Al-Quds Al-Arabi

انتقم منهم بدم بارد

-

■ كثيرا مــا يتملكنا الضيــق عندما لا نســتطيع رد إهانات الآخرين، أو الاعتــداء­ات غير المبررة. وقــد يجنح البعض إلى إعادة الموقف في ذهنه مرات عــدة مرددا «يا ليتني قلت كذا» أو «تصرفت هكذا». وغالباً، ما ينســى الفرد الســويّ أو المتسامح الإهانة أو الاعتداء، لكنّ هناك آخرين يعتبرون أي إساءة ـ حتى لو كانت طفيفة ـ اعتداء سافرا، ومن الواجب رد الصاع صاعين؛ لإخماد نيران الشعور بالعار الذي لحق بنفس المعتدى عليه.

وقد قــام فريق مــن الباحثين السويســري­ين بإجراء تجربة لمعرفة ما يحدث فــي الدماغ عندما ينتقــم أحدهم ممن ظلمه أو اعتــدى عليه. ففحصوا أدمغة أشــخاص بعــد تعرضهم للظلم في أحد الألعــاب التي أقيمت فــي المختبر، في إطــار التجربة، وأعطوهم الفرصة للانتقام ممن ظلمهــم. وفي أثناء ذلك، قاموا بفحص دماغ المظلوم أثناء تصوُّره طريقة تنفيذ الانتقام، وأثناء التنفيذ. والمفاجأة، ملاحظة حدوث نشــاط فــي النواة المذنَّبَة

‪Caudate Neuclus‬ ، التــي تتحكم في الجــزء من الدماغ المســؤول عن المكافآت، أي أن تنفيذ الانتقام كان بمثابة المكافأة التي تسبب الســعادة والحبور. الانتقام كما وصفه الفيلسوف الإنكليزي فرانسيس بيكون ‪1626( )1561-‬ هو: «أنه ضرب من ضروب «العدالة الجامحة» التي تعزل القانون من منصبه».

ولم يكن فرانســيس بيكون من مؤيدي فكــرة الانتقام التي تحقق التشــفِّي من الظالم عندما يراه المظلــوم يعاني كما فعل به، وأكد على ذلك بقوله: «من يدبِّر للانتقام سوف تظل جراحه الحديثة مفتوحة، التي لولا ذلك لكانت التأمت». ففي بداية الأمر، يصير الانتقام بمثابة التحرر العاطفي من تجربة قاســية؛ لأنه وسيلة تحقيق العدالة، ما يجعل المرء يشعر بالتحسن ـ كما تلح على ذلك الأفلام. وعلى الرغــم من ذلك، للانتقام تأثير معاكس، فقد وجد علماء النفس أن الشــعور بالرضا فور تنفيذ الانتقام لا يدوم سوى لحظات قصيرة؛ لأنه لا يخمد نيران الظلم في نفس المظلوم، بل يزيد من عدم الشعور بالرضا إزاء ما ارتُكِب في حقه من جُرْم، ما يعطي الفرصة لخلق سلســلة لانهائية للانتقام من الُمعتدِي، وقد يزداد الأمر ســوءاً عندما يتبادل الطرفان الانتقام من بعضهما بعضــا، حيث يتحول الأمر إلى كارثة جميع أطرافها خاسرون. وقد صورت فكرة الانتقام رواية «الكونت دي مونت كريســتو» للكاتب الفرنســي ألكســندر دوما» 1870-1802(.) وتعتبر الرواية واحدة من أهم الأعمال الأدبية التي توضح فكرة التلذذ بتنفيذ الانتقام بدم بارد، بناء على خطة محكمة تستغرق ســنوات طويلة من التفكر والتدبر؛ لنســج خيــوط الانتقام، وإحكام الســيطرة على الظالم. وبالفعل، تثمر الخطة في نهاية المطاف، ويحظى المكلوم بنصر مكين.

وقد يظن البعض أن الانتقام بهذه الطريقة لا يسير إلا في أُطُر الروايات والأفلام، لكن بالنظر عن كثب، يلاحظ أنه أشــد وطأة وأكثر عنفاً على أرض الواقع، وأن الانتقام لا يسري بين الأفراد، أو العائلات فقط، بل أيضاً بــن الحكومات والدول. وذاك الأمر صار نهجا على مرّ العصور، ولا يستثنى من ذلك العصر الحديث.

قديماً شــاع المثل القائل: «الانتقام وجبة من الأفضل تناولها باردة» وقد تناولتها الصين «باردة» وتتلذذ بطعمها حاليا. فمنذ الهزيمة النكراء التي لحقت بها علــى أيدي البريطانيي­ن 18401842 في ما يُعرف باسم «حرب الأفيون» أخذت المملكة الصينية تتهاوى من جراء سلســلة من الحروب التي تم شنها ضدها من قبل أطراف عدة.

كانت الصــن إمبراطورية عظيمة وشــديدة الثراء، وكانت منتجاتها من البهــارات والحرير والخزف تتهافت عليها الدول، وينفقون أمــوال طائلة للحصول عليها؛ لما لها من ســوق رائج وســمعة طيبة. أما امبراطورية بريطانيا العظمى، التي لا تغيب عنها الشــمس، راعها كثيراً أن تجد نفســها لأول مرة أســيرة الشــراء لمنتجات استهلاكية تســتوردها من إحدى الدول. ولم يقف الأمر عند ذالك وحســب، فحين تنبهت وجدت نفسها تنفق مــن مخزون الذهــب والفضة لديهــا، لتعطيه لدولة آســيوية بدائية، لا تســتورد منها أي شيء على الإطلاق، وغير راغبة في شــراء أيِّ من منتجاتها البراقة، التي يتهافت عليها جميع دول العالم. ولما استعصى على بريطانيا فتح أسواق الصين لمنتجاتها ـ حتى لا تدخل المزيد من الأموال الإنكليزية في جيوب الصينيين ـ قررت إجبار الصين على الشــراء بقوة شن الحرب عليها. ولما تصدت لها الجيوش الصينية الباســلة وطردتها، قررت تدمير الشــعب الصيني بأكمله، ونهب أمواله قسراً، عن طريق شن ما يسمى بـ»حرب الأفيون» الأولى والثانية، التي جرّت في أذيالها سلاسل من الحروب قضت على الإمبراطور­ية الصينية، وجعلت شــعبها الهائل العدد لا يجد قوته، وغارقا في المجاعات؛ لدرجة أنه لــم تكن تتوافر لديه المياه اللازمة لزراعة الأرز؛ حتى يســد جوعــه، بعد ما كان يرفُــل في الحرير والذهــب والفضة. ومنذ ذاك الحين، تعوّد الصينيون على أكل كل ما يتوافر أمامهم، حتى ولــو كان «جيفة». وفي الوقت نفســه، أقســم الصينيون على أنهم سيستعيدون شــرفهم وينتقمون من أعدائهم، بعد قرن من الزمان، وأطلقوا على هذه الحقبة «المئة عام من الذل».

وبعد مرور سنوات طوال، سنحت الفرصة للصينيين لتنفيذ خطة الانتقام، وكانت شــرارة البدء، الزيــارة الودية للرئيس الأمريكي ريتشارد نيكســون للصين في منتصف السبعينيات؛ لمدّ جســور العلاقات بين البلدين، في إطار الجهــود الأمريكية للقضاء على الفكر الشــيوعي المناهض للرأسمالية؛ لأن الصين ذات الفكر الشــيوعي، كانت مــن أنصار الاتحاد الســوفييت­ي المناهض لأمريكا، وأمريــكا راغبة في تقويــض حلفاء الاتحاد الســوفييت­ي وضمهم إليها، وذلك من أهــم ركائزها في الحرب الباردة بينهمــا. ومن ثم، اعتقــد الأمريكيون أنهــم بدخولهم الصين وعمل مشروعات استثمارية، لسوف يغيِّر ذلك من الفكر الصيني، ويجعله يتجه للرأســمال­ية العالمية. وســارت الخطة كما رغبها الجانب الأمريكي تمامــا، وأخذت الصين في الانفتاح أكثر على أمريكا، إلى أن «التهمت» اســتثمارا­تها، واســتنزفت أموالها واقتصادهــ­ا وتكنولوجيا­تها. وفي تلك الأثناء، انفتحت على أوروبا، وصارت أكبر موِّرد لها، بل صارت منتجاتها الأكثر رواجــا. وبالتأكيد، لم يكن مــن الصعب عليهــا الانفتاح على الشرق الأوسط.

حاليــا، صــارت مقاليــد الاقتصاد فــي أيدي الصــن؛ فهي مصنــع العالم، الــذي لا يمكن الاســتغنا­ء عنــه، والجهة التي تلوِّح بمنتجاتها للعالم، فيهرول صوبهــا؛ للحصول عليها. لقد استعادت الصين امبراطوريت­ها القديمة ومجدها السابق كدولة مصدرة «فقط» لمنتجات لا مثيل لها، بل جعلت شــعوب العالم، خاصة العالم الغربــي، «يدمن» المنتجات الصينية، التي صارت بمثابة «أفيون» من نوع جديد. فهل ســيقف سيف الانتقام عند ذاك الحد؟ ٭ كاتبة مصرية

 ??  ?? نعيمة عبد الجواد ٭
نعيمة عبد الجواد ٭

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Kingdom