Al-Quds Al-Arabi

السلطة الخامسة

- *كاتب مغربي من أسرة «القدس العربي»

هل توجد ســلطة خامســة؟ ســلطة جديدة تنضاف إلى السلطات الموجودة حاليا، ســلطة تقترب من مفهوم السلطة الرابعــة، وهي الصحافــة. يتعلق الأمر بســلطة مراكز التفكير الاســترات­يجي، التي ترسم لنفسها حيزا في فضاء صنع القرار الوطني والدولي، وأصبحت أداة من الأدوات الضرورية في وقتنا الراهن.

واعتــاد المحللــون، الحديث عن الســلطات الكلاســيك­ية الثلاث، وهي الســلطة التشــريعي­ة والســلطة التنفيذية ثم الســلطة القضائية. وهذا التصنيف والترتيب منطقي عندما يتعلق الأمر بالتدبير الشــفاف والديمقراط­ي للسلطات، حيث تمارس كل ســلطة الدور المنوط بها. ويغيب هذا الدور المتعدد فــي كثير من الدول التي تتميز بوجود ســلطة واحدة مهيمنة على الحيــاة العامة، تختزل في «ســلطة الديكتاتور». وتمت إضافة ســلطة رابعة مع مرور الوقت وهي ســلطة وســائل الإعلام بحكم قوتها في مخاطبة الناس، وتشكيل الرأي العام، بل يســميها بعض الباحثين بالبرلمــا­ن الورقي، ليس من باب التبخيس، بل بحكم إن قراءة المقــالات، خاصة الافتتاحيا­ت ذات التوجــه السياســي تدعو المتلقي إلى اتخــاذ موقف من قضية ما.

ومفهوم الســلطة الرابعة يعود إلى القرن التاســع عشر، وكان أول من وضع تصورا متكاملا للسلطة الرابعة هو المؤرخ الأسكتلندي توماس كاريل في كتابه «الأبطال وعبادة البطل» ســنة 1841، واعتمد على ســابقة وهي، خطاب إدموند بورك في البرلمــان البريطاني، عندما تحدث عــن قوة الصحافة في ســبعينيات القرن الثامن عشــر. وبلور كاريل تصوره ضمن ترتيب مختلف عن مفهومنا الكلاســيك­ي للســلطات. وهكذا، عندما ظهر تقسيم السلطات الثلاث في الغرب، كان الأمر يتعلق بســلطة الكنيسة، ثم ســلطة طبقة النبلاء، والسلطة الثالثة هي ســلطة عوام الناس. ومع تراجع دور الكنيسة والتراجع شبه الكلي للنبلاء في الغرب، أصبح مفهوم السلطات الثلاث الكلاسيكي هو المهيمن، أي التشريعية والتنفيذية والقضائية، لاســيما بعد ارتفاع الإنتاجات الفكرية حول هذه الســلطات الثلاث، وكيفية التوازن بينها لإقرار الديمقراطي­ة.

وتحولــت الصحافة في الــدول الديمقراطي­ة إلى ســلطة حقيقيــة للدفاع عــن المكتســبا­ت السياســية والاجتماعي­ة وتحصينهــا. وســاهم الصحافيــو­ن في إســقاط حكومات ورؤســاء دول، ولعل الحدث البارز هو دور الجريدة المرموقة «واشنطن بوســت» في إسقاط الرئيس نيكسون في منتصف السبعينيات بسبب فضيحة «ووترغيت». واتخذت الصحافة طابــع مقاومة الطغيان فــي الدول الديكتاتور­ية، أي ســلطة مضادة للقهر الممارس، ويخاف الديكتاتور من حرية التعبير، ولهذا يلجأ إلــى قمع الصحافة. وتشــهد المجتمعات تطورات متلاحقة، فهي ليســت جامدة، حيث تغيب تصورات وتندثر وتحضر أخرى، ويغيب فاعلون ويظهر آخرون جدد في هيئات وأشــكال لم نشــهدها من قبل. وعلاقة بالأشــكال التنظيمية التي تمــارس التأثير وترقى إلى ســلطة حقيقية تنضاف إلى السلطات الأربع، هناك سلطة جديدة آخذة في التبلور، وهي مراكز التفكير الاســترات­يجي، التي تحاول توجيه السياسات نحو أهداف معينة، وتعمل بشــكل أفقي وعمودي في مختلف القطاعات من دون استثناء.

وتعود مراكز التفكير الاســترات­يجي إلــى منتصف القرن التاسع عشــر في بريطانيا وكان أولها هو ‪Royal United‬ ‪Services Institutio­n‬ الذي جرى تأسيســه سنة 1831. ثم إلى بداية القرن العشــرين في الولايات المتحدة مع المعهد الشــهير كارنيغي، الذي بدأ مسيرته سنة 1910. وكانت مراكز التفكير الاستراتيج­ي مرتبطة أساسا بالغرب، ولكنها انتشرت بشــكل كبير خلال العقدين الأخيرين. وأصبحت كل دولة بما فيها الــدول الفقيرة تتوفر على مراكز التفكير الاســترات­يجي التي أصبحت تلعب دور «المستشار». وكل دولة تطمح للريادة تقوم بالتشــجيع على مراكــز البحث الاســترات­يجي، ولهذا ليس من بــاب الصدفة توفر الصين على أعلى نســبة من هذا النوع من المراكز، وهي الدولــة التي تنافس الولايات المتحدة الريادة على العالم. وكانت الجامعــة والأحزاب تزود الدولة بالأطر والخبراء، والآن أصبحت مراكز التفكير الاستراتيج­ي بدورها خزانا تلجأ إليه الدول. وكانت المعرفة مقتصرة بشكل كبير على الجامعة والباحثين المستقلين، والآن أصبحت مراكز التفكير الاســترات­يجي تنتج الأبحاث والمعرفة بشكل يتجاوز بعض الجامعات العريقة في مجال العلوم الإنسانية.

وفي دولــة في حجم الولايــات المتحــدة، أصبحت مراكز التفكيــر الاســترات­يجي تنافــس الأجهــزة الدبلوماسـ­ـية والاســتخب­اراتية في صنع القرار السياســي، لاسيما بعدما نجحت هذه المراكز في استقطاب أسماء حكومية سابقة. ومن ضمن الأمثلــة، المدير الحالي للمخابرات الأمريكية «ســي آي أيه» ويليام بارنز كان قبل تعيينه يشــغل منصب رئيس مركز كارنيغي، وبهذا فهو يحمل معه تصورات عمل المركز لتطبيقها في الاستخبارا­ت، مع الحرص على ملائمتها مع مصالح البلاد. وأصبح عدد من السياســيي­ن في الــدول الغربية، بل حتى في دول أخــرى ينضمون إلــى مراكز التفكير الاســترات­يجي، أو يؤسسون مراكز جديدة لتحقيق هدفين، التأثير في القرارات، أو المشــاركة في صنعها مــن جهة، ومحاولــة ضمان منصب حكومي عبر هذه المراكز من جهة أخرى. ودراســة مسار مركز من حجم «راند» الأمريكي، ســيندهش المــرء لقوة تأثيره في الأحداث الأمريكية منذ الخمسينيات.

وتقدم جامعة بنســلفاني­ا ســنويا تقريرا حــول دور هذه المراكز، وتصنفها حســب التأثير والإنتاج الفكري والمعرفي. وتشمل الدراســة أكثر من 6500 مركز، أغلبها في الغرب، لكن مع حضور لافــت وتدريجي كل مرة لمراكز مــن مناطق أخرى مثل، اريقيا والعالم العربي وآســيا، خاصة أمريكا اللاتينية. وأخذا بعين الاعتبــار عددا من عوامل التأثير الذي تمارســه مراكز التفكير الاســترات­يجي، وسط المجتمع وفي صنع القرار السياســي، فهذه المراكز بــدأت تتخذ مع مــرور الوقت طابع ســلطة نظرا لتأثيرها الكبير والمتنامي وســط المجتمعات. لم تعد بوصلة لتحديد اتجاه معين بشــأن قــرار ما، بل أصبحت تســاهم في صنع القــرار وتقوم بالقيــادة بطريقة أو أخرى. ولهذا، فهي تنضاف إلى السلطات الأربع المذكورة لنكون أمام السلطة الخامسة.

مراكز التفكير الاستراتيج­ي لم تعد بوصلة لتحديد اتجاه معين بشأن قرار ما، بل أصبحت تساهم في صنع القرار وتقوم بالقيادة

 ??  ??

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Kingdom