Al-Quds Al-Arabi

ضد الأجانب وضد الاتحاد... قراءة في مقولات يمين أوروبا المتطرف

- ٭ كاتب من مصر

■ أواصــل في هــذه المســاحة البحث فــي خلفيات وأســباب صعود اليمــن المتطــرف في عمــوم القارة الأوروبية على الرغم من استقرار الدساتير والممارسات الديمقراطي­ة في العدد الأكبر من بلدانها.

خلال الأســابيع الماضية، طالعــت نصوص حوارات أجريت مع سياســيين وبرلمانيين يمينيــن ينتمون إلى أحــزاب حاكمة وأخــرى معارضة، وتابعــت مداخلات إذاعية وتليفزيوني­ة للمتحدثين باســم اليمين المتطرف، وبحثت في دراسات سوسيولوجية عن طبيعة القواعد الناخبــة لليمين ومطالبهــم الاقتصاديـ­ـة والاجتماعي­ة والسياســي­ة وعــن تعبير برامــج الأحــزاب اليمينية المتطرفــة عن تلــك المطالب. كان ســؤالي الأول هو، هل وراء الصعود السياســي والانتخابي لكارهي الأجانب ورافضي اللجوء والراغبين في تفتيت الاتحاد الأوروبي طيف آخر من الأســباب غير الخوف من الغرباء والقلق على المكتســبا­ت الاقتصادية والاجتماعي­ة من استنزاف اللاجئين. أما سؤالي الثاني فوجهته الرغبة في التلمس الموضوعــي والمبتعد عــن المبالغة للتداعيــا­ت الفعلية لصعود اليمــن المتطرف على المؤسســات الديمقراطي­ة بمكوناتها التشريعية والتنفيذية والقضائية.

تشترك أحزاب اليمين المتطرف في إطلاقها للاتهامات بالجمود والفساد والابتعاد عن الناخبين باتجاه أحزاب اليمين واليســار التقليدية. ويعبر اليمينيون المتطرفون هنــا، وكما يدلــل عديد اســتطلاعا­ت الــرأي العام في المجتمعات الأوروبية، عن انطباعات سائدة بين قطاعات شــعبية واســعة لم تعد تتحمل إن جمود برامج أحزاب يمين ويسار الوسط ورفضهم للتغيير أو فضائح الفساد المتكررة التــي ضربت النخــب السياســية التقليدية. في ألمانيا، على ســبيل المثال، تهــدد فضيحة التربح من «تجارة الكمامــات الطبية» التي تورط بهــا برلمانيون

للحزب المسيحي الديمقراطي مصداقية حزب المستشارة أنجيلا ميركل وتحد من رضــاء المواطنين عنه. وفي هذا الســياق، يوظف اليمــن المتطرف اتهاماتــه للأحزاب التقليديــ­ة لكــي يجتذب تأييــد ناخبين بــن الطبقات العاملة والفئات محدودة الدخــل والتعليم من البيض الأوروبيين الذين ســئموا رؤية ذات الوجوه في مقاعد الحكم والمعارضة ويبحثــون عن وجوه جديدة تتحدث بلغتهــم وتســتخدم مفرداتهم عند المطالبة بمحاســبة الفاســدين أو إيقاف تدفق الأجانــب واللاجئين أو الحد من تدخل الاتحاد الأوروبي في السياســات الاقتصادية والمالية وسياســات العمل للدول الأعضــاء. ومن جهة أخرى، يكتسب اليمينيون المتطرفون طابعهم الشعبوي من خلال انتقاداتهم المســتمرة، بــل وعدائهم الصريح، للنخب التقليدية ويبدون بمظهر السياسيين والبرلماني­ين القريبين من هموم ومطالب العمال ومحدودي الدخل من «السكان الأصليين .»

كذلك تتشــابه أحزاب اليمــن المتطرف فــي تبنيها لخطاب سياسي يوظف المقولات القومية لصياغة رفض صريح لوجــود الأجانــب واللاجئين من غيــر البيض ورفض آخر لكيان الاتحاد الأوروبي بوضعيته الراهنة. الوطنيون الإيطاليون، القوميون الألمان، الديمقراطي­ون السويديون، الجبهة الوطنية الفرنسية؛ بمسميات كهذه يتقــرب اليمين المتطرف مــن المشــاعر الوطنية للبيض الأوروبيــ­ن الخائفين على ضيــاع «الهويــة الأصلية» لمجتمعاتهم ويســتخدم خوفهم لاجتذاب التأييد لبرامج سياسية تدعو إلى إغلاق أبواب أوروبا في وجه الأجانب واللاجئين. وبمسميات كهذه أيضا يسجل اليمين المتطرف رفضه لانصهار الدول الوطنية والقوميات الأوروبية في اتحاد يدار من بروكســل ولا يستطيع الناخبون التأثير في قراراته. يزعم اليمين المتطرف ذلك متجاهلا للمكاسب الاقتصاديـ­ـة والاجتماعي­ة الهائلة التــي حققها الاتحاد الأوروبي لشــعوب القارة، ومتناسيا كون الناخبين في المجتمعات الأوروبية يشــتركون في تحديد سياســات وقــرارات الاتحاد عبر انتخــاب حكوماتهم التي تمثلهم في الاتحاد ومن خلال انتخابات البرلمان الأوروبي وهي انتخابات مباشرة يصوت بها الأوروبيون لاختيار هيئة تشريعية تمثلهم وذات صلاحيات واسعة.

بالدعوة إلى إغلاق أبــواب أوروبا في وجه الأجانب واللاجئين وإغــاق أبواب المجتمعــا­ت الأوروبية على قومياتها البيضــاء «الأصلية» يســجل اليمين المتطرف خروجــه على توافــق الأحــزاب التقليدية فــي اليمين واليســار الرافض لعزل القــارة الأوروبية عن محيطها الإقليمــي والعالمــي والمتبني أيضــا لتعميــق التكامل والتعاون داخل أوروبا.

تظهــر اســتطلاعا­ت الــرأي العام وكذلك دراســات تفضيلات الناخبين وســلوكهم التصويتــي أن القواعد الناخبــة لليمــن المتطرف فــي أوروبا لم تعــد ترى لا السياســة ولا المؤسســات الديمقراطي­ة كمجال للصراع الســلمي بين اليمين واليســار حول قضايــا مثل النظم الضريبية وسياســات العمل والأجور وإعانات البطالة والعجــز والرعاية الاجتماعية والصحيــة والتعليمية. علــى النقيض من ذلك، يرى ناخبــو اليمين المتطرف في السياســة صراعا هوياتيا وثقافيا بين دعاة فتح أبواب أوروبــا للأجانب واللاجئــن وبين المطالبــن بإغلاق الأبواب، بين دعاة تبني قيم عصرية تحض على الحرية والمســاوا­ة وقبول الآخر وبــن الباحثين عــن إنقاذ ما يرونــه الهوية الأصلية والمتمســك­ين بفهم تقليدي للقيم الدينية المسيحية يرفض على سبيل المثال زواج المثليين. يرى ناخبو اليمين المتطرف في السياسة صراعا هوياتيا وثقافيا بين دعاة الانصهــار في اتحاد أوروبي تذوب به القوميات واللغــات ويتضامن به الأغنيــاء مع الفقــراء وبين القوميين المدافعين عن المشــاعر الوطنيــة والمطالبين بالحفــاظ على القوميــات داخل أوروبا حتى وإن كان ثمن ذلــك هو الخروج من الاتحاد الــذي ضمن لبلدان القــارة الاســتقرا­ر والرخاء إن في أعقاب الحرب العالمية الثانية أو في أعقاب انهيار الكتلة السوفييتية.

هــذه الحقيقة، كــون ناخبي اليمــن المتطرف يرون السياسة كمجال لصراع هوياتي وثقافي يؤيدون به من يرفع لافتات إغلاق الأبواب والدفاع عن الهوية الأصلية والحفاظ على القوميات داخل أوروبا، تفســر محدودية اهتمــام ناخبي اليمــن المتطــرف بتفاصيــل البرامج السياســية لأحزاب كالجبهة الوطنية الفرنسية وحزب البديل لألمانيــا وحزب ديمقراطيي الســويد والأحزاب اليمينيــة في إيطاليــا. فالتورط في الصــراع الهوياتي والثقافي لا يســتدعي صياغة برامج سياســات محددة فيما خــص النظم الضريبية وســوق العمــل والرعاية الاجتماعيـ­ـة، ولا يســتلزم التمايــز فــي الأطروحات الانتخابية عن المقولات البســيطة التي يتداولها الناس حول وجود الأجانب واللاجئين والدور الفعلي للاتحاد الأوروبــي. المطلوب فقط هــو رفع اللافتات المناســبة والقرع المستمر لطبول جمود وفســاد النخب التقليدية والخوف من الغرباء وحتميــة حماية الهويات الأصلية والقيم التقليدية وضــرورة مواجهة الانصهار في اتحاد أوروبي يلغي القوميات.

هكــذا، يحقق اليمين المتطرف مكاســبه السياســية والانتخابي­ة ويضغط بقوة على المؤسسات الديمقراطي­ة في أوروبا.

 ??  ??
 ??  ??

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Kingdom