Al-Quds Al-Arabi

الغربة في المكان: قصيدة «الملهى الصغير» لأمل دنقل

-

■ مــن ديوان أمــل دنقل «مقتــل القمر» الصــادر عــام 1974 قصيــدة «الملهــى الصغيــر»، حيــث تحضر الإســكندر­ية في دواوينــه، ولا عجــب، فقــد شــهدت فتوته البدنية والنفســية والشــعرية وعاش فيها المر والحلو، طيش الشباب وحكمة الحياة، نزوة الحب وانسياب الشكوك في متاهات النفس والروح، والشــاعر لن يكون شاعرا ما لم يكن عاشــقا، فوراء كل شــاعر امرأة، لا بــل وراء كل قصيــدة، وراء كل ســطر ووراء كل كلمــة ووراء كل نبــض، وراء كل شــهقة روح امرأة واحدة أو أكثر، الوطن / المرأة حقل الشــاعر، مضمار ســباقاته مع القوافي.

دنقل شــاعر عاشق، صاخب، معترض، ملتزم، غير استعمالي بتعبير حلمي القاعود عن المثقــف الملتــزم، وهو في الوقــت ذاته وفي لمشــاعره لذاكرته وفي هذه القصيدة «الملهى الصغير» يعود الشاعر رفقة حبيبته الســابقة، ربما الأولى، وقد نضج بعد لأي وزمن بعيد إلى المكان الذي كان يلتقيان فيه دائمــا «الملهى الصغيــر» والعنوان في ذاته يحيــل على زمــان الأنس، الخفــة، البهجة، اللامبــال­اة، فالملهى الصغير مــكان يتصيد المراهقــن ويأخــذ ما فــي جيوبهــم، حيث لا يســأل الشــاب عن ثمــن المشــروب، ولا يتظاهر إلا بالســخاء والبحبوحة المفتعلة، فضــاء يُقصــد للاســتمتا­ع بالأنــس فــي حضرة الحبيــب، عتبة أولــى تحيل على ذكريــات الشــطارة ا لعا طفيــة

وهي تجربة مرّ بها كل شــاعر، كل فنان بل كل إنسان في فورة الشباب:

لم يعد يذكرنا حتّى المكان! كيف هنا عنده؟ والأمس هان؟

النفي الــذي صدّر به الشــاعر القصيدة )لــم يعد( هو إحالة على الغربة، فالحبيبان غريبــان عن المكان، إنه لم يعــد مكانهما ولا زمنهمــا، فتيــار الزمــن أنضــج التجــارب، وصراع الحيــاة ذاته حمل الشــاعر بعيدا، همــوم الوطــن همــوم التحــرر ومغــادرة للمدينــة الكوزموبول­يتية الإســكندر­ية، ثم حياة قاهرية جديدة وتجارب أخرى جعلت الشاعر يحس بالغربة في المكان، حيث أراد أن يســتعيد مجده العاطفي وألقه الشبابي ولكن هيهات:

أنظري؛ قهوتنا باردة ويدانا ـ حولها ـ ترتعشان

تأتي الكلمــات: القهوة البــاردة واليدان المرتعشتان من الحبيبة، حبيبة الأمس على تعميــق الشــعور بالغربة عن المــكان، وعن تصنع مشــاعر الحب المســترجع والحيرة معا، أمام هذا التمثيل في حضور العشــاق الجــدد المراهقــن، لكــن هيهــات فالوجــه الغــارق فــي الأصبــاغ تنقصه الابتســام­ة التلقائية العفوية، فالبســمات والضحكات رســل الــروح إلــى العــام الخارجــي، عــن الانتشــاء والانســجا­م مع الآخــر، ومــع المــكان، بــل إن دلالــة لفظة

الرســام تحيــل على تصنع المشــهد برمته، إنه مثل اللوحة تعيد تشــكيل الحيــاة، بــدون أن تكون هي الحيــاة ذاتها. هي المســرح يحاكي الواقع، بــدون أن يكون هــو الواقع ذاتــه، لذا يأتي الاســتفها­م الإنــكاري فــي محلــه لتعميق الشعور بالغربة وضرورة المغادرة.

قد خسرنا فرسينا في الرهان! ما لنا شوط مع الأحلام ثان!

حــب لا يمكن اســترجاعه لأنه ببســاطة انتهــى، حمــل تيار الحيــاة الشــاعر بعيدا كما حمــل الحبيبــة الســابقة، وفي لحظة اللقاء في المكان نفسه لم يخفق القلبان كما كانــا قبل، بل دخلت الجــوارح في حركات مصطنعــة تعمــق الشــعور بالغربــة وعدم الارتياح في المكان:

نحن كنّا ها هنا يوما وكان وهج النور علينا مهرجان

لا وجود للإحســاس التلقائي الطبيعي إلا فــي الذاكــرة فــي اســتعادة الشــريط الســينمائ­ي أمــام البصر، فــي لحظة تذكر فهنا المشاعر طبيعية والإحساس بالوجود في المــكان طبيعي، بل هو اندغــام فيه وها هي الكلمات المحيلة على الانطلاق والعفوية والتلقائيـ­ـة والإحســاس بامتــاك الطرف الآخــر والمــكان معا: وهــج النــور، صهوة الموج، الأمــان، الهوى، القطــة، الدم، البكر، الفــوران، وكان ذلك يــوم كان عمر الحبيبة دون العشرين وكذلك عمر الشاعر.

ها هنا ـ كلّ صباح ـ نلتقي بيننا مائدة تندى.. حنان قدمان تحتها تعتنقان ويدانا فوقها تشتبكان

هنا النمط الغالب هو السردي، حيــث المجال للأفعــال، فاللقاء ليس كل أسبوع بل كل صباح، فالمــكان مكانهمــا ينتظرهمــا وحتــى هــو يحــس بالقلــق إن لــم يحضــرا، فقــد ألفهما المكان والقدمان تعتنقان تحت المائدة واليدان تتشــابكان كما تتشــابك الأرواح والشــفتان الحلوتــان والغمازتــ­ان والملامح هنــا طبيعية لم تطمســها الأصباغ، كمــا فــي المقطــع الســابق، مقطــع الاغتراب عن المكان:

أكتب الشعر لنجواك )وإن كان شعرا ببغائيّ البيان( كان جمهوري عيناك! إذا قلته: صفّقتا تبتسمان

جــاء في المأثورات القديمــة أن وراء كل عظيم امرأة، ومعنى ذلك الحضور الأنثوي الفاعــل في نفس ووجــدان المبدع، أو رجل السياســية، أو التاريــخ، بــل إن الإبــداع ذاتــه لا تكون وراءه إلا المــرأة، فالأصل في الفنــان - ســواء أكان شــاعرا أم كاتبا أم رســاما أم موســيقيا - هو حالم، منطلق، حر، ســماوي المنزع وليس كالأنوثة ملهما ومحتضنا للهــم الإبداعي، حتى لو اعترف الشــاعر بســذاجة مــا يكتب وســطحيته، وتتجلى قيمــة الصدق الفني هنا والصدق مع الكلمة ومع القارئ في تصريح الشاعر بســذاجة مــا يكتب، فالأصــل أن كل مبدع مبتــدئ مقلد، وهذا ما تفصح عنه الإضافة هنا «ببغائي البيان «توصيف دقيق للتقليد الذي ينطلــق منه كل مبدع، فهو في الأصل متأثــر بكاتــب أو شــاعر ســابق تتماهــي شــخصيته مــع شــخصيته، ثــم تفارقهــا يوم يشــب عمــر عن الطــوق. فالنــص لها ولرضاهــا ولانتــزاع إعجابهــا ولمباهاتها بحبيبها أمام لداتها.

وهذه الحبيبة التي تمارس شــخصيتها العاشــقة المتمردة فلا تخاف مــن التأديب والعقــاب، ومطــاردة ومراقبــة الأوليــاء وعقابهــم، في حال اكتشــاف هذه العلاقة والمواعيــ­د الغراميــة فــا تخيفهــا عصــا الخيزران.

حين أفرغنا من الخمر الدنان قد بلغنا قمّة القمّة هل بعدها إلاّ... هبوط العنفوان افترقنا.. )دون أن نغضب( لا يغضب الحكمة صوت الهذيان

إن كان المقطــع الســابق يســرد وقائــع الحب البكــر، وتمرده ونشــاطه وصولاته وجولاته، فالمقطع هنا يسرد بداية الانحدار والتلاشــي حتــى يغــدو الأمــر كلــه مجرد ذكرى، وتــدل الأفعال على هــذا الانحدار: ولى، انتهــت، أفرغنــا، ثم الكلمــة النهائية التي تتوج ختام كل علاقة «افترقنا»، بدون ضجيج وغضب فهــو مجرد موجة عاطفية ونزوة شــبابية متسربلة بســربال الحب، وليســت سوى نشــاط بركاني لليبيدو في فورة الشاب:

ما الذي جاء بنا الآن؟

سوى لحظة الجبن من العمر الجبان أمن الحكمة أن نبقى؟ سدى قد خسرنا فرسينا في الرهان

يأتي الســؤال الإنــكاري ليؤكــد النفي، ويرســخ الشــعور بالاغتــرا­ب عــن المكان، لقــد أراد الشــاعر أن يعيــد التجربة ولكنك لن تســتحم في النهر ســوى مــرة واحدة، فتيار الزمن يعني الســيرورة والتغير وفق جدلية الهدم والبناء، الموت والفناء، الثبات والتغير، إنــه هزيمة الإرادة وخذلان القلب، ذلك القلب الذي أراد أن يستعيد وهج الحب وجذوته المقدســة فتحترق الجوارح بلهيبه ولكن هيهات! لم تشــأ الأقــدار لذلك الحب الطفولي أن يجاوز مرحلة الحبو ومات في طفولته شــأن كل حــب أول جوهره الولع والشــبق والانجذاب نحو الجنــس الآخر، هــذا العالم المغري والمثيــر والمحرك، ويزيد الاستفهام الإنكاري في آخر المقطع ليرسخ ضرورة الانســحاب لتختم كلمة «خســرنا «هذه المغامرة الشعورية والحياتية معا: قبلنا يا أخت في هذا المكان كم تناجى، وتناغى عاشقان ذهبا ثمّ ذهبنا وغدا .. يتساقى الحبّ فيه آخران! فلندعه لهما ساقية.. دار فيها الماء ما دار الزمان

مــن اللافــت أن القصيدة بــدأت بعنصر المــكان، وهــو الباعــث والمحرك للمشــاعر، والمثير لخــزان الذاكــرة، وانتهــت بعنصر الزمــان الــذي يطغــى موجه على ســاحل العمــر فيســحب إلــى أعماقــه كل الــذرات الشــعورية، إلا مــن رغوة الذكــرى، وبقايا الأصــداف الشــعورية تحت وهج شــمس الراهن.

٭

 ??  ?? أمل دنقل
أمل دنقل
 ??  ??

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Kingdom