Al-Quds Al-Arabi

علامات زمن مضى

-

■ لم ينج هذا العالــم المصغر من الانفجار الرقمي الــذي طبع عقــودا تفصله عن ماض طبعته بدوره ممارسات اجتماعية تغيرت في معناها ومجراها. لنأخذ مثالا صغيرا مثل الطعام… ماذا عن أوقات الطعام الآن؟ ماذا عن هذه اللحظات على المائدة التي كانــت تمثل ركيزة التعاملات بين كل أفراد العائلة، صغارا وكبارا، آباء وأجدادا «أفراحه افراحهــم، أتراحه أتراحهم» كما يقــال. كان الطعام لحظة لتمتين الأواصر بامتياز.

ومن القراء من عرف «الأســرة الأكبر» حيث يعيش الأجداد والأبناء والأحفاد تحت سقف واحد.

وإذا عانى أحدهم، هب الباقي لتخفيف معاناته عملا بمبدأ «مشــكلة أحدهم، مشكلة الجميع».

هنا نســأل، في عالم كثيرا ما يعتبر فيه أننا دخلنا زمنا آخر، ألا يزال ممكنا ربــط الماضي بالحاضر عندما نحس بأن الماضي غادرنا حيث كنا ننتظره، أكان الأمر متصلا باللقاءات الأسرية التقليدية أم بغيرها؟

هذا الماضي الذي ألفنــاه أرضا خصبة للحــوار البيني، ترك المجال لمتحــدث آخر : فالفضائيات هــي التي صارت المتحــدث، ورب جماعة إنسانية باتت تشاهد صامتة تسلســل الصور من المائدة فتقزمت إلى جماعة من المتلقين.

لكن، قبل أن يتحــول التلفزيون إلى فضائيات، كانت له وظيفة بينة واضحــة المعالم يبدو أنها انتقلت هي الأخرى إلى خبر كان: لقد ســمع الكثيــر منا عن التلفزيون الوطني أو «تلفزيونات الدولة» وقد نشــأت هذه مرتبطة بعوامل توحيد الأفكار والمشــاعر بين الناس في زمن كانت دول لا تــزال مطبوعة بأفكار التحــرر الوطني وأخرى، مثل فرنســا، تواجه صعود تيارات اليســار المتشــدد، فكان التلفزيــو­ن يلعب دور رص الصفوف عبر توحيد العادات والتقاليد وأنماط الســلوك والقيم، وهناك من كان يرى أيضا في التلفزيون الوطني، عن حق، أداة للتثقيف ولتكوين الذوق الفني والحضاري.

فهل طوينا الصفحة؟ التلفزيــو­ن الوطني لا يزال قائما وعاملا، لكن السؤال الذي يطرح نفســه هو إلى أي حد تطرقت العقلية الاستهلاكي­ة إلى منابع توحيد الصفوف ونقل القيم، شأن تلفزيوناتن­ا الوطنية ذات يوم؟ هنا يأتي مقال صدر في الملحق الثقافي لصحيفة الاتحاد الإماراتية عام 2016 بقلم إميل أمين، وقد جعلته مصدرا رئيســيا لتأملاتي في هذه الســطور، ليتحدث عن تدني اهتمامات الأســرة «بالقضايا المصيرية الوطنية» إلى «سياقات التسطيح تارة، و الانبطاح تارة أخرى».

العبارة جميلة وبليغة : ثمة فعلا مســاران يتلاقيــان، أو بالأحرى مســاران يشــكل أحدهما رافدا للآخر، إذ غالبا ما ينم «الانبطاح» عن «التسطيح» فيرفد الأخير السابق. و المصطلحان صفتان أساسيتان لمجتمع الاستهلاك. يحن المقال إلــى زمن مضى… زمــن الاتصال الهاتفي الذي ســبق الإنترنت… وأسعد حين أقرأ: «لم تكن أســاك الهواتف ولا شك تحمل دفء العلاقات الشــخصية، غير أن الصوت قطعا كان يترك بعضا من الآثار النفسية الإيجابية بدرحة أو بأخرى».

وفي ما يلي من سطور، أجد شــيئا من نفسي: «قبل ظهور الإنترنت كان المراهقون يقضون أمســياتهم على خط الهاتف، وكانوا يعتبرون البيت مكانا للراحة واستجماع القوى، يلجؤون إليه في وقت متأخر من الليل بعد أن ينهكهم «التخالط الاجتماعــ­ي» خارج المنزل، وكان الأهل يقلقون عليهم فإذا بهم الآن يتمنون رجوع تلك الأيام».

أحن إلى أمسياتي المغربية التي اكتشفت عبرها وغيرها من مناسبات عالم مضى، اللغــة العربية، أحن إلى «تخالطتي الاجتماعية» مع «أولاد الــدرب» الذين كانوا يعلمونني «الدارجة» أحن إلى «لجوئي إلى البيت في وقت متأخر من الليل، بعد أن سهرنا في مدينة تظل مرافقها التجارية والمقهوية والمطعمية عاملة حتى الوقت المتأخر ذاته»…

أحــن إلى الهاتــف لأن لحظة المكالمــة كانت تســبقها لحظات ترقب وانتظار، فيما الاستهلاك نقيض الانتظار.

أحــن الى الهاتف كما أحن إلى الرســائل الورقية التي كانت تحفزنا لهفة وشــوقا، أحن إلى الأســطوان­ات ودورانها على الجهاز، أحن إلى الأشــرطة التي كانت تلعبهــا تباعا آلات الإذاعــة الوطنية الثلاث من أستوديو الإرسال المباشر رقم 4… أحن إلى زمن مضى كما يحن الشاعر إلى خبز أمه… لقد ميز سيبويه بين زمن مضى وزمن حاضر وزمن لم يأت بعد… هنا، أتســاءل… إلى أي حد يفتح الزمن الذي نعبره وبائيا صفحة جديدة لم نكتبها بعد؟

أيعيدنا إلى زمن مضى أم تراه يزج بنا قطعا، كما نقول في فرنســا، في عالم «الما بعد»؟

 ??  ??

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Kingdom