Al-Quds Al-Arabi

جمالية الرسالة القصصية في كتاب «البخلاء» للجاحظ

-

■ يعد بعــض الباحثين النص القصصــي، في كتاب «البخــاء» للجاحظ، قصة قصيرة. هــذا التصنيف غير صحيح، ذلــك أن القصة القصيرة نــوع قصصي حديث، وقد اســتُخدم قديماً مصطلح الرِســالة القصصية، ليدل على هذا النوع من القص، وســوف نتبناه هنا محاولين في مــا يأتي، تبين ما يتميز به مــن خصائص أدبية تمثل جماليته.. من هذه الخصائص:

مادة القص

المادة القصصية الأوليــة، في قصص كتاب «البخلاء» مأخوذة/«مُلتَقَطَة» من الحياة الواقعية اليومية المعيشة، وهي مادة مختارة مما ســمعه الجاحــظ أو رآه وخبره. وأصحابهــا معروفون، ومعرفتهم تضيف إليها حســناً، يقول الجاحظ في هذا الصدد: «هــذه مُلتَقطات أحاديث أصحابنا وأحاديثنا وما رأينا بعيوننا» (كتاب البخلاء ـ بيروت ـ دار الهلال (. والشخصيات التي تُروى قصصها حقيقية، نذكر منها على سبيل المثال:

الحرامي: أبو محمد عبد اللــه، أحد البخلاء. الكندي: أبو يوســف، يعقــوب بن إســحق الكندي الفيلســوف العربي، اشــتهر بالبخل. ســهل بن هــارون: أبو عمرو، أحد كتاب العصر العباســي.. يســتخدم الجاحظ، بغية جعل «مُلتقطاته» اللحظات النادرة ـ «المهمة» من الحياة، وقائعية، الألفاظ الخاصة بكل فئة من فئات شخصياته، ويفســرها، ليُفهم القارئ معناها. ومن نماذج ذلك نذكر: الفانيد )فارسي معرب، حلواء(. الخزيرة )حلواء(.

عجز الكتابة وإثارة تخيل القارئ

تمثل واقعيــة المــادة القصصية عنصراً مــن عناصر جودتهــا؛ إذ يطيب جــداً، كما يقول الجاحــظ، إذا رأيتَ الحكاية بعينيك.. ويقر الجاحظ بــأن الكتابة تعجز عن تصوير كل شيء، فلا بد للقارئ من التخيل، وبغية توفير هذا العنصــر يحرص على أداء القص بلغة شــخصيات القصة، فيقول على ســبيل المثــال: «وإن وجدتم، في هذا الكتاب، لحناً أو كلامــًا غير مُعرَب، أو لفظــاً معدولاً عن جهته، فاعلموا أنّا إنما تركنا ذلك لأن الإعراب يبغض هذا الباب ويخرجه من حده.»

غرائب وأعاجيب ونوادر

يســمي الجاحظ ما يختاره «مُلتَقَطَات» أي أنه يلتقط الحدث الدال، أو ما يســمى، بلغة النقد الحديث، اللحظة المهمة الكاشــفة واقعاً، أو شــخصية أو موقفاً، ويسمي هــذه الملتقطــا­ت التي يختارهــا «غرائــب» و«نوادر» و«أعاجيب».

مشاكلة القصص والأحاديث

وهو، إذ يــروي الغرائــب والأعاجيــ­ب والنوادر، يحرص على أن يتصف ما يرويه بما يســميه مشاكلة الأحاديــث بعضها لبعض، فيقول على ســبيل المثال: «وليس هــذا الحديث من حديث المرَاوِزَة لكن ضممناه إلى ما يشــاكله» «وليس هذا الحديث لأهل مرو، لكنه من شكل الحديث الأول.»

البناء القصصي: السند/الراوي والمتن

يتألف بنــاء كل قصة من ســند ومتن. الســند، فــي قصص البخلاء، بســيط، يتمثل فــي محدث/ راوٍ واحد يــروي للمؤلف الذي يــؤدي القص من منظوره. والراوي/السند شخص حقيقي معروف من أصحــاب المؤلــف ومحدثيه، مثــل ثمامة بن الأشرس وإبراهيم بن سيار النظام. يروي الراوي المحدث مادة قصصية واقعيــة، فيرويها الراوي/ المؤلف، فيشــكل بناءً قصصيــاً متخيلاً ذا مرجع

واقعي، على مســتويي الســند والمتن، فالقصة المدونة، هنا، تخلصــت من الإســناد الموثق المعــروف، واكتفت بإســنادٍ يقدم الحكاية، ما يعني تقديم نصوص قصصية ذات مرجعية واقعية، على مستويي السند والمتن يؤديها راويان: أولهما يؤدي الحكاية، وثانيهما ينشــئ القصة، أي يقيم البنــاء القصصي المتخيل من هذه الحكاية. وفي كثير من القصص يروي الراوي، وهو المؤلف، عما شاهده هو، فيكون هو الســند، وهذا يعني أنه يمكن تقسيم سند القص إلى ثلاثة أقســام : أولها محــدث المؤلف، وثانيها المؤلف نفسه، وثالثها من دون سند.

يؤدي الســند وظيفة إثبات صدقيــة القصة/الحديث والإقنــاع بها، كما أنه يتبــع تقليداً كان ســائداً في زمن كانت الشــفوية فيه مصدر الثقافة، وكان لا بد من المرور بمرحلة يتم فيهــا التخلص من آثارها، وقد أدى الجاحظ دوراً فــي هذا المجال. ويبدو أنــه كان يحرص على إقناع المتلقي بصدقية حديثه، فعندما يجد حاجة إلى ذلك يأتي الإســناد مركباً، ومن نماذج ذلك قولــه: «حدثني أحمد بن المثنى عن صديــق لي وله، ولقد رأيتــه». والراوي/ المؤلــف يروي ما يحــدث به من منظــوره، ويتدخل في حالات كثيرة، فيعرف، أو يشــرح، أو يستنتج، أو يفسر، أو يلحــظ المبالغة ولا يقبلها، يروي عن خالد بن يزيد أنه كان يمسح اللقمة بالجبنة، فيترك فيها أثراً، ولما جاء ابنه قال: «أضعها من بعيد، فأشير إليها باللقمة» ويعلق: «ولا يعجبني هذا الحرف الأخير.»

يتدخــل الراوي، كمــا يبدو، في حــالات كثيرة، لكنه يكتفي بالتعريف والشــرح والتفسير وملاحظة المبالغة، ولا ينصح ولا يعظ، ولا يعلن رأياً أو موقفاً مباشراً، وإنما يبقى موضوعياً حيادياً، يروي، ويترك للمتلقي أن يتبين الدلالة. وقد يشير إليها فيعجب مما يحدث.

النوع القصصي:

الجاحــظ إذ يختار/يلتقط الحــدث الواقعي الغريب العجيب الــذي يبلغ فيه صاحبه مبلغــاً لم يبلغه أحد، فيُكثــر الناس الــكلام عليــه، ويراه أصحــاب البخل فضــاً، وإذ يحــرص علــى أن تتوافــر المشــاكلة في الأحاديث التــي يرويها، يؤدي هــذا الحدث تحت عدة عناويــن، فيســتخدم مصطلح قصة وحديــث وطرفة، ويغفــل ذكر هذه المصطلحــا­ت، أحيانــاً، فيكتفي بذكر الاســم، وقد يضيف طُرفة إلى الاســم فــي موضع، ثم يكتفي بذكر الاســم في موضع آخــر، فقد ورد في مقدمة

الكتــاب: «طُــرَف أهل خراســان» وفي المــن «أهل خراســان» ولعله لا يميز القصة مــن الحديث، فيقول، على ســبيل المثال، في عنوان إحــدى القصص: «قصة محمد بن أبي المؤمل» وعندما ينتهي من ســردها يقول: «فهذا ما كان حضرني من حديــث ابن أبي المؤمل». لكن يلاحظ أن الحديــث يبدأ بـ«قــال» وأن القصة تتضمن مجموعة أخبار عن الشــخص، وأن القصة التي تُعنون باسم الشخص تتضمن مجموعة أخبار ترسم شخصية، وأن الطرفة تتمثل في خبر قصير، يثير مفارقة كاشــفة أو تضــاداً لافتاً، كما في الطرفة الآتيــة: «قيل لرجل من العرب: قــد نزلت بجميع القبائل فكيــف رأيت خزاعة؟ قال: جوع وأحاديث». فهــذه الثنائية: جوع وأحاديث تكشف واقع هذه القبيلة التي تعاني من الفقر، وتداويه بالحكــي، فالحكي يعوض الفَقْد الــذي لم يتم تعويضه بالفعل، فالعجز، هنا، هو الذي يولد الحكي الكثير.

ويمكن القول: إن هــذه القصص جميعها تندرج تحت عنوان الرســالة القصصية التي تتضمــن مجموعة من القصص هــي قصص إطار، فيكون الإطــار إما مجموعة شخصيات كـ»أهل خراســان» و»قصة أهل البصرة بين المسجديين» أو شــخصية معينة، كقصة زبيدة بن حميد أو الكنــدي أو خالد بــن يزيد.. أو مفارقة كاشــفة تمثلها طرف شتى، مثل الطرفة التي ذكرناها قبل قليل، ونعدها أنموذجاً لهذا النوع من القصــص، لن نكرر الحديث عنه فيكون الإطار طرافة الحدث. وهكذا، كما يبدو، يتشــكل نوع أدبي يتخذ شكل رسالة قصصية، أو رسالة - قصة، تنتظم في إطارها قصص إطار، تنتظم في إطارها قصص قصيرة جدا. ويتضمن الإطار خطاباً تحت عنوان واحد: موضــوع واحد. يُســتخدم، فــي هذا الخطــاب، الجدل والخبر، أو الآية القرآنية الكريمة، أو الحديث الشــريف، المؤيــد للنتيجة التــي ينتهي إليها هــذا الجدل. وتحكي القصص أخباراً تكشــف الظاهــرة الاجتماعية الغريبة: البخل.

الوحدات السردية/الوظائف

تبدأ القصة/الإطار: «قصة المســجديي­ن» على ســبيل المثال، بالتعريف بالمســجدي­ين وبمــا يجعلهم جماعة، ما يدفعهم إلى التذاكــر والتدارس؛ ذلك أن «مذاكرة الرجال تلقح الألباب». يتذاكر المســجديو­ن بغية تحصيل المتعة والفائدة، فيتشــكل إطــار القص ويســوغ أداؤه. ويبدأ الراوي بقصة: «الحمــار والماء الأجاج». الراوي شــيخ منهم، لا يسمى، ما يدل على حالة، وهو شخصية مشاركة. وفي قصــة: «مريم الصناع» يؤدي القص شــيخ آخر، وهــو راوٍ حيــادي، عليم، يبدأ بســؤال يــؤدي وظيفة التعريف بالمرأة، فهي امرأة عادية لم يشــعر أحد بموتها، يسوغ هذا التعريف الحديث عنها، ويثير فضول المستمعين وتشوقهم. وفي قصة: «ماء النخالة» يبدأ الراوي بخطاب يــؤدي وظيفة التعريف، ثــم يلي الفَقْــد المتمثل بالســعال، فتعويض الفَقْد بماء النخالة، فتعريف هذا الماء.

خصائص البناء القصصي

تفيد قراءة هذا الأنموذج من نماذج القصة الإطار أن بناءها القصصي يتمثل في ما يأتي: ـ قصص إطار تنتظم في إطار رســالة، موضوعها واحد. ـ قصص تنتظــم في إطــار القصة الإطــار، بغية تحصيل الفائدة والمتعة، من مذاكرة الرجال. ـ تعــدد الرواة، وكل منهم شــخصية مشــاركة في القصة الإطــار، وموضوعها مذاكــرة الرجال، وتنوع الــرواة في ما يتعلــق بكل قصة بين الراوي المشــارك والراوي العليم، وتعددهم، إضافــة إلى الراوي كاتب الرسالة. ـ تشــكيل بنيــة كل قصة مــن الوحدات الســردية/ الوظائف الآتية: التعريف، الفَقْد، اتخاذ القرار لتعويض الفَقْد، الخروج إلى تنفيذ القرار، الإنجاز، عظمة الإنجاز/ تميــز الشــخصية. توفيق اللــه: هذا فتح إلهــي، تدبير ســماوي، تقرير خطــاب «الإصلاح» وتأكيــده، تعليق المســجديي­ن المتحدثين. قد يختلف نظام ظهور الوحدات/ الوظائف، لكن هذه هي الوحدات الأســاس التي تشــكل بنية النص الســردي. ويلاحظ، في هــذه القصص، دقة اللفظ، وقصر العبارات وتوازنها والسرد المسبب النامي بفعل العوامل الداخلية.

الشخصيات

شخصيات قصص البخلاء شخصيات حقيقية، كانت معروفة في زمانها، ومشهورة، وبعضها من الشخصيات العامة الأدبية أو الفكرية أو السياســية. يسمي الجاحظ بعض هذه الشخصيات، ولا يسمي بعضها الآخر. تتصف هذه الشــخصيات ليس بالظرف وحسب، وإنما بالطيبة وطول الروية وبيان الحجــة وحضورها وعمق الرؤية، عــاوة على الثــراء، في الغالــب. كما تتصــف بإعمال العقل، والجدل، أو بـ»آلة علم الكلام» وبهذه الميزة كانت تتفاضل.

تقنيات قصصية

من التقنيات القصصيــة التي يتبينها القارئ، في هذه القصص نذكر:

وصف الشخصية وهي تعمل/السرد التصويري ومن نماذجــه: «ودق عليه الباب دق واثــق، ودق مُدل، ودق من يخاف أن يدركه العســس أو أحــد يتبعه، وفي قلبه من الخــوف ما يزيد عن الكفاية». والتصوير الســردي. الــراوي لا يقول، وإنمــا يترك للوصــف أن يقول، ومن نماذج ذلك نذكر الوصــف الدال على البخل: دخل جعفر بن يحيــى على الأصمعــي «فرأى حُباً )جــرة صغيرة( مقطوعــة الــرأس، وجرة مكســورة العــروة، وقصعة مُشــعبة، وجفنة أعشــاراً، ورآه على مصلى بالٍ، وعليه بركان أجرد. وهكذا يبدو الجاحظ كأنه يرســم المشــهد. وتتميز كتابته بالتصوير الساخر، الفكه، الحسي، القائم علــى الثنائيات والانزيــا­ح إلى الرســم الكاريكاتي­ري بالكلمات.. والَمشْهَدة المتمثلة برسم المشهد، كما في قصة أبي جعفر الطرسوســي، وهي طرفــة قصيرة. يرى بعد أن يرويهــا أن رؤيتها بالعين تجعلهــا «تطيب جداً، «لأن الكتاب لا يصور كل شــيء، ولا يأتي علــى كنهه، وعلى حدوده وحقائقه». وفي هذا إشــارة إلى تشكيل المشهد، وإثارة خيال القارئ ليتصوره مجسداً أمامه. والمناجاة التــي يتخذها خطاب البخيل، في عــدة حالات. والبنية المحكمة، فقص الأحداث يأتي متسقاً، يتتابع بعضه في أثر بعض، جيد السياق، وهذا هو معنى السرد في الأساس. ويبــدو هذا الإحــكام واضحاً كذلك في دقــة أداء اللفظ وجودة اختياره. والأســلوب الأمثل فــي الكتابة. ومن أبرز مزايــاه: الصنعة والوضــوح، والإبلاغ.والإيجاز، والتــوازن، والازدواج. ويعني التوازن تعادل الفواصل ومساواة الواحدة منها للأخرى. ولما كانت غاية الكتابة الفهم والإفهام، كان الحرص على الكشف، من نحو أول، وعلى الإيصال والتأثير من نحوٍ ثانٍ.

يتيح ما ســبق القول: كتــاب «البخــاء» مرحلة من مراحل تطور القصص العربي القديم، يتصف بخصائصه المميزة، وقــد كان له تأثيره في تطــور القَصص العربي القديم خاصــة، وعلى النثر العربي، فــي جميع عصوره عامة. والحديث، في هذا الشأن يطول.

 ??  ??
 ??  ??

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Kingdom