Al-Quds Al-Arabi

محمد بنيس: المبادرات المتميزة

-

■ خطوة طيبــة أقدمت عليهــا أكاديمية المملكة المغربية بتكريمها للشاعر والمثقف محمد بنيس يوم الأربعاء 24 مــارس/آذار 2021. صارت التكريمات، في حياتنا الثقافية الحاليــة، دليلا على الاعتراف بمجهودات مــن اضطلعوا بجليــل الأعمال لفائدة الثقافة المغربية والعربية. وهذا تقليد محمود. لكن الحديــث عن ثقافة الاعتراف، لا بــد أن يحمل بعدا آخر، يتمثل في وجوب الاعتــراف كي تتحول هذه الثقافة إلى واقع يتســع لكل مــن تميز بأداء واجب حقيقي، مســتمر ودائم، ويترجم من خلال أفعال لا الاكتفاء بعبارات التقريض والثناء فقط. ولا بد في هذا النطاق من التفكير في كيفية ترجمة التكريم إلى واقــع ملموس، عبر خلق قنوات لتطوير المشــروع الذي نذر له المكرم حياته مثلا.

عرفــت محمــد محمــد بنيــس منــذ أواســط الســبعيني­ات، عندما اقتنيت ديوانه الأول «ما قبل الــكلام» (1969( فرأيــت فيه تجربــة مختلفة عما اعتدت قراءته، وأنا أحاول وقتها مراودة القصيدة. وبعــد صدور مجلة «الثقافة الجديدة» ســنة 1974 ظهر لي أننا أمام مشروع متميز عن كل المجلات التي كانت تصدر وقتها في المغــرب مثل، «أقلام» وآفاق اتحاد كتاب المغرب. وســعدت بالمشاركة في العدد الخاص بالنقد بمقالة تحت عنوان: «تساؤلات حول الوضع النقدي في المغرب» (1978( حين كان النشر في الملحق الثقافي لجريدتــي «العلم» و«المحرر» لا يتاح للجميــع. أما الكتابة فــي «الثقافة الجديدة» فدونها خرط القتاد.

وتعمقت معرفتي بــه في لقاءات فــي المحمدية والرباط والــدار البيضاء. وبعد صدور رســالته حول «ظاهرة الشــعر المعاصر في المغرب» 1978(،) نظمت جمعية الرواد في دار الشــباب بوشنتوف، التي كان يرأســها الزميل محمــد بهجاجي، وكنت عضوا فيها، قراءة لكتابه هذا شاركت فيها بدراسة تحت عنوان « ظاهرة الشــعر المعاصر في المغرب: المنطلق والاستنتاج» إلى جانبه والمرحوم عبد الله راجع. ومنذ ذلك الحين، وأنا أكبر في الرجل مواقفه الصارمة، ورؤيته الدقيقة للواقع وللثقافة، وخلق المبادرات المتميزة.

جمعنــا اتحاد كتــاب المغرب، والعمــل الثقافي وكلية الآداب في الرباط. وكان صوت محمد بنيس قويا في التعبير عــن مواقفه بجرأة وصرامة جرت عليها مواقف متباينة. وفي كل مرة كان يغرد خارج السرب، مدشنا في كل مرحلة مبادرة لا يمكن إلا أن يكون لها جرس قوي في الساحة الثقافية. تعددت اجتهاداتــ­ه وتحولاته الثقافيــة والإبداعية، وهو دائم البحث عما يعزز قناعاته الفكرية، ليس بهدف الاكتفــاء بالكلام، لكــن بتحويلها إلــى واقع. كان ضمن أعضاء المكتب المركــزي لاتحاد كتاب المغرب، وعندما انسحب منه تعبيرا عن تصور للعمل، بادر إلى البحــث عن قناة أخرى للعمــل، فجاءت مجلة «الثقافة الجديدة».

أصــدر محمــد بنيــس «الثقافة الجديــدة» مع المرحوم مصطفى المســناوي، وشارك في تحريرها محمد البكري وعبد الله راجع وعبد الكريم برشيد. وفي هذا نلمس قدرته على اختيار من يشتغل معهم، والهدف الذي يرمي إليه. كانت المجلة صوتا مختلفا، ومتطلعا إلى نشر ثقافة جديدة فعلا. ومن يتصفح أعدادها اليوم، يتبين له تصور مختلف لما ينبغي أن يكون عليه العمل الثقافي، الذي يشــيد للمستقبل. ورغم ظهور مجلات تســير في الفلك نفســه، ظلت محافظة على مســتواها الراقــي والعميق، إلى أن تعرضت معها للحجب سنة 1984. لكن توقف مجلة «الثقافة الجديدة» عن الصــدور لم يوقف دينامية محمد بنيــس، فكانت مبادرة إصــدار «دار توبقال للنشر» (1985( صحبة الديوري وناظم عبد الجليل وعبد اللطيف المنوني. وكما كانت الثقافة الجديدة منبرا لنشــر الأصيل والهادف فــي مجالات الإبداع والنقد والفكر، كانت توبقال، واختيار الاســم دال على المسمى، شامخة في انتقاء العناوين والمؤلفين. كانت تجربة متميزة عن مختلف دور النشر المغربية بل إنها ســتفرض نفســها على الصعيد العربي. لا يمكن لقارئ أن يقــول إن هذه الدار نشــرت كتابا لا يصلــح للقراءة، ســواء كان تأليفــا أو ترجمة. وعندما كنــت في «أنوال» كنت أتوصل دائما بجديد منشوراتها، فأكتب عنها ما يليق بالتعريف بها.

إن المبــادرا­ت المتميــزة التي ســاهم فيها محمد بنيس من خلال المجلة ودار النشــر، ما كان ليكون لها الأثر التي تركته واقعيا لولا الحدب الشخصي، والحرص على الجدية والإتقان. فإذا كانت الجدية متصلة بالمحتــوى، كان الإتقان مرتبطا بالشــكل. ولما كان المحتوى ذا بعد معرفي جديد، كان الشــكل يتصــل بجماليات الفــن الرفيع. ولا غــرو في ذلك فانخــراط بنيس في الشــعر، وولعه بالتشــكيل، جعله يرى الجمــال في كل شــيء. فالمحتوى دون شكل هراء، والشكل بلا محتوى فراغ. وما انخراطه في الشــعر البصري، وتأسيســه مدرسة شعرية مع راجع وبلبــداوي ألهمت الإبــداع والنقد. لكنها تتجلى بصورة أخرى في منشــورات توبقال، وفي كتبه التي صدرت بمسحة فنية تجعلها تحفا رائعة، كتاب الحب نموذجا.

زاوج محمد بنيس بين الإبداع والنقد والترجمة، وإثبات الحضور كوســيط ثقافــي من خلال المجلة ودار النشــر، فــزاوج بــن الإبــداع والعمل، بين النظرية والممارســ­ة. وفي كل منهما كانت إسهاماته تغني الحقل الثقافي المغربي والعربي. تكريم محمد بنيس واجب ليس لتأكيــد حضوره وأدواره، لكن أيضا للإسهام في إكمال مسيرته.

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Kingdom