Al-Quds Al-Arabi

«الجهة الأخرى من الأشياء» أو ديناميات الانفتاح على روح العالم

-

■ بعــض الأصــوات الشــعرية عصيــة علــى كل أنواع النقــد النمطيــة، أو فلنقل لا تقدم نفسها بسهولة للمصطلحات النقدية المســتهلك­ة، فتفــرض علــى قارئهــا فضاء مغايــراً، ولغة نقدية لا تيبــس طراوتها، ولا تجرح معانيها، إذا صح استخدام مصطلح خالدة سعيد، ولا تعنف نصوصها، بالمعنى الذي ذهب إليه الناقد التونســي عبد الدائم الســامي في كتابه، لأن بعــض النصوص تحتــم عليــك «أن تقــرأ وأن تحب مــا تقرأ» وتضعك فــي تأثير من ســطوة النص الذي تقرأ، وهذا ما ينطبق على نصوص الشــاعر الجزائــري الخضــر شــودار، فــي ديوانــه الجديــد: «الجهــة الأخــرى مــن الأشــياء» الصــادر حديثــا عــن دار خطــوط وظــال .2021

يقوم الشاعر الخضر شودار في مجموعته الجديدة بما يشــبه التأســيس لوعي شعري جديــد، وإذا كان قــد انطلــق فــي مســيرته الشعرية بكتابة الشــعر الصوفي، فهو يقوم في ديوانــه الجديد بقطيعة مــع البدايات مع الاحتفــاظ بالروحية الشــفيفة التي تخترق الأشــياء وتعبر الإنســان والأزمنة والحياة، لأن خطابه الشعري، خاصة الجديد، مفتوحٌ على احتمالات التكون في مستويات عديدة. إذ يراسل أدباء حينا، أو يخاطب شخصيات روائية، طيوراً، شجراً، مدناً، أو يناجي ذواتا داخــل ذواتهــا، ويصمت حينــا آخر ويدخل إلــى الأعمــاق، يســكن فــي الكلمــة، تتحول القصيدة امرأة «ترفع حاشية فستانها لتعبر نهرا» أو تتحــول إلى «طائرة ورقية» أو تفتح حقيبتها لتخرج منها سحراً مصيريا للشعر.

»الجهــة الأخــرى مــن الأشــياء» عنــوان يحتم عبورا وســفرا إلى الجهة الأخرى، ربما يكون ســفرا من المعــروف والمرئــي والمكرر، إلى المســكوت عنــه وغيــر المرئي للأشــياء، والأشياء هنا قد تكون الشعر، الحياة، اللغة، الزمــن، المــدن، الأدب، الأدبــاء وســيرتهم، قــد تكــون أيضــاً قبلــة ســاقطة مــن لوحة كليمــت، أو لوحة لفــان غوغ تتنــزه وتخرج إلــى إخوتها الأشــجار. الأشــياء في شــعر الخضر شودار ليســت جامدة، لأنه أنسنها، فصار يخاطــب أرواحهــا، وأرواح من عبروا فيها وبجانبهــا، يتقمصها، يعيش دواخلها،

يقلــب جهاتهــا، يعيــش ذاته فيها، تــارة في زمنها، وتــارة أخرى خارج زمنها، أحيانا في اللغــة، وأحيانا أخرى خــارج اللغة. والعبور هنا قد يأخذ مســرى الدوائر، وربما الترجح علــى حافة القلب ليغدو الآخــر ذاتًا، والقرب والبعد سيان.

بعيــدا من ســطوة الرائج، نرى في شــعر الخضــر شــودار كيــف تتجســد ديناميات الانفتاح من خلال الســفر في روح الأشــياء، في باطن الأرض مفتونا بالحياة التي تجري فــي أعماقها، وفــوق الأرض بالأغصان التي علــت وتاهــت وتشــتت وصادقــت الريــح، بالأمطــار التــي تشــردت، بالأحجــار التــي انتظرت من سكنها.

ربمــا يكــون الاحتفــاء بالعيــش شــعريا علــى هــذه الأرض، أو احتفــالًا بالحياة التي تعبــر في النــاس والأشــياء والطبيعة، حتى «بالعشــب المهمل على عتبات البيوت». وكما أن الحركية تســيطر على القصائد عبر أفعال التحول، كذلك لشــعره ســمة السكون الذي يتأمل الاشياء في سيرورتها، ما جعله قادرا على تأســيس أنماط تحويلية توليدية تتكون انطلاقا من لغته، التي تعرف كيف تنفلت من قيود النسق اللساني، لتنساب في سياق له نســيج تكويني دائم، أكثر مــا تجلى ذلك في خفــة الانفتــاح على أرواح نصــوص ما زالت حيــة في أذهــان النــاس وقلوبهــا، إذ يعود الشاعر كزوربا طفلا في حضن جده، ليخبره بأنــه نجم آخر على هذه الأرض يدور، وأنه لا فــرق بينــه وبــن البحــر والأشــياء، متحدا كنيكــوس كازنتراكي بأوجــاع العالم، «كلما غاب أحد بكيــت/ وكلما عاد بكيــت» وحيناً نــراه يخاطــب ذئب الســهوب، مســتحضراً شخصية ميللر )هاري هال( لهيرمان هيسه، ليصف حاله مــن الوحدة مع الكتاب والفراغ والثلــج، وقــد «أضاع مــا يجعــل حياته أقل حلكة» أو حين يتماهي مع الشاعرة البولندية شيمبورسكا، هو الشــعر الحي «كي لا تبقى الأيام أسماء أخرى للألم.»

وربما لا نســتطيع أن نقرأ شــودار بمعزل عــن نصــوص فرناندو بيســوا فــي أقانيمه المتعددة، «كل يوم أخرج أتســكع بالمدينة مع نفســي، في شــخوصي الكثيــرة وبكثير من الأريحية نتفرق مثل غرباء في الطرقات، على الأرصفة والمسارح ومقاعد العراء والبارات.. لا أحد منا يشــبه الآخر.. ثم يعودون مســاء مثل مشــردين إلى مأوى ليتقاســمو­ا غرفهم فــي داخلــي، وأقضــي معهــم ليلــة أخرى؛ أعترف وأبكــي وأقف على الجســور وأدور حول نفســي من طابق إلــى طابق» أو ربما لا يمكن أن نقــرأه بعيدا عن بروســت في زمنه الضائــع، أو«ريلكه في كونه ضيفا دائما في قصور العزلة» وغيرهم.

هــذا الانفتاح على روح نصوص الآخرين، قــد يتخذ شــكلاً من مشــاركة العالم خرائب حياة الإنســان، أو شــكلا آخر من بنيانه في كل زمان ومكان، زاهدا باللغة، كاشفا سرها فــي خبايــا إحالاتهــا وتراكمــات رموزهــا، وهذا مــا يتطلب من الشــاعر ثقافــة عميقة، راكمها في مســيرته الأكاديمية، أو ترجماته الكثيــرة مــن الشــعر الأمريكــي والأوروبي، آخرهــا ترجماته لمختارات مــن دواوين لويز غلــك الحائزة جائــزة نوبل فــي الآداب هذا العام، وكذلك ترجماته لآلان بوســكيه وأنيز كولتــز وآخرين، وهنا لا بد من الإشــارة إلى مساحات مشــتركة بينه وبين سركون بولــص، فــي انفتــاح نصوصهمــا الشــعرية وتفاعله مع الشعر الأجنبي ورمــوزه، الأمريكي تحديــداً، كونهما عاشا في أمريكا، والخضر شودار ما زال يــدرس في جامعاتها، واشــتغلا فــي الترجمــة بالروحيــة عينهــا، إذ صــرّح ســركون أكثــر مــن مــرة في حوارتــه: «جمة الشــعر تكمــل مهمة الشــاعر» وكان لهذا الأمر انعكاســاً واضحــاً فــي تجربتهما الشــعرية، وهذا يحتاج إلى دراســة على حدة. لكــن مــا يجمعهمــا أنهمــا جعــا لحظات الخطاب الشــعري جديدة وتوليديــة وفاعلة، بمنــأى عن فخ الأنساق المتداولة.

في عناوين أقسام هذا الديوان، يأتــي اســتهلال القســم الأول بعنــوان «ألا تنتمــي إلــى العالم» عتبــة تبــرر القطيعــة بــن عالــم الشــاعر الذاتي والآخرين، يليها اقتبــاس مــن ســيزار باييخــو، يحيــل إلــى مــوت الشــاعر عن

واقعــه ليحيا في اللغة، في المعنــى، «أنا على العمــوم لا أملــك ســوى المــوت لأشــرح لكم معنى حياتي» لينطلق في مســرى العيش من الطفولــة إلى النضــج في هذا العبــور المؤقت للحيــاة، مشــتتا ذواته فــي كل مــكان يترك خرائبه فيه، ناظرا إلى الحياة كســيرك، لا بد من أن ينتهي في مكان ما، ووقت ما: «ما هم أن أترك الحياة /تموت من تلقائها كما جاءت؟/ كمن لا يذهب إلى موعد انتظره طويلاً/ يخرج من بيتــه ولا يعود أبدا/... هــذا الحزن إذن/ على شــعرة تســقط من رأس العالم». تسكن في شعر الخضر شــودار الفطرة في التوحد بــكل أوجــاع العالــم وأفراحه، وربمــا تأخذ طابــع اللاجــدوى، كذلك نبل الإنســاني­ة في مــرآة كمالهــا، ورهافة الطفولة فــي التماهي بعالــم صورتــه ببراءتها: «أعــود كالأطفال.. يكفــي أن يقــول أحدهــم «ماء» /كــي أذوب وأتدفــق». وكأنــه يؤمن بأن للكلمــات عوالم ســحرية تمتلك فاعلية التحويــل إلى كائنات حية لها صوتها المعبر عن حالاتها وفصولها. ففــي اليوميــات، أي القســم الثانــي، يغــدو

الشاعر شجرة،

‪Volume 32- Issue 10227 Wednesday 7 April 2021‬

 ??  ??

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Kingdom