Al-Quds Al-Arabi

محسن مهدي وعلي الوردي... التداخل والتواصل

- *كاتبة عراقية

قلــة مــن أكاديميينا الذيــن فتحوا أبوابــاً جديدة لحقــول معرفية لها في الجامعات الغربية رسوخ وأهمية، ومن تلك العلوم علم الاجتماع، الذي برع في دراسته والتخصص فيه محســن مهــدي، ليكــون أول عالــم اجتمــاع عراقي بأطروحته الموســومة )فلسفة التاريخ عند ابن خلدون( من جامعة شيكاغو الأمريكية في عام 1954، التي مهدت السبيل للدارســن من بعده للولوج إلى عوالم الفلســفة الإسلامية القروســطي­ة، خاصة فلســفة ابن خلدون حتى صار لمحسن مهدي على الصعيد الغربي موقع مميز.

أمــا العلم الآخر فهــو علم اجتماع المعرفــة، وهو فرع من علم الاجتماع تطور وُوضح في أربعينيات القرن العشرين، وتخصص فيه علي الوردي ليكــون أول باحث عراقي ينال فيه الدكتوراه بأطروحته الموسومة )تحليل سوسيولوجي لنظرية ابن خلدون: دراســة في علم اجتمــاع المعرفة( من جامعة تكساس الأمريكية عام 1950.

وإذا كان محســن مهــدي قد واصل مشــواره الأكاديمي في الغرب، باحثا مميزا وأســتاذا خبيرا متخصصا في علم الاجتماع، فإن علي الوردي عــاد إلى بلده ليطور تخصصه النظــري والتطبيقي، جامعــا بين مياديــن الاجتماع وعلم النفس والتاريخ والأديان، مبتكرا لنفســه منهجا هو أقرب إلى علم النفس الاجتماعي، مطوعاً مقدرته الأدبية والنقدية في دراســة النظريات والفلســفا­ت القديمة منها والجديدة، لاسيما تلك المتعلقة بكينونة الإنســان والطبيعة البشرية، حارثــاً فــي أرض بكر لم يســبقه إليها باحث قبلــه، فتميز باحثا اجتماعيا، ذا قدرات كبيرة علــى التمثيل والتطبيق، أكثر منــه على التنظير. وهذا الأمــر كان باديا في أطروحته للدكتوراه التــي فيها اهتم بدراســة ديالكتيــك الثنائيات الآتية التي شــكلت كل واحدة منها فصــا قائما بذاته داخل هذه الاطروحــة، وهي: المثالية/ الواقعية، الحق/ الجبروت، الدين/ العقلانية، الإسلام/البداوة، مطبقاً إياها على فلسفة ابن خلــدون. بمعنى أن ما اهتم محســن مهدي بتأسيســه نظريا، طــوره الوردي بأن طبقه عملياً، فــكان الأول باحثا فلســفيا، والثاني مفكرا نقديا. والفــرق بينهما كالفرق بين هيغل المعلم الذي فلسف الديالكتيك عقليا، وماركس التلميذ الذي عقلنه ماديا.

وإذ ظلت فلســفة هيغــل فكرا لا يقبل الأدلجة، وفلســفة ماركس نظرية تدعو إلى الأدلجة؛ فإن فلســفة مهدي تجلت كمدرسة تخصصية، بينما تجلى فكر الوردي كمنهج بحثي. ولا خلاف أن تأســيس المدرسة هو أشــق وأعسر من ابتكار المنهج، بيد أن المنهج يظل أكثر صلة بالحياة، وأشــد التصاقا بالواقع الفعلي من المدرسة التي يظل التمدرس فيها متعالياً، لأن نظرها إلــى ما هو مجرد يكون من فوق برج عاجي. وبذا أوصل التفلسف محسن مهدي إلى التأسيس المدرسي، بينما فرض التوغل في الواقع العراقي على علي الوردي أن يكون التمنهج أداته، وهو ما توضح مع كل كتاب من كتبه.

بيــد أن ما يعتقده كثيــرون هو أن المؤســس الأول لعلم الاجتمــاع العراقــي فــي منطلقاتــه وتطبيقاتــ­ه هو علي الوردي، ولهذا الاعتقاد أسباب كثيرة، منها اغتراب محسن مهــدي، ومنها أنه باحــث متعال على الواقــع بالغوص في التــراث، ومنها أنه وجــد في الغرب بيئــة صالحة لتعميق خطه المدرســي.. فضلا عن أن علي الوردي نفســه لم يتعمد تعريف الأوساط الجامعية بريادة زميله ومواطنه المغترب، كما لــم يكن محتاجا أن يعرّفه لجمهــوره القارئ، لكنه حين أراد تأليف كتابــه «منطق ابن خلدون فــي ضوء حضارته وشخصيته» المنشور عام 1962 احتاج أن يشير إلى محسن مهدي، لكن ليس كمؤســس وإنما كصاحب أول بحث في ابن خلــدون، تناول ناحيــة كان الوردي قد غفــل عنها، ألا هي ناحية المنطق، في إشــارة غير مباشرة إلى أن دراسته لابن خلدون فــي بحثه للدكتوراه لم تكــن ريادية، عن ذلك قال: «مما لفت نظري من هذه الناحية ظهور كتاب عن ابن خلدون في اللغة الإنكليزية لباحث عراقي هو محسن مهدي، يتضمن الرسالة التي قدمها المؤلف لنيل شهادة الدكتوراه من جامعة

شيكاغو. ويمتاز هذا الكتاب بأنه أول بحث من نوعه يدرس الناحية الفلسفية والمنطقية في نظرية ابن خلدون.»

ولكي يدرس الــوردي هــذه الناحية دخل إلــى منطقة الفلســفة بالمنهجية نفســها التــي دله عليها علــم اجتماع المعرفة، فحلل فلســفة ابن خلدون، لا بالاستناد إلى الفلسفة الإسلامية كلها، كما فعل محسن مهدي؛ وإنما بالاجتزاء منها وفق ثنائية التقليــد/ التجديد، وهي الثنائية نفســها التي عليها بنى منهجه في الدكتوراه، مخالفا محسن مهدي قائلا عنه: «وإني مع تقديري لهذا الكتــاب وموافقتي على الكثير من الآراء، التــي وردت فيه، أخالفه في رأي واحد منها، ففي رأي مهدي أن ابن خلدون جرى في نظريته الاجتماعية على المبادئ المنطقية نفســها التي جرى عليها أفلاطون وأرسطو ومن تابعهما من فلاسفة الإسلام» (منطق ابن خلدون(

فابــن خلدون في نظــر علي الوردي ثائر على الفلســفة القديمــة بوجه عام، وعلى المنطق الأرســطي بوجه خاص. مع أن الــوردي يذكر أن ابــن خلدون «اســتعمل كثيرا من المصطلحات الفلسفية والأقيسة المنطقية التي كان الفلاسفة القدامــى يســتعملون­ها» (منطــق ابن خلــدون(. وإذا كان الوردي هنا يرى ابن خلدون صاحب طفرة اجتماعية ومنهج منطقي جديد، فإنه يسيء إلى الفلاسفة المسلمين كالفارابي وابن طفيل وابن رشــد وغيرهم ممن وصفهم بأتباع المنطق القديم، الذين لم يقدموا شــيئا ســوى تكــرار آراء الإغريق القدامى، واصلين بالمنطق إلى أن يكون قوالب فكرية جامدة «ما أن يستغرق المفكر فيها حتى يمسي وكأنه يدور في حلقة مفرغة لا يســتطيع أن يتخلص منها» (منطق ابن خلدون(. ولعل الوردي في موقفه هــذا متأثر بالفكر الغربي الحديث، الــذي كان يُظهــر منطلقاته علــى أنها نابعة من الفلســفة الإغريقية، ونادرا ما اعترف بتأثره بالفلســفة الإســامية؛ بل إن الفلاسفة الغربيين يتجاهلون أبا نصر الفارابي )780ـ 950( مؤســس هذه الفلســفة، ويذكرون أحيانا قليلة وعلى نحو خجول بعض آراء تلميذه ابن ســينا. ومن الأدلة التي نذكرهــا على تأثر الــوردي بالفكر الغربي فــي هذا المجال، مقارنته ابن خلــدون بميكافيلي الإيطالي، على أســاس أن ثورته ثورة فكرية وبسببها نبذ الأفكار الميتافيزي­قية. وكان الأجدى بالوردي أن يشــبه ميكافيلي بابن خلدون السابق عليــه بأكثر من قــرن، وأن ينقب عن الأســباب التي جعلت ميكافيلي لا يعترف بتأثره بالمقدمة الخلدونية، أو بالفلسفة الإسلامية، شأنه شأن الفلاسفة الغربيين الآخرين.

أمــا موقف الوردي مــن مدينة الفارابــي الفاضلة، فكان

ســلبيا، ذلك أنه رأى في تشــبيهها بالبــدن، والرئيس فيها هــو القلب، صيغة لا يمكــن إثبات صحتها، بيد أن لمحســن مهدي رأيــا مخالفا في الفارابي، الذي وجده أرســى تقليدا سماه )التحري الفلسفي( في العودة إلى أفلاطون وأرسطو «من دون تجاهل التطورات الفلســفية اللاحقة ومساهماتها المحتملة في علوم الإنســان والطبيعة» (الفارابي وتأسيس الفلسفة الإسلامية السياسية(.

وقد أحس محســن مهدي بهذا الإجحاف بحق الفلســفة الإســامية، لذا كرّس حياتــه باحثا مثابــرا ومحققا لامعا وأســتاذا صاحب كرسي حتى عثر على مخطوطات الفارابي المجهولة، وقــام بتحقيقها مقدما بذلك خدمة جليلة للباحثين في الفلسفة الإســامية، وهو الذي وضع كتابا مرجعيا مهما هو «الفارابي وتأســيس الفلسفة الإســامية السياسية،» وهذا الكتاب هو أول بحث يكتب عن الفارابي حاملا كثيرا من الآراء الجديدة حول الفلسفة الإسلامية.

ولعــل علي الوردي فــي انحيازه للثورة على الفلســفة القديمــة، وإيمانه بأن «المفكر كلمــا كان أكثر تحررا من قيود المنطق القــديم، كان أكثــر إبداعا في تفكيــره» (منطق ابن خلــدون( متأثر بفرانســيس بيكون الذي ثــار على المنطق والتراث الفلسفي القديمين.

وعلــى الرغم مــن أن الوردي فــي أبحاثــه اللاحقة لم يذكر محسن مهدي؛ فإن أفكار محســن مهدي وأساليبه في البحث والتحقيق نالت شــهرة وذيوعــا، واحتلت كتاباته ومؤلفاتــه مكانــة مميزة عنــد الباحثين المهتمين بدراســة المجتمعات والثقافات، والمتخصصين في الفلسفة الإسلامية القروســطي­ة.. فلم يتجاهلوها ولا تنكروا لها، وبسبب ذلك الاجتهــاد والتميز، منحته الجامعة التي درس فيها كرســي الأســتاذي­ة في علم الاجتماع. ومثلما ظلت فلسفة أبي نصر الفارابــي ومؤلفاته مجهولة وغير مقــدرة حق التقدير عند الغربيين للأســف؛ فإن المؤســف أيضا أن إنجازات محسن مهدي في علم الاجتماع ظلت طي النســيان عند أبناء جلدته العرب عامــة، والعراقيــ­ن خاصة.. ليكون مجهولاً شــأنه شــأن الفارابي نفسه. ما يتطلب منا وقفة طويلة عند منجزه والكشــف عن مواطن تميــزه. وهذا هو جوهــر دعوانا إلى شــمول المبدعين والأعلام كافة، بالتخليد والتمجيد، وعدم الاكتفاء بالتصنيم لواحد منهم على حساب الآخرين.

تأسيس المدرسة أشق وأعسر من ابتكار المنهج، بيد أن المنهج يظل أكثر صلة بالحياة، وأشد التصاقا بالواقع الفعلي منها

 ??  ??

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Kingdom