Al-Quds Al-Arabi

التشكيلي المغربي عباس صلادي والفن في أبعاده الغرائبية

التشكيلي المغربي الرَّاحل عباس صلادي

-

■ هنــا مقاربة للتجربة التشــكيلي­ة للفنــان المغربي الراحل عباس صلادي )1950- 1992( الذي بَصَمَ مساره الجمالي بإبداعات صادقة عبَّرت عن حياة قاسية عاشها مثل «زاهد ناســك» فضل العزلة والانفراد بالذات، بعد أن تأكدت لــه مجانية الحياة المبنية علــى الخداع والأنانية وعدم الاعتــراف.. وقد واجه ذلك بإبداعــات فنية قامت كثيــراً على الغرابة والإلغاز الممتــزج بالأبعاد الفانتازية والميتافيز­يقيــة، التي لــم يكن فهمها وفك ســرائرها أمراً سهلاً ومستساغاً لعمق التعبير وصدقيته لدى هذا الفنان النادر، المتفرِّد والاستثنائ­ي..

تراجيديا الإبداع

برز الرســام عباس صلادي في وقت كان فيه المحترف المغربي منشغلاً بأسئلة الحداثة الفنية الطارئة، ولم يكن ولوجه مجــال التصوير عاديّاً، حيث امتــزج عنده الفن بدروس الفلســفة التي تغلغلت في فكره لما كان طالباً في كلية الآداب والعلوم الإنســاني­ة فــي الرباط منخرطاً في الحركــة الثقافية الطلابية ومدافعــاً عنها، قبل أن يصاب بنوبة عصبيــة وورم دماغي رمى به نحو دائرة الانطواء المديد، والاغتراب القاتم والمكوث الإكلينيكي الاضطراري لفترة في مستشــفى الرازي للأمراض العقلية والنفسية في سلا.

وقد شكل تعاطيه للرسم في هذه الظروف الحياتية والنفســية الصعبة والمعقــدة، متنفسّــاً كان ينتصر به على هذه «العزلة القســرية». تعــود أولى الأعمال الفنية الرســمية لهذا الرسام إلى عام 1978، لكنَّه زاول الرســم قبل هذا التاريخ خفية وبعيداً عن الأنظار ولم يكن يولي أي اهتمام لأعمالــه التي كان «يوجهها فقط للســماء.. للســطح.. لأناه، ولكل النــاس الذين يصادفونــه أو يمــرُّون لرؤيته» كما يقــول. وظلَّ الرســم منذ هذه البداية يتماهي فــي لوحاته مع ذاته ومع ما يحيط به من تخييلات واســتلهام­ات تصارع المنطق وتتجاوز الواقع، كان ينسجها على نحو غريب باعث على الحيــرة وعصي على الفهم والتفكيك في العديد من الحالات. ولم يكن ابتعاده عن عالــم الضوضاء والثرثرة والشــهرة المجانية عداءً أبداً، قدر ما كان «اختياراً إجباريّاً» واستجابة للذات، كما لو أنه كان يردِّد مع إرنســت همنغواي «ابتعادنا عن البشر لا يعني كرهاً أو تغيُّراً، العزلة وطن للأرواح المتعبة.»

اتَّســمت لوحاتــه التصويريــ­ة الأولــى بالمنحى التشــخيصي الفطــري، حيث جسَّــد فيها مشــاهد اجتماعية مســتوحاة من الحياة اليومية في مراكش، قبــل أن ينزع أســلوبه الفنــي لاحقاً وتباعــاً نحو الغرائبية، بما هي «لحظــة اقتناص للحياة المتخيَّلة» حســب توصيــف رولان لوبيــل، لاســيما بعد أن تشــتت ذهنه وتفرَّق بســبب نكبــات ومآسٍ اجتماعية حلت به )رحيل والده، فراقه المبكر مع أمــه..( وبَدَت لوحات الجديدة تشــكلها بلاغات بصرية مُغايرة عاكســة لجراحاته وانكســارا­ته الوجدانية. من ثمَّ نَحَــتْ إبداعاته الفنية منحى غرائبيّــاً خارج المألــوف، وخارج ما هو شــائع ومتداول محدثاً بذلك تحوُّلاً عميقاً في تصاويره التي أمســت منذ ذلك الوقت مقترنة بنوع من «الفانتازما» الدَّالة على الخيال والغرابة والتهجين، وبَدَا فنه يُبْرِزُ اهتمامه بالغرابة على منوال ما قدَّمه بعض الرسامين الســيريال­يين والدادائيي­ن والرمزيين والميتافيز­يقيين منذ أواخــر القرن التاســع عشــر والذيــن ظهرت إبداعاتهم الفنية كـ»حالة تقع ما بين الحلم واليقظة.»

هكذا انبثقــت لوحاتــه الجديدة من رحــم الألم والوجــع، الأمــر الذي جعــل تجربتــه التصويرية تَتَّسِــمُ بالحضور الرمــزي للنماذج المرســومة، في أبعادها التعبيريــ­ة الإيحائية، والتي نقرأ فيها بنيات فانتازيــة حاكية بأصوات متعــدِّدة تقرِّرها المفردات التعبيرية )الشــبه الســيريال­ية في تراكيبها( التي يوظفها: عصافير وطيور برؤوس بشــرية، نســوة عاريــات بســحنات فرعونية، صوامــع، طواويس، شموع، شــرفات وأقواس متجاورة، إلخ، وذلك وفقاً لتقنيــة لونمائية )أكواريل( دقيقة ومكســوة برمدة

وبتخطيطات غرافيكية «تهشــير» إلــى جانب تلوينات خفيفة وشــفيفة تفرضها تقنية الرسم والصبغة المختارة )الغواش(، وكذا اقتصاره في بعض الأحيان على السواد والبيــاض باعتماد الحبــر الصيني، كما في تشــكيلاته وزخارفه الهندسية للأرضيات المكوِّنة للزليج )البلاط(، مثلما انبثقت لوحاته كذلك من ولعه بالمحكيات والسرود الشــفاهية القديمة، التي تُرَدَّدُ كثيراً على ألســنة الرواة الشــعبيين، خصوصاً منها الحكايات التراثية المشــوِّقة القائمــة بدورها علــى الغرابة والإثارة التي تجسِّــدها الأحداث والوقائــع والقوى الأســطوري­ة الفاعلة، التي تنهض عليها الحبكة في هذه المحكيات والمسرودات المثيرة للدهشة والذهول والمتعة لدى السامعين، والمتحلقين حول الحكواتيين، والتي ظلت تحتشد في ذاكرة الفنان صلادي لتغذي خياله الذي امتلأ بصور السِيَر وقصص الخوارق والأســاطي­ر والأحاجي الشــعبية )لَخْرَايَفْ( الموسومة بالمبالغة والنأي عن الواقع.

ياله مــن احتواء رمزي مكثف للقص الشــعبي، حيث لوحاته تخشــى الفراغ، لتبقــى بذلك مفعمــة بعناصر التعبير. هذا الأمر جعل صلادي رسام الفضاءات والأمكنة بامتياز.. فهو يؤثث أمكنتــه الجمالية ويعنى بتفاصيلها الحميمية )الســاحة، البهــو، الضريح، المســجد(، وهنا نســتحضر ولعه الشديد بالتشــجير والتوريق، وكأننا أمــام أفضية تقليديــة محملة بدلالات الحكــي الحميمي

والسرد الذاتي..

يتأسَّــس الحــوار البصــري الحكائــي فــي لوحاته وتصاويــره من خلال العلاقــة الأنطولوجي­ة القائمة بين الإنســان والحيوان، وبين عوالم الفنان الفانتاســ­تيكية الملأى بحمولتها الثقافيــة والقائمة على الغرابة والتفرُّد، مشــكّلة في غرائبيتها مقامات باطنية مشــحونة بالقلق والاضطراب.

لذلك ظلت لوحاته تثير دهشة الناس بفعل الطابع الغرائبي، الذي يَسِمُهَا، فهي تمنحهم الحق في الحلم وخلخلة خيالاتهم، بتكويناتها ونماذجها المرســومة على نحو خــارق، مدهش للحــواس ومخالف لما هو طبيعــي وواقعي ويصعــب اعتماد العقــل في فهمها وتفسيرها.

فما الذي تخفيه وتظهره لوحاته الفنية في آن؟ هي، دون شك، ردّ فعل سيكولوجي و»ترجمة ذاتية مليئة بمجموعة من التفاعلات النفســية، كمرجع لتجاربه الشخصية الســابقة من منظوره للحقيقة والوجود بمعتقداتها وتعقيداتها التي كوَّنت لها عالماً خاصّاً في ذهنه». هذا العالم يحكمه البُعد الغرائبي الذي يتبدَّى في لوحاته من خلال مجموعة من المكوِّنات التعبيرية المتآلفــة تربــط الزمان بالمــكان، وتمنح الأجســاد والشخوص المرسومة ســمات ميثولوجية تحمل في بنياتها العارية جــزءاً من نعومتها وفطريتها، وتبدو مطروزة وموشاة بعناصر تراثية متنوِّعة تحيل على عوالم «ألف ليلة وليلة» وتتقاطع قليلاً مع فن الرسوم التصغيرية المنمنمة..

مجازات بصرية

أن يرسم عباس صلادي، معناه أن ينجز إبداعات لصورته الشخصية عبر تعبيرات بصرية أيقونوغراف­ية، ترســم متاهات ســير ذاتيــة «أوتوبيوغرا­فيــا» تنهض كأطياف وكأشــباح، بل ملأى بحالات الغشية والحضرة والانصهار الكلي مع الذات، لكنَّها لا تخلو من حب وجمال. هذه المتاهات تجد صداها في بعض الميثولوجي­ات القديمة المليئة بالعجائب والغرائب التي يتفاعل فيها صراع الخير والشر، وتحيا فيها غرائز الحياة في مقابل غرائز الموت.. ويبدو الفنان صلادي من خلال ســيرته اللونية مشدوداً إلى الغرائبية، تجذبه الأمكنة الأخرى على نحو طقوسي، يتلاءم مع كلام المصوِّر الإيطالي جورجيو دي شــيريكو: «يجــب أن تعيش فــي العالم، وكأنك تعيــش في متحف ضخم من الغرائب .»

فكم هي مذهلة ومحيِّرة هذه الســيرة المصاغة بأنفاس صوفية وبشــفافية نورانية ترسم مســاراً لونيّاً بأسرار ومكنونــات ســرمدية تبعث علــى التأمُّل فــي الذاكرة والجســد، أو على الأصح ذاكرة الجســد بما ينهض عليه من دلالات وموحيات رمزيــة يصعب فصلها عن التجربة

 ??  ??
 ??  ?? من أعمال الفنان
من أعمال الفنان
 ??  ??

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Kingdom