكـ­ـي في الحضارة التــي لا تنتج، بل تكتفي بــأن تصلح ما ينتج سيكون معنى منحصرا في الإصلاح والعلاج، دون الصناعة.

كان لا بد من هذه البســطة كي نضع هذه الاستعارة المرتجلة المبتدعة ميكانيكي الكلام في ســياقها الحضــاري الصحيح، ســياق من يكتفي بمعالجــة ما أبدعه غيره. ربما كان المدرس في هذه الاســتعار­ة المبتدعة والبديعة، ميكانيكي كلام، لأنه يصلح أخطاء المتعلمين اللغوية والمعرفية جميعا.. لكنه ليس الوحيد الذي يمكن أن تصدق عليه هذه الاستعارة.

«ميكانيكيو الكلام» اســتعارة باعتبار ما يكون، وليس باعتبار ما هو كائن: يعني أن هذه الاستعارة يمكن تخليقها فهي لا تجول كما هو معلوم على ألسنة الناس، وإنما ابتدعها هذا الميكانيكي ابتداعا، وخلقها تخليقا عجيبا. معلوم أن توليد الاســتعار­ات أو ابتداعها لا يحتاج أن يكون من أنتجها أول مرة شــاعرا أو بارعا في الصور مثلمــا قد نتصور. يمكن أن تأتي ســهوا ورهوا، كما يقال دون كد للخاطر. ويمكن أن نستعملها لفهم فكرة أو شرحها مثلما سنفعله في ما يأتي من كلام.

النقــد هو مجال مــن المجــالات التي يمكــن أن تســتخدم فيها هذه الاســتعار­ة بأن، نعتبر الناقد ميكانيكــي كلام، وعندئذ يمكن أن نخلق ضربا مما يســميه «فوكونياي وترنر» مزجــا Blending نتعامل فيه مع هــذا الضرب من النقاد لا على أنه ناقد ولا على أنه ميكانيكي، بل على أنه كيان تصوري يمتزج فيه الناقد بالميكانيك­ي لتخلق لنا هيئة جديدة. في هذا المزج ســنرى الناقد لا على أنه خالق للــكلام، بل على أنه معالج له، وهذا يفتــرض أن يكون الــكلام الذي هو مجال لنــوع من المعالجة المخصوصــة قابلا للإصلاح بأدوات معالجــة ميكانيكية. الناقد من هذه الناحية يمكن أن يكون خبيرا بالكتابة الشعرية، أو النثرية، أو بالإبداع الفني المسرحي أو السينمائي، فنتحدث عندئذ عن ميكانيكي ناقد خبير. غير أنه ولأسباب ما يمكن أن نجد الناقد الميكانيكي، متمرنا أو دخيلا على ميدان الكلام الميكانيكا، فيكون الناقد الميكانيكي مزيفا أو دجالا. يمكن أن يكــون هذا الميكانيكي للكلام أو الفن متخفيا في لباس الميكانيكي­ين حاملا مفاتيحهــم وآلاتهم، ملوثًا الثــوب بزيوتهم، لكنه لا يمكــن أن يفلح في تشــخيص العطب الذي في عربة الكلام التي يعالجها. نحن نجد الناقد الميكانيكي المزيف والناقد الميكانيكي الحقيقي مع فارق معقد يتمثل في أن عطب الســيارة الحقيقي وإصلاحه، هو كاشف فوري لزيف الميكانيكي، أو لحقيقيته، لكن المســألة في النقد أكثر صعوبة من هذا : فلا يوجد قادح آني كاشــف لزيف الناقد الميكانيكي لأن المكان الذي ينتصب فيه، ولنقل إنها وســيلة إعلام يمكن أن يغطي الزيف. فــي هذه الحالة يمكن أن تظل النصوص المعطبة معطبة، ومثلما هو الشــأن فــي الميكانيكا فإن العطب في قطعة ما من الســيارة، يمكن أن يمتد إلى غيرها، إن لم يصلح العطب في وقته. وفي النقد أمر أكثر خطــورة: إن التعامل مع الأعطاب الكلامية علــى أنها صحيحة يمكــن أن يروجها، باعتبارها مناويل ينســج عليها وهذا يشــبه في الميكانيكا مثلا، أن يعتبر الدخان المنبعث بكثافة من قناة التصريف حالة عادية فتنســج الســيارات على منواله ليصير التلوث الأصل ويصبح الصفاء عطبا. واليوم تنفث كثير من النصوص الشعرية المكتوبــة هنا وهناك، والتــي يعلي من قيمتها الناقــد الميكانيكي المزيف دخانا ملوثا لبيئة الكلام السليم لا يشعر بسمه إلا من عاش الصفاء أيام الصفاء.

ســنقدم مثالا أكثر دقة على )الناقد الميكانيكـ­ـي الحقيقي/ المزيف( هو مثال مســتخلص من درس المفاهيم الأكاديمية التي عادة ما تستخدم في النقد. الناقد الميكانيكي الحقيقي هو كل أكاديمي يستعمل هذه المفاهيم في السياق الصحيح السليم في التدريس والتأليف، وفي التطبيق، والناقد الميكانيكي المزيف هو الذي يســتعمل تلك المفاهيم نفســها في السياقات نفسها بشيء كبير من التحريف غير المقصود غالبا. هو غير مقصود لأن كثيرا من جوانب المفاهيم تظل خفية يفشــل فــي الوصول إلى حقيقتها، وهو إن عبّر عنها عبّر بشكل ضبابي موهم بالفهم ولا فهم. وحتى لا نعقد على القارئ البسيط نورد مثال مفهوم رائج هو التناص.

جرّب أن تكتب شــيئا في موضــوع ما حتى يهب الــذي يدعي معرفة بهذا المفهوم ليقول لك، إن في كلامك تناصا مع فلان الشــاعر أو الأديب. وهو يرى أن كلمة واحدة، أو بعض كلمات وجدها في نصك تكفي للحكم بالتناص، الذي ربما ســماه أحيانا تحاورية باســتعمال عبارة باختين الشــهيرة. هو يستعمل التناص ليعين شــيئا في ذهنه يشبه «التلاص» أي أنه يرميك بالســرقة واللصوصية، ويرميك وهو يستعمل هذا المفهوم بالتقصير والســرقة من غيــرك. يفهم الناقد الميكانيكـ­ـي المزيف خطأ ما قالته جوليا كريســتيفا مثلا من أن «كل نص يُبنــى، هو مثل قوس قزح من الشــواهد، وكل نص هو تشــرب لنص آخر وتحويل له «كريستيفا ميكانيكية مبدعة لســيارتها المفهومية، وتتعامل مع الكلام )النصوص( على أساس أنه من المستحيل أن تجد سيارة ليس فيها قطع غيار متماثلة، توجد في هذه السيارة أو تلك بأحجام مختلفة أو بأبعاد مختلفة، وأنه لا توجد سيارة يمكن أن تكون فريدة في قطع غيارها فلا توجد لها أمثلة في الســيارات الأخرى، هذا هو رأيها في التناص. لكن الميكانيكي الذي تعلم عنها الصناعة، تعلمها بشــكل مختلف وانتصب مزيفا لحقائق الميكانيكا المتناصة.

عالج الميكانيكي عطب ســيارتي. كان خفيفا.. صاح وصوته يلاحقني والســيارة تعود إليها حياتها وتغــادر المكان: إلى اللقــاء يا ميكانيكي الكلام.

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Kingdom